19 ديسمبر، 2024 2:12 ص

مذكرات محمود صبحي الدفتري عن تأسيس مدرسة (حقوق بغداد) سنة 1908

مذكرات محمود صبحي الدفتري عن تأسيس مدرسة (حقوق بغداد) سنة 1908

تحقيق

مـقـدمـة
يعد (محمود صبحي الدفتري) أحد رجال الإدارة والقانون والسياسة في العراق، عاصر العهد العثماني والملكي والجمهوري في ادواره الأربعة، وتولى أعلى المناصب في العهدين العثماني والملكي.
عاش فترتين حاسمتين من تاريخ بغداد وتاريخ العراق، فقد جاء الى هذه الدنيا اواخر القرن التاسع عشر وعبره الى القرن العشرين.
في سنة1951 اتصلت به كلية الحقوق في بغداد للحديث عن ظروف تأسيسها وما رافق ذلك من حوادث وأمور، لأنه أول منتمٍ الى مدرسة حقوق بغداد التي افتتحت سنة 1908 في زمن الوالي العثماني (ناظم باشا)، وقد دونت حينها نقلاً عنه، على أمل نشرها في دليل الكلية الذي سيصدر في ذكرى تأسيسها، الّا أنها لم تُنشَر.
في أيلول 1960 اتصلت جريدة الاهالي العراقية بالسيد (الدفتري) ليحدثهم عن تأسيس كلية الحقوق العراقية ، بمناسبة مرور (52) سنة على تأسيسها ، لأنه عاصر تأسيسها، وعلى علم بظروف تأسيسها، ولأنه أول من سجل فيها، فعلمت الجريدة منه أنه سبق وان زود كلية الحقوق بتلك المعلومات سنة 1951، فاستطاعت الجريدة الحصول عليها ونشرتها في ثلاث حلقات.
ولمرور زمن طويل على نشرها، ورداءة طباعة الجريدة وورقها السريع التلف، وصعوبة الوصول اليها وتعرض مجلد الجريدة المحفوظ في (دار الكتب والوثائق) الى التلف بمرور الزمن، ابادر الى نشرها كاملة.
وقد عملت على تحقيق المذكرات فضلاً عن تصحيح الأخطاء المطبعية وغيرها وشرح ما يحتاج الى شرح، والتعريف بالأعلام والأماكن والحوادث بصورة موجزة في الهوامش.
وبهذه المناسبة أود ابين أنى كنت أتمنى لو أن السيد (الدفتري) كان قد دون آراءه وملاحظاته أو مذكراته بصورة عامة عن معظم ان لم اقل جميع الاحداث والأوضاع التي عاصرها وشارك فيها لمدة تزيد على نصف قرن، لاسيما أنه تولى مناصب عليا مهمة كوزارة والعدلية والخارجية والمالية وعضوية المجلس النيابي والاعيان في العهد الملكي، فضلاً عن الوظائف التي تسنمها في العهد العثماني، لكان قد ترك لنا ثروة علمية وتاريخية لا مثيل لها، قياساً على:
1. ما أفاد به عند تدوين ذكرياته عن تأسيس مدرسة حقوق بغداد، لما فيها من دقة وصدق في سرد الاحداث وتحليلها، على الرغم من مرور مدة طويلة على أحداثها.
2. ما سرده من أحاديث وذكريات لجلاسه في (ديوان الدفتري) عن سلاطين آل عثمان الذين عاصرهم أو الماضين التي كانت اشبه بالمحاضرات التاريخية، كحضوره على سبيل المثال تشييع السلطان (محمد رشاد الخامس) وتنصيب أخيه السلطان (محمد وحيد الدين السادس) في قصر يلدز المنيف وما كان يردد اثناء تنصيب السلطان من قول (أيها السلطان انت عظيم ولكن الله أعظم منك. أيها السلطان انت عظيم ولكن الله أعظم منك) وما يعنيه هذا القول من حكمة وعظة.
و كذلك ما رواه عن ولاة بغداد – لأن معرفته بهم لا يدانيه فيها مدان – الذين عاصرهم وعمل معهم أو الذين سبقوه. وعن الادباء الاتراك الذين وثقت معرفته وعلاقته بهم سواءً في إسطنبول أم في بغداد، وغيرها من المعلومات والأحاديث المهمة والطرائف عن تلك الحقبة من الزمن، التي أورد بعضها (مير بصري) في كتابه اعلام التركمان والادب التركي في العراق الحديث
وأغلب الظن أن (مير بصري) قد دون تلك الذكريات في حينه عندما رواها (الدفتري) في مجلسه أو التي سمعها منه شخصياً خارجه، لأنها حوت من المعلومات والتواريخ التي لا يمكن الإحاطة بها بعد مرور السنين دون تدوين، والتي قال عنها “هذا غيض من فيض من ذكريات الدفتري ورواياته، ولو شئنا تدوينها جميعاً لملأنا مجلدات ضخمة”.
يمكن أن نعد ما أورده (مير بصري) في كتابه هو جزءٌ ثانِ لهذه المذكرات، بل هو الأول لأن ما أورده فيها يسبق زمنياً ما في هذه المذكرات التي ابتدأت احداثها سنة 1908.
