22 نوفمبر، 2024 7:40 م
Search
Close this search box.

ثوابت نظام المرجعية الشيعية ومتغيراته

ثوابت نظام المرجعية الشيعية ومتغيراته

لم يكن المجتمع الشيعي يوماً بدون مؤسسة دينية اجتماعية مستقلة عن المؤسسة الدينية الرسمية للدولة غير الشرعية. ففي عصر الأئمة كان الإمام هو رأس هذه المؤسسة، وكان مسجده أو بيته هو حوزته العلمية ومقر مرجعيته الدينية والدنيوية، وفيها يحضر تلاميذه، و يأتي إليه شيعته للتقاضي ولحل مشاكلهم العامة والخاصة، ومنها ينطلق في رعاية الشان العام. وكان للإمام وكلاء ومعتمدون في جميع بلاد المسلمين، وعبرهم كانت تصله الاستفتاءات والأسئلة الدينية أو الأسئلة ذات العلاقة بالشأن العام، كما ترسل إليه الأموال الشرعية من أتباعه؛ لتكون القوام الإقتصادي المستقل لمذهب أهل البيت، بعيداً عن الدولة وسطانها وتأثيراتها الإجتماعية والسياسية.
وبعد انتهاء عصر الإمامة؛ استمر النظام الديني الإجتماعي الشيعي، بقيادة زعماء الشيعة الدينيين في بغداد ابتداءً، ثم قم والنجف. وبات الفقيه المتصدي هو الزعيم الديني والمرجع الإجتماعي والقضائي للشيعة. ويمارس هذه الزعامة والمرجعية عبر الفتاوى والأحكام، وعبر مؤسسة الحوزة العلمية وفروعها، وعبر الكتب والدراسات، وعبر شبكة الوكلاء والمعتمدين والمبلغين في جميع بلدان المسلمين، وعبر دكة القضاء، وعبر شبكة مصادر الأموال الشرعية التي يمثلها تجار الشيعة غالباً.
هذه المنظومة المستقلة المتكاملة علمياً ودينياً واجتماعياً ومالياً؛ هي التي حفظت الشيعة كأفراد وكجماعة على طول التاريخ، كما حفظت تراث أئمة آل البيت، وخلقت للشيعة كياناً اجتماعياً دفاعياً منظماً؛ بالرغم من كل محاولات الإجتثاث والتمزيق والقمع والتصفية التي قام بها الحكام الطائفيون منذ سقوط دولة الإمام الحسن بن علي وحتى الآن.
المؤسسون الثمانية للمنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية
وإذا كان هناك فضل لزعماء وفقهاء في تأسيس هذه المنظومة؛ فلا بد من الإشارة الى ثماني شخصيات مؤسِسة، تميزت بذكائها الإجتماعي الفائق، وعبقريتها الإدارية والتنظيمية؛ فضلاً عن مستواها العلمي المتفرد، وهم:
سفراء الأمام المهدي الأربعة: الشيخ عثمان بن سعيد العمري والشيخ محمد بن عثمان العمري والشيخ الحسين بن روح النوبختي والشيخ علي بن محمد السمري، وهم الذي وضعوا حجر الأساس للمنظومة الشيعية الدينية الإجتماعية خلال عصر الغيبة الصغرى (260 ـ 329 هـ) وتزعموها.
الفقهاء الأربعة: الشيخ محمد بن علي الصدوق و الشيخ محمد بن محمد المفيد والسيد علي بن الحسين المرتضى والشيخ محمد بن الحسن الطوسي، وقد استمروا بعملية التأسيس وزعامة المنظومة خلال الفترة من 329 وحتى 460 هـ.
وكان يدعم مسيرة الفقهاء الأربعة؛ الحكام البويهيون، وخاصة ركن الدولة البويهي و معز الدولة البويهي و عضد الدولة البويهي والصاحب بن عباد، والذين حكمت دولتهم البويهية ايران والعراق في الفترة من 324 الى 449هـ.
وعليه؛ يمكن القول أن المرحلة الأولى من عملية التأسيس التي قادها السفراء الأربعة استمرت حوالي (70) عاماً. أما مرحلة التأسيس الثانية، والتي تمثل فترة الظهور الذهبية الاستثنائية للمنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية؛ فقد استمرت حوالي (125) عاماً، وخلالها كان الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي يتزعمون الشيعة، ويتلقون الدعم والحماية وتسهيل أعمالهم الدينية والعلمية والدعوية والاجتماعية من الحكام البويهيين الشيعة. أي أن مجموع فترة تأسيس المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية (مرحلة ما بعد الإمامة)، استمرت مايقرب من (195) عاماً.
