لا ريب أن الثورة العلمية والتقنية والمعلوماتية، التي شهدها العالم مؤخراً ، أفرزت الكثير من المعطيات الإيجابية ، لعل في مقدمتها تقليص المسافات، واختزال الزمن، واختراق الحدود بين الدول،مما أتاح الفرصة أمام حرية حركة الأفراد، والأموال، والسلع، والمعلومات،والتقنيات، بيسر وسهولة،ودون قيود، في قفزة نوعية، لم تكن معهودة في عالم اليوم، من قبل، بحيث أضحى العالم اليوم قرية كونية واحدة.
وفي ظل هذه التطورات المتلاحقة ، فقد سارعت مراكز المال الكبرى، والاحتكارات الدولية، في الدول الصناعية، لتوظيف معطيات العولمة المفتوحة لصالحها، والإنتفاع منها في كل المجالات المتاحة للتعامل ، وفي المقدمة منها بالطبع، الاقتصاد، بما اتاحته من حرية السوق، وتيسير سبل انتقال الأموال، وتبادل السلع، والمعارف بين الدول،حيث شرعت تلك المراكز تنظر إلى كوكب الأرض برمته كسوق واحدة، مفتوحة أمام بضائعها بلا قيود ، في ضوء ما افزرته الثورة التقنية والمعلوماتية من وسائل اتصال، وتسهيلات، ألغت كل المعوقات والحواجز ، لتصب في صالحها بالدرجة الأولى.
وقد أتاحت تلك المعطيات للمؤسسات المالية الدولية، التي تهيمن عليها الدول الصناعية الكبرى،كالبنك الدولي ، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية( الكات)، فرصة مثالية، لإعادة صياغة، وتنظيم الاقتصاد العالمي، والتحكم في رسم السياسات الاقتصادية للدول النامية، والفقيرة بشكل خاص، بما يخدم مصالح تلك المراكز على نحو لا مثيل له .
وهكذا أدت ظاهرة العولمة الاقتصادية الراهنة ، إلى هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات، على اقتصادات البلدان النامية، من خلال الاستحواذ على مواردها المعدنية وخاماتها المحلية، والتحكم في أسعار ما تطرحه لأسواقها من سلع مصنعة، وتصفية نشاطات المصانع، والشركات الوطنية، مما أدى إلى تعطيل ، وتصفية الكثير منها، وتسريح العاملين فيها، الأمر الذي خلق بطالة سافرة في تلك الاقتصادات الناشئة، وعطل العمل في كثير من المجالات.
وتجدر الإشارة إلى أن ما تقدم من تداعيات ، يمكن تلمسه في منعكسات إيجابية لصالح عولمة الاقتصاد ، تجسدت في تركز الثروة، وتراكم عوامل القوة الاقتصادية، والتفوق الصناعي، وهيمنة صناعة المعلوماتية، في أسواق دول المراكز الصناعية الكبرى بشكل واضح، في مقابل ما أفرزته من حالة سلبية، تجسدت بعولمة افقار حاد ، وتدني اداء ملموس في اقتصادات البلدان النامية ،فلم يعد لها ثمة فرصة سانحة للحضور المقتدر ، والمنافسة المتكافئة، حتى بمعايير الميزات النسبية، في ساحة عولمة اقتصادية جامحة، تهيمن على فضائها ، الشركات العابرة للحدود، وتمسك بتلابيبه بكل سطوة .
وهكذا ، أصبحت العولمة الاقتصادية، بما هي ظاهرة هيمنة في عالم اليوم،مدعاة للإمتعاض، بما تمنحه من فرص تراكم الأرباح، ومضاعفة فائض القيمة لمالكي الرأسمال، وأصحاب القدرات العلمية والتقنية الرديفة ، آلية فعالة بيد الدول الصناعية الكبرى، وشركاتها العابرة للقارات، في سواءً في الصراع الدائر فيما بينها على المصالح، أو في ممارسة الضغط على البلدان النامية ،بل وحتى البلدان الواعدة في الفرصة، بقصد ارغامها على التكيف، ومجاراة ما تمليه عليها من سياسات تبعية جائرة، تخدم مصالحها، وتضاعف من أرباحها،وتراكم ثراءها، على حساب افقار اقتصادات تلك البلدان ، وخلخلة بناها الاجتماعية، والهيمنة على مقدراتها السياسية، وما تسببه لها من اضطرابات، وعدم استقرار .
ولعل تفجر جائحة وباء فايروس كورونا، بهذا الشكل المأساوي المرعب مؤخراً، والذي انطلق من الصين منذ اكتشاف الفيروس فى أواخر العام ٢٠١٩، ليجتاح العالم كله، ورغم كل ما يلف أسباب انتشاره من غموض مريب حتى الآن، إلا أن الاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية ، قد تشي بشكل أو آخر ،بان الفايروس ربما يكون ناجما عن ما يشبه حربا جرثومية غير معلنة بينهما، كما يرجح البعض. فالصين من جانبها اتهمت جنودا امريكان، بإدخال الفايروس إليها، بينما اعتبر الامريكان من جانبهم، انه فايروسا صينيا، وعبروا عنه بفيروس الصين، امعانا منهم في وثوقية الإتهام .
وبغض النظر عما إذا كان الفايروس قدرا محتوما، وأنه انتشر بشكل طبيعي، أم أنه كان مستحدثا، ومعدلا جينيا، بقصد التوظيف في الصراع بين القوى الكبرى على المصالح، والاستفادة منه، لأهداف سياسية أو اقتصادية او اجتماعية، فإن انتقال الفايروس السريع من الصين، ليغزوا العالم بهذا الشكل المفزع والمريب، والذي عطل حركة الحياة، وأعجز العالم الصناعي عن الوقاية منه، أو طرح علاج عاجل لمواجهة انتشاره، قد هز قيم الديمقراطيات الغربية المهووسة بحقوق الإنسان، زيفا ، بعد أن مرغ هذا الوباء تشدقها بالقيم والمثل الانسانية، بصديد تداعيات هذه الكارثة المأساوية، وكشف بؤس الانهيار الأخلاقي والاجتماعي، لقيم الهيمنة الاقتصادية الجامحة ، وانحطاط ممارسات الأحادية القطبية المتوحشة.