3. ما جاء في لقائه المطول مع الصحفي (عادل العرداوي) في مجلة امانة العاصمةالعدد(18) سنة 1978، وهو لقاء مهم افاض فيه (الدفتري) عن مشاهداته وذكرياته عن الحوادث التي مرت به لاسيما في العهد العثماني فقد سرد بوصف دقيق كيف ينصب ولاة بغداد عند صدور (الفرمان الهمايوني) اي المرسوم السلطاني بتوليتهم يوم كانت بغداد ولاية تابعة للسلطان العثماني في اسطنبول، بذاكرة صافية نقية اثارت دهشة الصحفي لأنها تصدر عن شخص ناهز التسعين من عمره. ووصف حالة بغداد في أواخر العهد العثماني وما كانت عليه من تخلف في نواحيها المختلفة. وكما قلنا سابقاً كلها رواية شاهد عيان لم ينقلها عن غيره.
وبناءٍ على ذلك فاني اكرر القول لوكان (الدفتري) قد دون مذكراته، لاسيما وهو يحتفظ بذاكرة مازالت طرية ومتوهجة، وهو اديب متمكن كما نقل عنه، لترك للمكتبة ولدارسي تاريخ العراق في نهاية العهد العثماني والقرن العشرين مادة غنية تسهم في اضاءة احداث تلك الحقبة الزمنية.
فهو صورة حقيقية للماضي القريب الذي لا يعرف من اسراره ابناء هذا الجيل سوى النزر القليل.
وختاماً يجب أن نقر بفضل (بصري) و(العرداوي) عندما حفظا لنا تراث (الدفتري) المروي، وبفضل كلية الحقوق في بغداد ثم جريدة الأهالي اللتين استخرجتا هذه المعلومات القيمة من مكامنها.

أهمية المذكرات
لمذكرات (الدفتري) أهمية كبرى في معرفة ظروف تأسيس مدرسة حقوق بغداد سنة 1908، لأن صاحبها هو أول من انتمى الى المدرسة وكان شاهد عيان على تأسيسها، بل على مرحلة ما قبل تأسيسها لأنه كان موظفاً في مكتب (ناظم باشا) والي بغداد ومؤسس المدرسة،
فلقد جاء في مذكراته، أنه تحدث عن تأسيس المدرسة تحدث المطلع على تفاصيل الأمور، وأن مبعث ذلك اشتغاله في مكتبه في الهيأة الإصلاحية، من يوم تسلم الباشا مهام الولاية بالوكالة الى مغادرته العراق أي نحو ثلاثة أشهر، أي أنه يروي ما رأته عيناه دون نقل عن الآخرين.
ولم تقتصر المذكرات على ذلك، بل رأيناه يرسم صوراً قلمية ناطقة عن بدء الدراسة في مدرسة الحقوق وتطورها وكيفية أداء امتحاناتها واحتفاء الأهالي بتأسيسها.
وتزداد المذكرات أهمية لأننا من خلالها نتمكن من دراسة أحوال العراق السياسية والإدارية والتعليمية في العراق في مطلع القرن العشرين، لان (الدفتري) تحدث حديث العارف عن الإدارة في العهد العثماني وكيفية سير الأمور في دواوينها.
فترجمته مثلاً لـ(ناظم باشا) والي بغداد، كانت ترجمة وافية لا تجدها في مصدر آخر، لاشتغاله معه في بدء حياته الوظيفية كما مر بنا سابقاً، ولقربه منه.
ويلاحظ في المذكرات الذاكرة الفائقة (للدفتري) في سرد الحوادث على الرغم من مرور ما يقارب نصف قرن على احداثها وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح، فقد أورد في مذكراته حفل افتتاحها بالتفصيل الدقيق وأورد أموراً وحوادث تفصيلية عن سير الدراسة فيها ومحاولات والي بغداد (جمال باشا) لإغلاقها وموقف الطلبة والأهالي للحيلولة دون ذلك، مع ملاحظة الدور المحوري (للدفتري) في كل ذلك.
إن موقف أهالي بغداد ومن ورائهم العراقيون من استمرار المدرسة والحيلولة دون غلقها، يبين رغبتهم الصميمة في اللحاق بركب الحضارة وإعادة امجاد بغداد التي أصغى لها ولعلمائها الدهر.
إن الموقف الصلب لطلاب مدرسة الحقوق وهم في أول مرحلة الشباب تثير الاعجاب والعجب، لأنهم تحدوا الوالي العثماني (جمال باشا) في عقر مكتبه، على الرغم من العنجهية والقسوة المفرطة التي عرف بها، وأسوأ مثال على ذلك تعليقه عدد كبير من أحرار الشام على اعواد المشانق دون رحمة أو رأفة.
ويجب أن يلاحظ أن هذه المعلومات لم ترد في أي مصدر آخر، لولا بقاؤها في ذاكرة (الدفتري) التي دونت عنه سنة 1951.
ومما يزيد من قيمة المذكرات حضور الصحفي والاديب (روفائيل بطي) جلسة تدوين المذكرات وتساؤلاته مع (الدفتري) عن بعض الأمور المهمة، وترحيب (الدفتري) بحضوره وعده مشرفاً على ذلك، لأنه أحد مثقفي وادباء بغداد فضلاً عن كونه من خريجي مدرسة الحقوق، وإن كان بعد مدة من تأسيسها.