الزعماء الثمانية المذكورون (السفراء الأربعة والفقهاء الأربعة) هم خمسة عراقيين وثلاثة إيرانيين، ولولا جهودهم الإستثنائية وحماية الأسرة البويهية الشيعية الحاكمة في العراق؛ لكان للتشيع وضع آخر مختلف تماماً. ولذلك فعندما سقطت الدولة البويهية في بغداد في العام 449 هـ ، ثم هاجر الشيخ الطوسي الى النجف وأسس حوزتها العلمية المركزية، ثم توفي في العام 460 هـ ؛ كانت المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية قد تبلورت وتجذرت وقوي بناؤها، ولم تتأثر بسقوط الدولة البويهية الشيعية ووفاة شيخ الطائفة.
ثوابت نظام المرجعية
المرجعية الدينية في مدرسة أهل البيت؛ تمثل امتداداً موضوعياً للإمامة في عصر غيبة المعصوم، وما يترتب على ذلك من مسؤوليات وحقوق و واجبات علمية ودينية واجتماعية ومالية تقع على عاتق المرجع الديني. وعلى أساسها تكون للمرجع الديني بصفته النوعية؛ ولايةً حصرية على جملة من شؤون المجتمع الشيعي؛ كالولاية على إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية، والولاية على الحقوق والأموال الشرعية؛ جباية وتوزيعاً؛ كالخمس والزكاة والصدقات ومجهول المالك وغيرها، والولاية على القضاء والتحكيم بين أفراد المجتمع، والولاية على الأمور الحسبية والنظام الاجتماعي العام. ويتوسع بعض الفقهاء في إعطاء مساحة أوسع للفقيه؛ لتشمل الولاية على الحكم والدولة. ومرد الخلاف بين الفقهاء بشأن ولاية الفقيه هي هذه المساحة فقط.
وبالتالي فإن المرجعية الدينية وولاية الفقيه مصطلحان مرادفان؛ فكل مرجع هو ولي فقيه أيضاً؛ بناء على إجماع الفقهاء، ولكن هناك ولي فقيه ذو مساحة مقيدة تقتصر على الفتوى والأموال والقضاء والحسبة، ولا تشمل الحكم، وهناك ولي فقيه ذو مساحة عامة تشمل ولاية الحكم أيضاً. وهذه الشمولية لا يختارها الفقيه بناء على رغبته الشخصية أو رؤيته السياسية؛ بل هي قضية علمية فقهية؛ يتوصل إليها الفقيه عبر الاستدلال والاستنباط العلمي الفقهي. وخلال هذا الجهد العلمي قد يتوصل إلى شمول ولاية الفقيه على الحكم أو لا يتوصل. وحينها يحدد موقفه الواقعي حول نوعية تصديه للشأن العام؛ أي بناء على قناعته العلمية الفقهية.
وبصرف النظر عن القول بالعموم والخصوص؛ فإن المرجعية الدينية الشيعية ظلت منذ حوالي 1200 عام؛ أي منذ غيبة الإمام محمد بن الحسن المهدي المنتظر؛ تقف على رأس النظام الديني الاجتماعي الشيعي، وهي التي أوجدت هيكلية هذا النظام بالتدريج وبلورته، وحفظت من خلاله الشيعة من الضربات المتوالية والإنهيار. وتشكل الحوزة العلمية الشيعية مركز هذا النظام؛ فهي ليست جامعة لتدريس العلوم الإسلامية وتخريج علماء الدين وحسب؛ بل هي مركز النظام الديني الاجتماعي الشيعي. ولذلك يقف المرجع الأعلى على رأس الحوزة العلمية والنظام الإجتماعي الديني الشيعي، ويقودهما على كل الصعد.
