صاحب هذا الشعار إبّان الثورة المباركة ضد المحتل الفرنسي هو عبّان رمضان، الرجل السياسي المحنك ومهندس الثورة التحريرية الجزائرية إلى الاستقلال والحرية. اتفق زملاؤه ورفاق دربه في النضال السياسي والعمل المسلح(كريم بلقاسم، عبد الحفيظ بوصوف، لخضر بن طوبال) على تصفيته بالمغرب يوم 26 ديسمبر سنة 1957م. السبب شعاره الخالد، أولوية الداخل على الخارج، وأولوية السياسي على العسكري، ويضيف بعض المؤرخين، أولوية المفاوضات على العمل المسلح.
مع إعلان الاستقلال، تدخل قوات الحدود (حوالي عشرين ألفا أو يزيد من الجنود الجزائريين المرابطين بالتراب المغربي على الحدود الجزائرية) بقيادة الراحل هواري بومدين وتتوغل في التراب الوطني، وتتجه نحو العاصمة، فتطيح بالحكومة المؤقتة آنذاك، المنتخبة شرعيا، وتنصب نفسها حكومة على الشعب الجزائري، وتصيغ دستورا على المقاس داخل قاعة السينما الأطلس حاليا. ومنذ هذا التاريخ لم يعرف للجزائر حكومة مدنية منتخبة بشكل حر ونزيه، وتدخل الجزائر نفقا أشدّ ظلمة من الفترة الاستعمارية.
لا أريد لهذه المقالة أن تغور في أحداث تاريخ هذه المرحلة، لا سيما وأنّ أرشيفها لم يحرر للمؤرخين والباحثين من أجل إزالة الكثير من الغموض الذي ينتابها، وإنما أريد الوقوف عند بعض الأفكار التي طرحت منذ الخمسنات من القرن الماضي وما زالت تطرح نفسها وبشدة أيّامنا هذه، وكأنّ التاريخ عند الجزائريين والعرب بصفة عامة،بقي مسجونا بإحدى غرف التعذيب داخل إحدى معسكرات الاعتقال، وما أكثرها في أوطاننا!
أولوية السياسي على العسكري، هذا الشعار إن بحثنا عنه في قاموس الحياة السياسية العربية لوجدانه مفقودا بل ومحرما توظيفه. ففي الجزائر ما زالت المؤسسة العسكرية هي المسيطرة والمسيرة للشأن العام من وراء الستار، في موريطانيا يحكمها عسكري جاء عن طريق الانقلاب، وكذلك في تونس وليبيا قبل الربيع العربي، مصر التي استبشرت الشعوب العربية خيرا لدخولها بيت الديموقراطية لأول مرة في تاريخها، سرعان ما قام انقلاب من طرف العسكر وأعادوا مصر إلى خط الانطلاق، وحتى الدول الملكية في الخليج والمغرب متحكمة في زمام الحكم بالقبضة العسكرية.
إنّ ما تعانيه الشعوب العربية من جهل وتخلف سببه حكم العسكر للشأن العام، بالرغم ما يتردد هنا وهناك على ألسنة الصحافيين والكتاب المحسوبين على الأنظمة، بأنّ أمريكا والدول الغربية، وإسرائيل ساهمت بشكل كبير في عرقلة نمونا الاقتصادي والصناعي. وقبل ذلك كانت الامبريالية والصهيونية والاستعمار هي سبب الوضع المزري والحالة المأساوية التي نحياها في ظل حكم العسكر ومن يحوم حول حماهم من المرتزقة والوصوليين وأشباه الكتاب والمفكرين.
تفطنت الدول الغربية لهذه المسألة منذ أوائل القرن الماضي، حيث منحت الأولوية للسياسي، وحصرت المؤسسة العسكرية في الدفاع عن الوطن وحفظ الأمن العام، ولا شأن لها في السياسة الداخلية ولا الخارجية للدولة، فكانت النتيجة ازدهار الأمة وتطورها.
كثيرا ما كنت أتساءل عن رفض الدول الغربية القاطع امتلاك الدول العربية للقنبلة النووية، بالرغم من أنّ إسرائيل تمتلكها، فكنت أظن أنّها سياسة الكيل بمكيالين، تحيّز صارخ لإسرائيل، لكن في الأخير أيقنت أنّهم على صواب، فلو امتلكت الدول العربية لهذه القنبلة، فلن يتركوا الكرسي لغيرهم، أو لفجروها على الشعوب الأخرى بغية توسيع سلطانهم. فإسرائيل رغم امتلاكها لهذه القنبلة الفتاكة، فقد تداول على كرسي الحكم عندهم الكثير من الرؤساء، ونفس الشيء لروسيا وفرنسا والولايات المتحدة، لأن الحاكم عندهم سياسي له اليد القوية على العسكري واليد الضعيفة على مجتمعه المدني والقضاء والإعلام.
فأين نحن من هذا الشعار الذي دفع ثمنه عبّان رمضان حياته، وأين نحن من شعار حسين أيت أحمد في التسعينات من القرن الماضي “لا للدولة البوليسية” والذي دفع ثمنه غاليا بالتشويه والاتهام بأنه عميل يعمل لصالح الاستعمار. يموت الأشخاص لكن أفكارهم تبقى حيّة مهما عمل المجندون والطابور الخامس والمحسوبون على الفساد على قتلها ودفنها ناسين أنّ الفكرة كالعنقاء تشيخ وتحترق لكنها تنهض وتعود من تحت الرماد رائعة الجمال.