ومما يجدر ذكره ان معظم المعلومات التي وردت في المذكرات قد انفرد (الدفتري) بإيرادها ولم ترد في مصادر أخرى، لأنه كان معاصراً لها ومشاركاً فيها كما قلنا في أحيان كثيرة، وبذا تزداد أهميتها.
إن البحث في تاريخ مدرسة حقوق بغداد وتأسيسها، هو أمر لازم لمعرفة الاصول الحقيقية لنشأة التعليم العالي في العراق في العصر الحديث، وان الاستفاضة في سرد تفاصيلها هو لتبيان معاناة العراقيين ورغبتهم تملك ناصية العلم، ومذكرات (الدفتري) هي خير معبر عن ذلك.
الســيـرة الـذاتـيـــــة
هو (محمود صبحي) –اسم مركب- بن (فؤاد بن إسماعيل بن إبراهيم بن خليل الدفتري)، وآل الدفتري عائلة بغدادية عريقة ارتبطت ببغداد بأوثق رباط.
رَأسَ هذه الاسرة (خليل أفندي بن إسماعيل اغا بن طاهر أفندي) الذي تولى منصب متصرف بغداد في زمن الوالي (داود باشا) سنة 1823، ثم تولى منصب دفتردار الولاية على عهد الواليين (داوود باشا وعلي رضا باشا).
أما جد ابيه (ابراهيم الدفتري) فهو اول رئيس لبلدية بغداد يوم انشأها الوالي المصلح (مدحت باشا) سنة 1868 وشغل هذا المنصب الى حين وفاته سنة 1877، ثم تسنم هذا المنصب بعد ذلك جده (إسماعيل الدفتري) من (1881 – 1889) على عهد الواليين (تقي الدين باشا ومصطفى عاصم باشا). ثم تولى المنصب خاله ووالد زوجته (رفعت الجادرجي) من (1881 – 1889) وابن خاله (رؤوف الجادرجي) في أواخر العهد العثماني.
تولى ابوه (فؤاد الدفتري) منصب متصرف لواء بغداد سنة 1923، ثم نهض به هو نفسه مرتين باسم امين العاصمة.
والدفتري هي نسبة الى (الدفتر دار): وهو أكبر منصب للشؤون المالية في ولاية بغداد في عهد الدولة العثمانية.
ولد في بغداد سنة 1889، ورافق أباه الى الديوانية حيث كان نائب المدعي العام سنة 1894 فـكربلاء من سنة 1898 الى سنة 1903.
تخرج في المدرسة الإعدادية فعين كاتبا في دائرة ولاية بغداد سنة 1907 وألحق بسكرتارية (ناظم باشا) رئيس الهيئة الإصلاحية ووكيل الوالي وعهدت اليه مباشرة الأمور السرية.
تخرج في مدرسة حقوق بغداد سنة1912 ضمن أول وجبة من تلك المدرسة التي تأسست سنة 1908، فهو بذلك أول طالب في مدرسة الحقوق وكان الأول عليها.
سافر مع والده الى اسطنبول عن طريق الموصل بعد الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1917، ثم عادا الى بغداد سنة 1919، وشاركا في الحركة الوطنية التي ساندت ثورة العشرين، فقبضت عليهما السلطات العسكرية في 28 آب 1920 وزجتهما في السجن ثم نفيا الى اسطنبول عن طريق الهند. ولبثوا هناك ما يقارب السنتين حتى سمح لهما بالعودة بعد اعتلاء الملك (فيصل) عرش العراق سنة 1921.
و(محمود صبحي الدفتري) اسم عريق تعرفه بغداد جيدا، اذ انه رافقها وزاملها وخدمها وعمل من اجلها، كما احتضنته وربته وانشأته بين جوانحها منذ ولادته وحتى وفاته، فله رفقة طويلة مع هذه المدينة العريقة ووشيجة حب لا ينفرط عقدها.
عرف (الدفتري) باناقته وأدبه وحسن عشرته. وفد شغف (الدفتري) بالأدب التركي والتاريخ العثماني منذ حداثته، لذا عين سنة 1913 مدرساً للأدب في المدرسة السلطانية في بغداد، فأتيحت له الفرصة للتوسع فيه. وكان يجيد اللغات العربية والتركية والفارسية.
قضى (الدفتري) في اسطنبول ما يقارب السنتين كانتا من أحفل ايام حياته وأزخرها بالذكريات الأدبية، حيث شارك في الحياة الأدبية التركية، فحضر مجالس الأدب وندوات الثقافة، عرف فيها أديباً المعياً عارفاً بالأدب العثماني القديم وشهد له بذلك ادباء الترك أنفسهم، مثل أصدقائه سليمان نظيف ورضا توفيق وعبد الحق حامد اعظم الشعراء الترك المعاصرين وغيرهم ممن عرف مزاياه وقدَّره حق قدره.
كتب (الدفتري) في الصحف التركية دفاعاً عن العرب رداً على الاتهامات التي توجه إليهم، وكانت صلته وثيقة برجال العرب النازلين في دار الخلافة، لا سيما العراقيين
كـ(فهمي المدرس) و(معروف الرصافي).
