22 نوفمبر، 2024 10:01 م
Search
Close this search box.

بعد كورونا .. لا سجون للبَشَر !

بعد كورونا .. لا سجون للبَشَر !

في نهاية عام 2019 اجتاح بشر الارض فايروس قاتل وسريع الانتشار اودى بحياة مئات الالوف من سكان مختلف مناطق الارض دون تمييز ، وما زال هذا الفايروس يحصد أرواح البَشَر يوميا حتى ساعة كتابة هذا المقال .

استطاع هذا الفايروس من شل معظم تفاصيل نشاط الحياة البشرية وذلك حينما اضطر سكان الارض الى سَجْن انفسهم في بيوتهم لاسابيع وأشهر تفاديا للمخالطة التي تؤدي الى توسع انتشار الداء القاتل لهذا الفايروس .

الخوف الهائل والمرعب من تواصل انتشار هذه الجائحة لم يستطع منع بشر الارض من الشعور بالآثار القاسية والمتعبة جدا للسجن المحدود والشبه طوعي الذي تَعَرضوا له في بيوتهم رغم ان الكثير منهم لاسيما سُكان الدول الغربية كانوا لا يعانون من مشكلة الحصول على تكاليف معيشتهم او علاجهم خلال فترة انعزالهم داخل بيوتهم بحُكْم الانظمة الادارية المتطورة في هذه الدول الغربية .

احدى ايجابيات هذه الجائحة المؤلمة هي انها تَمكنت مِن مَدّ جسور التأييد لبعض الاصوات المثقفة المحدودة من سكان العالم ممن أقترحوا منذ سنوات قريبة بضرورة الغاء عقوبة ( السجن ) من حياة البشر ، مُطالبين بأيجاد طرق انسانية بديلة للتعامل مع الحالات المُعْتدية من الافراد ، مُنبهين بدراساتهم الميدانية والاحصائية الى حَجْم العذاب والألم والاذى القاسي الذي يتعرض له الانسان نتيجة لـ ( سجنه ) ، ومُشيرين ايضا الى ان تلك الدراسات وصلت الى نتيجة ان ( سَجْن ) الانسان المُجْرم جنائيا لا يَمنعهُ غالبا من مواصلة اجرامه بعد خروجه من السجن ، وبالمقابل فأن نسبة كبيرة من الابرياء ممن سُجِنوا تَحولوا الى مُجْرمين بشكل او آخر بعد خروجهم من السجن .

سابقا ، كان بَشَر الارض يُعاقِب بعضهم البعض بطرق التهجير او القتل او الاعاقة ، ومثلهم في هذا كمثل الكائنات الحيوانية على سطح الارض ، ثم ما ان ازداد عدد المجتمعات البشرية وبدأت المصالح المادية بالتوسع حتى تَمّ التوجُه الى حَصْر مجموعات من ضعفاء البشر ليكونوا بصفة مساجين مؤقتين في قلاع او سراديب طبيعية وليتم معاقبتهم بعد ذلك بقتلهم او اعاقتهم او تشغليهم كعبيد او جنود في مناطق قريبة او بعيدة ، وأخيرا وبعد ازدياد الاعداد البشرية وتشابك المصالح المادية البشرية ظهَر بعض القادة او الحكماء مِمَن وضعوا اصولا تَحْكم تفاصيل الحياة بين البشر ، وأضطر بعض اولئك القادة للادعاء بكونهم قادة اديان سماوية وانهم انبياء او رُسُل وانهم يمثلون خالق الكون ( الله )، ولم تتعدى احكام تلك الاديان اوضاع ومستوى تلك المرحلة البشرية سواءا بالامكانيات البنيوية او بمستوى تَفَهُم عموم البشر لحقوق الانسان حيث تَمّ دينيا شَرْعَنة مُصادرة حقوق الانسان في حياته الخاصة ومُعاقبة الانسان بقتله او قطع جزء من جسمه او جلده او ضربه .

حديثا ، اي في القرن الثامن عشر تَوجّه المجتمع البشري الغربي الى البِدْء ببناء سجون نظامية لتقوم بمهمة اصلاح وتهذيب الانسان المُجرم او ( المُخطأ ) ، اي ان البشرية بدأت التوجه الى عدم اعتبار السجن اجراءا لأجل العقوبة او الانتقام وانما لأجل الاصلاح ، الا ان عقوبة القتل او ما يسمى ( الاعدام ) ظلت سارية التنفيذ لحد يومنا في الكثير من المجتمعات ولاسيما الشرقية منها .

اود الاشارة هنا الى نسبة تصل الى خمسة وتسعون بالمائة من البشر المَعْدومين والمَسجونين في المجتمعات الشرقية الآن هم ضحايا ( رأي ) سواء فكريا او سياسيا او دينيا او اجتماعيا ، ويعاني المسجونين منهم شتى صنوف الاهمال والتقصير من قبل السلطات الحكومية ناهيك عن عذاب السجن نفسه ، في حين يتم صَرْف مبالغ حكومية كبيرة جدا بدواعي ادارة هذه السجون ، بينما يتمتع افراد سلطة مجتمعات هؤلاء المساجين بشتى اوضاع الرفاه رغم كون أغلبهم مُجْرِمين ومُعْتدين على حقوق مجتمعاتهم قولا وفعلا .

ان جائحة ( كورونا – كوفيد 19 ) التي تُهَدد بقتل كل البشر في ايامنا هذه ، لابد ان تُنَبهنا الى الرجوع الى عقلنا البشري للارتقاء الى مرحلة الوحدة الانسانية في التصدي لمهام كبيرة جدا اولها تَبَني كامل حقوق الانسان في حريته الخاصة ، وفي المساواة وفي السِلْم البشري والتعاضد البشري من اجل دوام الحياة والرفاة لكل البشر دون تمييز ، وكل ذلك في جهود وطريق البحث المُضْني والطويل في اسرار الحياة والكون ، ودون ان يكون لكل هذا النشاط مَدعاة لفَرْضِ فكرة وجود الخالق من عَدَمِه على الآخرين .

ان جائحة كورنا تفتح الباب واسعا للبدء فورا باجراءات ايجاد البدائل الانسانية المناسبة للتعامل مع مَنْ يُؤذي غيره مِنْ البشر بدلا من ( السجون ) .

هذه الجائحة ربما تفتح الباب ايضا لضرورة أنسانية مُعَقدة وصعبة جدا وذات علاقة ، وتتمثل تلك الضرورة الانسانية في بِدْء التفكير والتخطيط والعمل جديا لانهاء التعامل المادي بين البَشَر ، فـ ( المادة ) هي ( المُحَرك الاساسي ) الظاهر واحيانا الخَفي لكل دواعي تَجْريم الانسان لاخيه الانسان .

ان الاستغناء عن التعامل المادي بين بَشَر الارض قد يبدو الآن ضربا من ضروب الحلم والخيال لكنه ربما قد يصبح واقعا لاسيما اذا ما استذكرنا كيف تحقق قبل حوالي خمس عقود حلم وصول الانسان الى القمر ..

ان بَشَرا بلا سجون هو الخطوة الاولى في الطريق الشاق الطويل لبناء بَشَر بلا تعامل مادي .

أحدث المقالات