إن النظرة إلى المرجعية الدينية تتجاوز القناعات الفكرية والاجتماعية والسياسية؛ لتندك بالواقع ومتطلباته. وأهم قواعد هذا الواقع:
إن المرجعية الدينية العليا ليست مرجعية علمية فقهية وحسب؛ بل هي منظومة دينية اجتماعية، تقف على رأس النظام الديني الاجتماعي للطائفة الشيعية الإمامية في العالم. ولهذه المنظومة معادلات ثابتة وسياقات عمل ونظم فرعية وتقاليد؛ أهمها الموضوع العلمي الديني المرتبط بالفتوى، والموضوع الإجتماعي الديني المرتبط بإدارة الشأن العام الشيعي وحفظ النظام العام. ويترشح عن هذه القاعدة ثلاث قواعد فرعية:
إن المرجعية وحوزتها هو الوجود الأصيل والثابت والجوهري الوحيد في النظام الديني الاجتماعي الشيعي منذ بداية عصر الغيبة وحتى الآن.
إن الوجودات والكيانات الشيعية الأخرى، سواء كانت سياسية أو علمية أو اجتماعية أو علاقاتية؛ مهما بلغ شأنها؛ هي وجودات عارضة متغيرة، ولا يمكن أن تتساوي مع المرجعية الدينية في الشأنية الدينية الإجتماعية والمعنوية و مساحات العمل والتصدي.
إن الإطار الذي ينبغي أن يضم جميع الكيانات الشيعية الفرعية العرضية، هو إطار النظام الديني الاجتماعي الشيعي الذي تقوده المرجعية العليا. وفي داخل هذا الإطار تكون علاقة الكيانات الشيعية بالمرجعية الدينية هي علاقة المتغير بالثابت، والفرع بالأصل، والتابع بالمتبوع.
إن منظومة المرجعية الدينية بطبيعتها هي منظومة تقليدية في بناها وأساليب عملها وحركتها. اما المحاولات الاصلاحية في الحوزة فلم تلامس ثوابت هذه المنظومة يوماً، ولن تستطيع ملامستها؛ بل تلامس التفاصيل والمتغيرات. وما حركات المراجع المصلحين المعاصرين في الحوزة النجفية و القمية وغيرهما؛ إلّا موجات وتيارات تأتي وتؤسس، ثم يبقى منها ما يتوافق مع ثوابت المنظومة المرجعية التقليدية. وهو ماينطبق على المشاريع الإصلاحية التأسيسية المعاصرة في حوزة النجف في عهد مرجعية السيد محسن الحكيم، وكذا ما أنجزه الشيخ محمد رضا المظفر والسيد محمد باقر الصدر.
وحتى منظومة ولاية الفقيه؛ بالرغم من قوتها المعنوية والمادية، وكونها أكبر مرجعية دينية في إيران؛ فإن تدخلها في منظومة الحوزة ظل مقتصراً على التوجيه ومأسسة النظم الفرعية العامة، ولم تتدخل في الثوابت التقليدية لمنظومة المرجعية ونظمها الخاصة؛ فبقيت المنظومة تقليدية في ثوابتها، ومنظمة ومؤسَسِية في متغيراتها، ومستقلة في شأنها الإداري والمالي.
إن المرجعية تمثل دائما الأبوّة لكل الوجودات الثقافية والسياسية والاجتماعية الشيعية؛ وإن كان بعضها ناقداً للمرجعية أومتمرداً على جزء من ثوابتها ومتغيراتها، أو كانت المرجعية لا تتوافق منهجياً مع هذه الوجودات المتغيرة العارضة. وبالتالي فالمرجعية العليا هي (أم الولَد) التي تستوعب أبناءها وتحتضنهم وتخشى عليهم الضرر، وتعمل على الحؤول دون إنكفائهم خارج المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية؛ وإن أخطأوا بحقها أو بحق الواقع الشيعي.
تجديد بُنى نظام المرجعية
العوامل الجديدة التي تدخل ـ بمرور الزمن ـ في بناء الحياة، والتغيرات العامة، ولا سيما الإجتماعية والسياسية والعلمية؛ تستتبع ـ عادة ـ تحولات في المفاهيم والمصطلحات والبنى التقيلدية المتحركة. وتتناسب مديات الحاجة إلى هكذا تغيير وتجديد، طردياً مع حجم التحوّل والتغيّر، مع الأخذ بنظر الاعتبار ثبات المفاهيم والبنى التي تعبّر عن هوية الأمة وأصالتها.