كانت أول وظيفة تسلمها (الدفتري) بعد تأسيس الدولة العراقية هي مشاور حقوقي في أمانة العاصمة سنة 1923. انتخب بعدها نائباً في المجلس النيابي الاول سنة 1925 عن لواء الدليم – الرمادي- ثم نائباً عن ديالى في المجلس الثاني 1928.
عين أميناً للعاصمة سنة 1930، ثم عهدت اليه رئاسة كلية الحقوق سنة1931، غير انه آثر الاستقالة، وعاد الى الوظيفة مديراً عاماً للطابو – التسجيل العقاري – سنة 1932 فـأمينا للعاصمة مرةً الثانية سنة 1933، فمديراً للبلديات سنة 1936.
كان من ابرز اعماله في أمانة العاصمة، فتح شارع (غازي) الذي يحمل اليوم اسم شارع الكفاح وشارع الصالحية في الكرخ، لان بغداد لم يكن فيها عدا شارع الرشيد الذي افتتح سنة 1916سوى مجموعة ازقة (ودرابين) ضيقة تجتمع في احياء مختلفة.
وكذلك بناء بهو الامانة، فقد كانت هناك حاجة ماسة اليه، لان الحكومة كانت تحتار بضيوفها الرسميين في العثور على المكان الملائم لإ قامة الحفلات الرسمية لهم، وقد عجل في تنفيذ هذه الفكرة زيارة (ولي عهد السويد) لبغداد آنذاك حيث ضوعفت الجهود للإسراع في إنشائه، وكانت من مميزاته في ذلك الوقت انه اول قاعة مزودة بالتدفئة المركزية.
عين (الدفتري) بعد ذلك عضواً بمجلس (الاعيان) سنة 1937.
تولى منصب وزير العدلية ثلاث مرات في وزارات نوري السعيد الثالثة والرابعة والخامسة من 25/12/1938 الى 18/2/1940، ووزير الخارجية في وزارة نوري السعيد الثامنة للفترة من 25 كانون الأول 1943 حتى 4 حزيران ،1944 ووزير المالية وكالة سنة 1939 عند سفر رستم حيدر إلى لبنان.
استمر عضواً في مجلس الاعيان الى 17/10/ 1945، واعتزل الحياة العامة بعد ذلك وانصرف الى اشغاله الخاصة.
ويبدو أن سبب اعتزاله المبكر للحياة السياسية، هو معارضته سنة 1943 عندما كان عيناً في مجلس الاعيان على تعديل (المادة 26/6) من القانون الاساسي بعد الاحتلال الثاني للعراق بزيادة حقوق الملك وبالتالي الوصي على العرش، بمنحه حق اقالة الوزارة إذا أصرت على السياسة التي لا يقرها عليها البلاط، على الرغم من أن الدستور قد نص على عدم جواز إجراء أي تغيير فيما يخص حقوق الملك طالما يمارس الوصي حقوق الملك، مما أدى الى أن يقف (عبد الاله) الوصي على العرش العراق موقفاً سلبياً من (الدفتري) في اسناد أي منصب له بعدها.
يعد (الدفتري) من رجالات الثقافة في العراق، وله صالون ادبي معروف ورثه عن اجداده يعرف بـ(ديوان الدفتري) وكان يعقد كل يوم جمعة في داره في محلة الحيدرخانة، ومن ثم الى داره في منطقة الشواكة بعد انتقاله اليها، واستمر يعقده اكثر من اربعين سنة حتى وفاته سنة 1979.
ويعد ديوان (الدفتري) ندوة أدبية أو منتدى علمي تبحث فيه مشاكل العلوم والادب وتحل معضلات المشاكل التاريخية واللغوية والاقتصادية والسياسية، وتتخلله وتلطف جوه مداعبات ونكات ولطائف صاحب الدار التي اشتهر بها فيزيد جو مجلسه لطافة وظرافة.
كانت تحضر المجلس اجيال متعاقبة من رجال الفضل والعلم والادب والسياسة، وكان المجلس يحفل بخير ما كان مأثوراً عن بغداد القديمة واخبار اسرها وبيوتها الكريمة ونوادر رجالها النابهين، وكان (الدفتري) في المجلس هو الأستاذ أو المحاضر الذي يروي الحوادث والقصص التاريخية والطرائف الأدبية والفائق من الشعر أو النثر، ويترجم لجلسائه عن التركية أو الفارسية طرفاً وتحفاً من مختارات ذوقه السليم.
وكان يتردد اليه الاصدقاء والمعارف ومنهم الاديب والمفكر والسياسي والتاجر والشيخ المعمم والشاب المتمدن ويطرح خلال انعقاده موضوعات شتى تعالج ما يشغل اذهان الناس في تلك الفترة من امور تتعلق بالسياسة او تتصل بالأدب.
وكان الادباء حلية ذلك المجلس يخلعون على اجتماعاته متعة بما يتحدثون به ويتناقشون حوله.
وكان من رواده في الثلاثينيات والاربعينيات والخمسنيات بالاضافة الى ما تقدم الاساتذة معروف الرصافي وابراهيم صالح شكر وعبد المسيح وزير ونوري ثابت المعروف بـ (حبزبوز) وطه الراوي وعبد الله الشواف ومنير القاضي من الادباء.
