18 ديسمبر، 2024 11:17 م

أنهم يحرقون سرڤيتوس

أنهم يحرقون سرڤيتوس

وهم متوجهين به، الى ساحة الاعدام، تلك الساحة التي زُهقت فيها ارواح مئات الافذاذ، ظلمًا وجورًا، من الاحرار ودعاة الحياة الكريمة، وارباب العقول النيّرة، أنها ساحة الموت، التي عادة ما كانوا يقضون فيها على خصومهم، ممن يتهمونه بالهرطقة أو بالمروق عن معتقداتهم، والمخالف لآرائهم.
طلبوا منه، قبل تنفيذ الحكم، أن يعترف بجريمته!، جريمة الهرطقة (هو قطعًا غير مهرطقا) حتى ينال، فيما بعد، رحمة الله!. وتهمة الهرطقة كافية لمن تلصق به، أن يكون الموت جزاؤه.
فكان جوابه: “أنا لست مذنباً ولم أكن أستحق الموت”.
وابتهل إلى الله أن يغفر لمن اتهموه.
تهمته، أنه يتعاطى البدع ويصرّ على إنكار عقيدة الثالوث وفردية الأشخاص الثلاثة القدسيين في الإله الواحد، كما يدعون. أي أن الشعارات القدسية، والتي كانت توضيحاً لله ولم تكن شخصية قدسية منفصلة، وحدت لإنسان، وهو السيد المسيح، عندما جاءت روح الله إلى مريم العذراء. من ذلك المفهوم فقط يخلق الابن في الحقيقة. لذا فإن الابن لم يكن أبدياً، ولكن الشعارات التي منها تشكل أبدية.
هكذا، كان سرفيتوس يعتقد. بل هو مؤمن بذلك.
والرأي هذا، بحد ذاته جريمة لا تغتفر!، هكذا كانت السلطة الدينية تفكر، فمحاكم التفتيش لا تُرحم، والتي كان بيدها زمام الامور، فهي ظل الله في الارض، وهي الحاكم بأمر الله، والقائم بأمر الله، بل هي الناطق الرسمي بما يريد ويروم الله!!.
*************
ولد ميخائيل سيرفيتوس في إسبانيا، عام 1511 في اسرة مسحية متدينة. وامتاز منذ صغره بموهة عظيمة للتطلع والميل الى تعلم اللغات، وشب لا كما يشب الآخرين فدرس العبرية، واليونانية، واللاتينية.
كان لسيرفيتوس أخوين: أصبح الأول كاتب عدل مثل أبيه، وكان الآخر كاهناً كاثوليكياً. اما هو فتخرج كطبيب بالإضافة الى دراسة اللاهوت، ونشر عدة كتب حول الطب وعلم العقاقير.
كذلك، أنه قرأ التوراة بلغاتها الأصلية من المخطوطات التي كانت متوفرة في ذلك الوقت، وهذه القراءة لابد أن يكون لها خصوصية. وحضر جامعة تولوز لاحقاً في عام 1526 حيث درس القانون. وفي عام 1553 نشر عملاً دينياً يحتوي على وجهات نظر مخافة للثالوث، الامر الذي أودى الى حبل المشنقة. ومن مكتشفاته أنه سبق الطبيب الإنجليزي ويليام، بمدة قرن من الزمن، الى اكتشاف الدورة الدموية. وفي عام 1529، سافر سيرفيتوس إلى ألمانيا وإيطاليا مع كوينتانا، الذي أصبح بعد ذلك كاهن اعتراف تشارلز الخامس في الحاشية الإمبراطورية.
**********
اشتد حنق رجال اللاهوت على سيرفيتوس، وشعروا بمكامن الخطر التي يطرحها هذا الرجل، اطروحات تشكل عقبة في طريق مصالحهم وعلى معتقداتهم، فهو برأيهم يتحدى تعاليم الانجيل صراحة ويخالفها متعمدا، بل أنه يعلن زندقته على الملأ، فقرروا محاكمته والتخلص منه، وهذا هو دأبهم لكل مخالف ممن يتعرض لتعاليم الدين بسوء!. الا أنه بقرارة نفسه يعلم أنهم هُم من اساء الى الدين، وبالخصوص للسيد المسيح، وللتسامح الذي رفعه شعارا له. لكن هذا لا يكفي، طالما أن السلطة القائمة بيدهم، والامر يعود لهم، وهم من يقرر، من الذي يطبق تعاليم الانجيل ومن الذي يخالفها صراحة. وهل الدين يعني مصادرة رأي، وهضم حقوق وتعطيل واجبات؟، وتعاليم الدين هي المفروض أن تقوم بتربية الانسان، تربة صالحة، سيما اذا كانت هذه التعاليم نابعة من مصدر صحيح، إله يريد أن تسُعد البشرية، وأن يسري الاطمئنان في قلوب الجميع.
****************
القي القبض على سرفتوس وزجوه في سجن قذر، ومنعوا عنه حتى مياه الاستحمام، فتسلط عليه القمل، الذي راح، بدوره، ينهش بجسده الطري. كعقوبة نفسية. وسمحوا له فقط بإدخال الورق والحبر الى زنزانته، ولأي كتب يعن له شراؤها، وأعاره كالفن (خصمه اللدود) بضعة مجلدات بقلم الآباء الأوائل. وأديرت المحاكمة بعناية واستمرت ما ينوف على شهرين. وكان جون كالفن رائد ما يسمى بحركة الإصلاح البروتستانتي!، الرجل المتزمت العنيد خصم سيرفيتوس، وهو رجل لاهوتي متشدد، وينتقم من خصومه بشكل عجيب.
****************
أوثقوه إلى سارية بسلاسل حديدية، وهو كالطود الاشم، ورُبط إلى جانبه كتابه الأخير، واشعلوا فيه النار. وعندما بلغت ألسنة اللهب وجهه صرخ من الألم. ومات بعد حرقه بنصف ساعة. ليصبح ذلك الجسد، الذي حمل كاهل انسان أخذ عهداً على نفسه، أن ينير الناس بفكره، ويخدم البشرية بعقله، ويدافع عن الحق بلبه، ويحارب الجهل والخرافات والخداع، بكل ما أوتي من قوة.
وكان تنفيذ الحكم في صباح اليوم التالي يوم 27 أكتوبر عام 1553 على تل تشامبل الذي يقع مباشرة جنوبي مدينة جنيف.
مصادر المقال:
(1) https://www.marefa.org
(2) الموسوعة الحرة.