وربما بقي بعض المفاهيم والبنى بمنأى عن هذا التحول، بفرض عوامل معيّنة، ربما يكون أحدها حالة القدسية الموروثة التي تتمتع بها. ولكن التفاصيل التي استنبطت في زمن معيّن، وفي ظروف معيّنة، أو رعاية لمصلحة موضوعية؛ لا يعني أنها مقدسة، ولا يمكن مناقشة مضامينها ونظمها، وعدم إخضاعها للحوار العلمي الجاد. و إذا كانت مفاهيم “المرجعية الدينية” و”نيابة الإمام المعصوم” و”ولاية الفقيه” و”الإجتهاد” و”التقليد” و”الرجوع الى رواة الأحاديث” و”الإحتكام الى الفقيه” في المذهب الشيعي من ثوابت عصر الغيبة (غيبة الإمام الثاني عشر)، التي تقود إليها الأدلة الشرعية والعقلية؛ فإن بناها وتفاصيلها تظل دائماً من المتغيرات، التي يُعَدّ النظر في نظامها الموروث وحركتها التقليدية، ثم تعديلها وتطويرها ضرورة ملحّة، تمليها متطلبات الواقع والمستقبل.
والإحساس بهذه الضرورة حمل الكثير من الفقهاء المتأخرين والباحثبن المتخصصين، على إضافة مصطلحات جديدة لتوضيح مدلول المرجعية المعاصرة، ومحاولة إعادة تنظيم بنائها، ومنها “المرجعية الرشيدة” و”المرجعية الموضوعية” و”المرجعية القائدة” و”المرجعية المؤسسة”. وهذا يعني أن منظومة المرجعية، فيها كثير من المرونة.
والمقاربة التي نحن بصددها هو تصوّرات عامة في الطريق. أما الحوار العلمي التخصصي حول شكل المشروع وسبل تنفيذه؛ فهو شأن المعنيين من الفقهاء المجددين وأهل الخبرة. ويتطابق مستوى نضوج المشروع مع حجم وعي المتخصصين بمتطلبات العصر، والتي ينبغي أن لا تؤثر فيه الأجواء الإنفعالية، والميول النفسية المحكومة بظرف معيّن، أو مصلحة خاصة؛ ليكون القرار بهذا الشأن على مستوى المصلحة الإسلامية العليا.
إن من أهم القضايا التي تثار خلال الحديث عن بنى “المرجعية الدينية”:
مأسسة المنظومة المرجعية و متغيرات حركتها الخاصة والعامة، وفقاً للحاجة، بما في ذلك آليات تحديد شروط الإجتهاد الجديد، وكيفية الكشف عن مصاديقه وشخوصه، وفرز مراجع التقليد، و اختيار المرجع الأعلى.
سياقات علاقة المرجعية العليا بولاية الفقيه ومرجعيات التقليد والفقهاء في البلد نفسه والبلدان الأخرى، في إطار منظومة مرجعية واحدة.
تجديد هيكلية الحوزة العلمية ومناهجها الدراسية ومراحلها.
الحقوق الشرعية (كالزكاة والخمس وغيرهما) والولاية عليها وحق التصرف فيها.
تطور المصطلحات والمفاهيم في نظام المرجعية
تعود جذور منظومة المرجعية الدينية في مذهب أهل البيت، إلى بداية عصر غيبة الإمام المهدي وظهور عصر المحدثين والفقهاء، والذين تزعموا النظام الديني الإجتماعي الشيعي (كما أشرنا سابقاً). وقد مرّت المنظومة ـ حتى الآن ـ بثلاث مراحل رئيسة:
الأولى: مرحلة النيابة الخاصة (السفراء الأربعة).
الثانية: مرحلة النيابة العامة (المحدثون والفقهاء).
الثالثة: مرحلة النيابة العامة في ظل حكم الفقيه.
وإطلاق اصطلاح “المرجعية” لا يعود إلى زمن بعيد؛ فالفقهاء السلف كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي والعلامة الحلّي وانتهاءً بالشيخ الأنصاري؛ لم يكونوا يحملون هذا العنوان؛ بل يحملون توصيفات “زعيم الشيعة” و”شيخ الطائفة” و”الشيخ الأعظم”. وقد تمت صياغة “المرجع الديني” والمرجع الأعلى” في فترة متأخرة لضرورات تدبيرية تنظيمية، بالاستفادة من جذر لغوي للاصطلاح، يعود الى فعل الأمر ((إرجعوا)) في رواية (( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم))، كما ورد في حديث الناحية المقدسة (الإمام المهدي). ويعني الرجوع إلى المتخصص راوي الحديث والعارف بمقاصده، أي الفقيه، في كل الحوادث والوقائع التي تحتاج الى معرفة رأي الشريعة فيها.