وياسين الهاشمي وطه الهاشمي وجميل المدفعي وحكمة سليمان وعبد الوهاب محمود ويونس السبعاوي وحسين جميل وغيرهم من السياسيين.
وقد جذب الصالون بعض الشخصيات العربية والاجنبية التي قدر لها ان تمر ببغداد او تقيم بها اقامة مؤقتة، فكان عبد العزيز الثعالبي وعبد الرزاق السنهوري وسعد الله الجابري ورياض الصلح وعلي الجارم ممن ترددوا عليه، وكذلك الدكتور زكي مبارك الذي كتب عنه يصفه في احدى مقالاته الادبية التي تناولت ملامح المجتمع العراقي. كما زاره الفيلسوف التركي رضا توفيق، وفؤاد كويرلي الاديب والوزير التركي المعروف.
ومن جملة الذكريات الطريفة التي كان يسردها (الدفتري) في مجلسه أنه ذكر حادثا لا يخلو من متعة، اذ بينما كان يسير بمدخل السراي، رأى (الملا عثمان الموصلي) الشخصية المعروفة في كل من بغداد والموصل واستانبول، وكان ضريرا، ويتعرف على الشخص من تلمسه، فتقدم (الدفتري) الى الملا وحيّاه ماداً يده لمصافحته، فاخذ يتلمسها محاولا معرفة صاحبها كعادته، الا إن (الدفتري) بادره بالقول: (ان هذه اليد لم يسبق لها ان تشرفت بمصافحتك، ولكن لها حبا موروثا انتقل من السلف). فبقي (الملا) ساكتا وبدا بتحريك رأسه يمينا وشمالا كعادته وما هي الا لحظات حتى بادره بهذين البيتين وهو لا يزال ماسكا يده:
أوراقُ إخلاصي إذا ما كُتبت تنشرُ في الآفاقِ حُسنَ الأسطرِ
كلها محفوظةٌ في مُهجتي ومُهجتي عندَ (فؤاد الدفتري)
ولا أدري بم نعجب أَبفطنة (الموصلي) وذكائه، أم بذاكرة (الدفتري) الذي أورد بدقة تفاصيل اللقاء بالرغم من مرور (50) سنة عليه. ومن أشهر ما يذكر عن ديوان (الدفتري) انه تمت فيه مصالحة الشاعرين الكبيرين (جميل صدقي الزهاوي) و(معروف (الرصافي) سنة 1928 التي اقامها لهما في الصالون وحضرها حشد من الادباء المعروفين آنذاك.
فقد كان الشاعران من الوجوه اللامعة التي ترتاد الصالون فلما نشبت الخلافات بينهما التي كانت تدور حول زعامة الشعر في العراق، راح البعض يسعى لتأجيج تلك الخلافات، فكان من الواجب الادبي ان يسعى (الدفتري) الى الصلح بينهما لا سيما وانه درس على يد كل منهما، فـ(الرصافي) كان استاذه في المدرسة الإعدادية في بغداد، و(الزهاوي) في مدرسة الحقوق.
وكان ذلك حدثاً ادبياً من أحداث بغداد، ألقى فيه الزهاوي قصيدة قال فيها:
جمع الاديب الحر (صبحي) شملنا في داره، أكرم بها من دار
و(للدفتري) مكتبة كبيرة تضم أكثر آثار الادب التركي المطبوعة أو المخطوطة، والتاريخ والوثائق العائلية والرسمية والسالنامات (التقاويم) التركية وغيرها من الاسفار والمخطوطات النادرة.
تمهـيــــــــــد
يُعَد تأسيس مدرسة الحقوق في اسطنبول سنة 1874 أول مدرسة عليا تخرج فيها الطلبة العراقيون، وظلت هي المدرسة الوحيدة التي ترفد الدوائر العدلية المختلفة في أرجاء الدولة العثمانية – التي كان العراق جزءاً منها الى سنة 1918 – بالمختصين في مجال القانون، إلّا أنها غدت غير قادرة على تلبية الطلبات المتزايدة من الولايات المختلفة، لا سيما بعد التوسع الذي تحقق في مجال المحاكم النظامية في أواخر عهد السلطان (عبد الحميد الثاني)، كما ان قسما من خريجيها كانوا لا يرغبون في الخدمة في أماكن بعيدة عن أهاليهم، فضلا عن ان الكثير من أبناء الولايات البعيدة كالولايات العربية من الراغبين في إكمال تحصيلهم في الحقوق، لم يكن في وسعهم الالتحاق بمدرسة الحقوق في إسطنبول، لبعدها وما تتطلبه من مصاريف باهظة للنقل والدراسة والسكن والمعيشة.
لكل ذلك سعت الدولة سنة 1907م إلى تأسيس ثلاث مدارس في ارجاء الدولة المختلفة في كل من حلب وقونية وسلانيك – مدينة يونانية حالياً – لكنها قامت بتأسيس مدرسة للحقوق في كل من بغداد وبيروت وصرفت النظر عن فتح المدرسة في حلب. ()
وكان لبعد مدينة اسطنبول وصعوبة السفر وكلفته التي لا يقدر عليها إلا القليل، وكذلك ندرة وسائط النقل وصعوبة العيش في الغربة، ورغبتهم في الاخذ بأسباب العلم والرقي، كل ذلك دعا العراقيين الى طلب تأسيس مدرسة للحقوق في بغداد.
وقد تحقق ذلك بعد زيارة اللجنة الإصلاحية للعراق سنة 1907م برئاسة (ناظم باشا) الذي قام بعد وصوله إلى العراق بالتشاور مع كبار موظفي بغداد ووجهائها الذين اقترحوا عليه فتح مدرسة للحقوق في بغداد.
وجاء في مذكرات (توفيق السويدي) رئيس وزراء سابق وعميد مدرسة الحقوق في عشرينات القرن الماضي- ان والده (يوسف السويدي) قصد الوالي (ناظم باشا) يرجوه ان يتوسط لدى الحكومة المركزية بأن يجعل كلية حلب في بغداد، لان حلب متصلة بالبحر وبوسائط أخرى باسطنبول، فأهلها لا يعانون مشاق الذهاب الى العاصمة والدخول في مدارسها العالية، أما بغداد فان بعدها عن العاصمة وانزواءها يجعلانها بحاجة اشد الى كلية حقوق تؤسس فيهـا. ()

وكان للطلبة العراقيين الدارسين في مدرسة الحقوق في اسطنبول التي أسست سنة 1882م أثر بالغ في إنشاء المدرسة في بغداد حيث أتيحت الفرصة لعدد من الطلبة للدراسة في اسطنبول الذين شغلوا مناصب مهمة في العراق بعد تخرجهم في تلك المدرسة، وهي مناصب إدارية وقضائية فضلاً عن العمل في المحاماة ، وذلك في دعوتهم لإنشاء مدرسة في بغداد تدرس فيها القوانين وتوفر على الطلبة مشاق السفر والإقامة للدراسة في اسطنبول.
إن افتتاح مدرسة الحقوق في بغداد هو خطوة هامة في تاريخ التعليم العالي في العراق فهي أول مدرسة عليا في العراق، ولأنها أصبحت الرافد الاصيل للحقوقيين والمحامين العراقيين، فقد مارس معظم خريجيها المحاماة، كما قام قسم منهم بالتدريس في المدرسة بعد افتتاحها، وتولى القسم الاخر الوظائف الحكومية الهامة التي ساهمت في تأسيس وبناء العراق الجديد في مطلع القرن العشرين بعد زوال الحكم العثماني.
تأسـيــس المـدرســة
تعود فكرة تأسيس مدرسة للحقوق في الولايات العربية العثمانية إلى سنة 1879م حيث قدم المفتش (باشا) () مذكرة إلى السلطان (عبد الحميد الثاني) يقترح فيها تأسيس مدرسة للحقوق في كل من ولايات بغداد والشام وقوصوة – كوسوفا، وقبول مائتي طالب في كل واحدة منها، فأحال السلطان (عبد الحميد الثاني) المذكرة إلى الباب العالي – رئيس الوزراء – لبيان رأيه، إلا أن الباب العالي أبدى تحفظه على تأسيس هذه المدارس، فبيّن أن تأسيسها لا يتوقف على المال فقط، بل على عناصر أخرى مازالت مفقودة هذا الوقت في هذه الولايات، فهذه المدارس تندرج ضمن المدارس العالية، ويتطلب من المقبولين فيها حيازتهم على شهادة الدراسة الإعدادية أو امتلاكهم معلومات تعادل المعلومات التي يمتلكها خريجو الدراسة الإعدادية، والحال أن الولايات المذكورة ما زالت تفتقر إلى المدارس الإعدادية، ولهذا لا يمكن إيجاد طلاب بالمواصفات المذكورة لهذه المدارس عند تأسيسها، ومن غير الممكن توفير معلمين لهذه المدارس، ولهذا فإن إقامة هذه المدارس في ظل هذه الظروف لن تجدي نفعاً، ولن تحقق النتائج المرجوة عنها، فاقترح صرف النظر عن تأسيس هذه المدارس في هذا الوقت، والاكتفاء بمدرسة الحقوق باسطنبول التي ترفد محاكم الدولة بولاياتها المختلفة بالحكام وغيرهم من موظفي الدوائر العدلية، وتوسيعها وذلك بتشجيع الطلاب من الولايات المختلفة للدراسة فيها.
فأقر مجلس الوزراء تلك المقترحات، وطلب من وزير العدلية الأخذ بها، لارتباط مدرسة الحقوق بوزارة العدلية في ذلك الوقت، والعمل على تطوير موادها الدراسية والارتقاء بها إلى مستوى مدارس الحقوق الأوربية، ولكل ذلك تأجل تأسيس مدرسة الحقوق في الولايات ومنها ولاية بغداد إلى أجل غير مسمى.
وفي سنة 1907م طرح موضوع تأسيس مدارس الحقوق على بساط البحث ثانيةً حيث تقرر تأسيس ثلاث مدارس حقوق في سلانيك وقونية وحلب، ولم يدرج اسم بغداد ضمن هذه المدن كما مر بنا سابقاً.