أما اصطلاح “التقليد” الذي كان له وجود سابق على عصر الإجتهاد في مذهب أهل البيت؛ فإنه يعود الى حديث الإمام الحسن العسكري: ((فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه)). ومن خلال الاستفادة من الكثير من الأحاديث الشريفة الأخرى؛ كحديث: ((العلماء حكّام على الناس)) للإمام علي، ورواية عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق حول جعل الفقيه حاكماً على الناس ((من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا؛ فليرضوا به حكماً؛ فإني قد جعلته عليكم حاكماً))، والمقصد العام الصريح لهذه الأحاديث يتلخص في وجوب رجوع الأمة إلى المتخصصين في الشريعة (الفقهاء، أهل الذكر، العلماء، رواة الحديث) في أمور دينهم أو معرفة رأي الدين في أمور دنياهم؛ بصرف النظر عن الخلاف حول مستوى سندية هذه الأحاديث أو طرق الكشف عن مصاديقها.
وهكذا برز وجود مرجعية الفقهاء، مجسداً للزعامة الشيعية، ثم لحركة الاجتهاد والتقليد، وبات موقع الفقيه المرجع يمثّل الولاية العلمية والزعامة الدينية الإجتماعية في عصر غيبة الإمام المهدي، والامتداد الشرعي لخطي النبوة والإمامة، وله الحجية في الفتوى والقضاء والحسبة وتداول المال الشرعي، ويوسعها فقهاء آخرون الى الحجية في موضوع الحكم. وهذه الأمور والمفاهيم ليست معقدة ولا غيبية؛ بل لها تاريخ مدوّن واضح، سواء في الكتب الحديثية والرجالية أو في المدونات التاريخية.
و”التقليد” في فروع الدين (الأحكام الشرعية الفرعية)؛ ضرورة عقلية لامهرب منها؛ قبل أن تكون مشروعة نقلياً وروائياً. وبعيداً عن الأراء الرافضة؛ سواء التخصصية التي كانت تطرحها المدرسة الإخبارية دون أن تطبقها، أو الآراء الإنفعالية غير المتخصصة؛ فإن التقليد يعني بكل بساطة الرجوع الى رأي المتخصص في أحكام الشريعة حصراً، وليس في جانب العقيدة، كرجوع الناس الى الطبيب المتختص أو المهندس أو الفيزياوي. وكما أن للطبيب ولاية على الفتوى الطبية فإن للفقيه ولاية على الفتوى الشرعية. أما الجانب الديني العام المنعلق بالتقليد؛ كمسؤولية الفقيه تجاه الأمور الحسبية والقضاء بين الناس؛ فيرتبط في الموقع الذي وضعت فيها أحاديث أئمة ال البيت، أما المسؤولية تجاه المال الشرعي فهي مسؤولية تنظيمية جعلية.
بل المفارقة أن الآراء التخصصية التي ترفض الإجتهاد والتقليد، وتحديداً رأي المدرسة الإخبارية؛ نراها تطبق عملياً وحرفياً منظومة الإجتهاد والتقليد، وإن رفضتها نظرياً؛ بل حوّلت منظومتها المرجعية الى نظام مؤسسي أبوي رعوي محكم وقوي؛ فتوائياً وإدارياً ومالياً؛ بما يفوق منظومة المدرسة الأصولية الإجتهادية التي باتت تمثل الخط العام للمرجعية الدينية منذ عهد المرجع الأعلى الشيخ الوحيد البهبهاني. بل ما يلفت النظر أكثر؛ أن بعض الذين يطرحون أنفسهم كمراجع مجددين وينظِّرون بكل حماس لرفض التبعية الشرعية للفقية أو المرجع الأعلى، والتشكيك بشرعية بعض الأموال الشرعية (كالخمس مثلاً) ورفض تنظيمها من قبل المرجع؛ فإن هؤلاء المجددين يمارسون عملياً كل سياقات العمل المرجعي التقليدي ويستلمون الخمس والأموال الشرعية من مقلديهم ويصرفونها في مواردها المذكورة في باب الخمس.

أحدث المقالات