ولم تتم إثارة موضوع تأسيس مدرسة حقوق في بغداد إلا في سنة 1908م، بعد أن أخذت الدولة العثمانية بمسألة الإصلاحات في الولاية على محمل الجد () عندما فكرت في أواخر عهد السلطان (عبد الحميد الثاني) في تأليف هيئة أطلق عليها اسم (الهيئة الاصلاحية للخطة العراقية) () ارسلتها السلطة لدرس أوضاع البلاد ورسم منهج للنهوض بها من النواحي الإدارية والاقتصادية والثقافية، وألفت لجنة استشارية في ولاية بغداد ساعدت الهيئة الإصلاحية في تسهيل مهامها. ().
وبعد ان طافت في ارجا العراق قدمت اقتراحات عدة في الامور التي درستها، ومن بين هذه المقترحات تأسيس مدرسة حقوق في بغداد.
وقد مربنا سابقاً موقف أهالي بغداد من تأسيس المدرسة في بغداد من خلال سعي السيد يوسف السويدي لدى والي بغداد (ناظم باشا) لتحقيق ذلك.
ورأى (ناظم باشا) أن هذه الإصلاحات لا يمكن تحقيقها إلا بتوافر الكوادر المتخصصة واللازمة لها، ولهذا أرسل في 11 شباط 1908 برقية إلى الصدر الأعظم وإلى المابين السلطاني – مقر السلطان – أكد فيها على ضرورة تأسيس مدرسة للحقوق في بغداد، وذلك لعدم الاستفادة من مدرسة الحقوق المزمع تأسيسها في حلب لبعد المسافة بينها وبين بغداد.
ويبدو أنه وضع بنظر الاعتبار أن الحكومة قد تعترض على مقترحه لأسباب مادية، فاقترح أن تتم تغطية نفقات تأسيس المدرسة بما يفيض عن موارد الرسوم المستوفاة في المحاكم العدلية في الولايات الثلاث: بغداد والموصل والبصرة والمخصصة للمعارف، على أن تتحمل نصف نفقاتها ولاية بغداد والنصف الآخر ولايتا الموصل والبصرة بالتساوي. () وهذا نص الاقتراح:
“برقيــة”
التاريخ: تموز 1907
الرقم: 8392
“حضرة الصدر الأعظم”
“من أجل زيادة العلوم والمعرفة لأهالي مدينة بغداد ونشر الثقافة والتعرف على الأنظمة والقوانين العدلية، نقترح تأسيس مدرسة للحقوق في بغداد على غرار مدارس الحقوق التي تم افتتاحها، وأيضاً في الموصل والبصرة، راجين من حضرتكم إصدار أمر عثماني بشأن تأسيس مدرسة الحقوق في بغداد”().
رئيس هيئة إصلاح القوانين العراقية – ناظم
وقد لقي الاقتراح قبولاً حسناً من الحكومة العثمانية، وأقرّ مجلس الوزراء هذا المقترح، بعد أن كان المقرر تأسيس المدرسة في حلب كما مر بنا سابقاً، فصدر في 1 آذار 1908 مرسوم تأسيس المدرسة في بغداد على وفق ما ورد في برقية رئيس الهيأة الإصلاحية، وهذا نص المرسوم:
مجلس الوزراء العثماني
“بناءً على الطلب المُقدمّ مِن أهالي بغداد والهيئة الإصلاحية الحقوقية في بغداد بشأن تأسيس مدرسة الحقوق، فقد نَظر المجلس في ذلك خلال اجتماع موسع بجلسة خاصة، وتداول الموضوع من جميع جوانبه الإدارية والمالية، ووافق على تأسيس مدرسة الحقوق في بغداد فقط، حيث طلب أهل الموصل والبصرة نفس الطلب، لكن الموافقة صدرت بفتح مدرسة الحقوق في بغداد وتم إبلاغ وزارة المعارف العثمانية بذلك من أجل المباشرة بافتتاح المدرسة، وإعداد الكادر اللازم لها”
صدر في 1 آذار 1908().
ثم صدرت الإرادة السنية – الامر السلطاني – بتأسيس المدرسة في بغداد في 4 آذار/ مارس 1908.
وفي 14 آذار وافق الباب العالي على تعيين مدير معارف بغداد (توفيق بك) مديرا لمدرسة الحقوق إضافة إلى وظيفته، فيكون بذلك أول مدير يتولى إدارة المدرسة.
ويبدو أن وزارة المعارف بعد صدور قرارها بتأسيس المدرسة وتعيين مدير لها لم تذهب أكثر مما ذهبت إليه، فلم تبلَّغ ولاية بغداد بالإجراءات المتعلقة بتأسيس المدرسة، فاضطر (ناظم باشا) الى رفع برقية إليها في 19 أيار/ مايو1908، استفسر فيها عن الجهة التي تقوم بتحديد مناهج مدرسة الحقوق ورواتب المعلمين، وفيما إذا كان اختيار المعلمين يتم من قبل الولاية أم لا.
فقامت الوزارة بإرسال البرنامج الدراسي للمدرسة وترتيب الرواتب، وخوّلت ولاية بغداد اختيار المعلمين للمدرسة في حالة توافرهم في بغداد، على أن يتم إعلام الوزارة بكيفية الاختيار وأسماء المرشحين للتعيين ممن هم حائزون على المواصفات المطلوبة.
وقد عمل (ناظم باشا) رئيس الهيأة الإصلاحية للبلاد العراقية كل ما في وسعه لأجل الإسراع بافتتاح المدرسة، فسعى (ناظم باشا) إلى اختيار معلميها ممن رآهم قادرين على التدريس من موظفي ولاية بغداد والشخصيات العلمية فيها، فأعد قائمة ضمت أسماء ستة معلمين مرشحين مع مؤهلاتهم والوظائف التي يشغلونها وأسماء المواد التي يكلفون بتدريسها، وأبلغ بها وزارة المعارف في برقية رفعها إليها في 13تموز1908 وطلب المصادقة على تعيينهم.
وهنا تأتي مذكرات (الدفتري) لتستكمل باقي إجراءات افتتاح المدرسة مما لم يرد في مصادر أخرى، وبه تتبين أهمية هذه المذكرات.
الحلــقة الأولــــــى
من مذكرات
(محمود صبحي الدفتري)
المنشورة في العدد (514) من جريدة الأهالي البغدادية
بتاريخ 1/9/1960
الذكرى السنوية الثانية والخمسون على تأسيس كلية الحقوق العراقية
معلومات لم يسبق نشرها عن هذه الكلية رجعنا فيها الى
الأستاذ (محمود صبحي الدفتري) اول طالب في الكلية
في هذا اول يوم من ايلول سنة 1960، يكون قد مر على تأسيس كلية الحقوق العراقية اثنتان وخمسون سنة، حيث كان افتتاحها لأول مرة في 1 ايلول 1908- سنة اعلان الدستور العثماني.
وقد رأينا بمناسبة حلول هذه الذكرى في هذا اليوم أن ننشر تحقيقا في موضوع أقدم كلية في تأريخ العراق. ان تحقيقا لهذا لابد ان نرجع فيه الى من عاصر تأسيس هذه الكلية، وكانت له في الموضوع علاقة تجعله على علم بظروف تأسيس هذه الكلية، وكان الطالب الأول الذي سجل فيها والطالب الاول الذي تخرج فيها، وهو سيادة الاستاذ (محمود صبحي الدفتري) وزير الخارجية الاسبق.
وقد رأينا ان نرجع الى سيادته نسأله ان يزودنا بالمعلومات المطلوبة عن كلية الحقوق العراقية في اول تأسيسها وافتتاحها في مثل هذا اليوم قبل (52) سنة، لكي نقدمها الى جمهور قرائنا، فأعلمنا سيادته: انه سبق واتصل به سيادة الاستاذ (منير القاضي) آخر عام 1951 عندما كان عميدا لكلية الحقوق وطلب منه ان يزود سعادته عن ظروف تأسيس وافتتاح هذه الكلية لغرض نشر دليل عن الكلية، وقد اتفق مع عميد كلية الحقوق على ان يرسل اليه من يــــــدون المعلومات المطلوبة منه، فأرسل العمادة السيد (جليل مطر) مدرس التربية الرياضية واللياقة البدنية في الكلية حينـــذاك للغرض المذكور.
ان السيد (جليل مطر) وجَّه اسئلة معينة الى السيد (محمود صبحي الدفتري) فأجاب عنها وصادف ان كان السيد (روفائيل بطي) حاضرا بعض تلك الجلسات فأشترك في تدوين المعلومات التي كان يدلى بها السيد (الدفتري).
وبعد ان اكتملت الجلسات التي عقدت لهذا الغرض واستغرق تدوين المعلومات عدة جلسات، لم تنشر كلية الحقوق الدليل الذي كانت تعتزم إصداره، وقد حصلنا على تلك المحاضرة التي لم يسبق نشرها فآثرنا نشرها بمناسبة مرور (52) سنة على افتتاح كلية الحقوق.
مقدمة كاتب المحضر: عندما أردنا تدوين تأريخ كلية الحقوق العراقية رجعنا الى فجر حياة الكلية وتذكرنا بدء تأسيسها في العهد العثماني.
ولما كانت هذه الصفحة من حياة مطوية في غياهب الذكريات للرعيل الاول من طلابها وخريجيها، بحثنا فتوصلنا الى ان اول طالب سجل في هذا المعهد عند وضع حجر الاساس هو السيد (محمود صبحي الدفتري) وزير خارجتنا الأسبق، فرأينا ان نستمد منه المعلومات التي تقدم تأريخ الكلية المبكر فرجونا السيد (الدفتري) ان يزودنا برواية تطورها في هذه المرحلة، فعين لنا موعدا قابلنا فيه معاليه في داره اوائل عام 1952، وصادف أن كان (رفائيل بطي) حاضرا في هذه الندوة ومن بعد التعارف، ابتدر السيد (الدفتري) قائـــــلا: انها لصدفة سعيدة وثمينة ان يكون السيد (رفائيل بطي) حاضراً معنا، وكنت قد اخبرته عن موعدي معكم في هذه الساعة، فرجوت منه ان يبقى ويشاركنا هذه الندوة، واذا شئتم نقول انه يشرف على الامتحان الذي سأؤديه لكم.
وفي مكتب طالب الحقوق العراقي الاول وقفنا على أكثر مما كنا نأمل الوقوف عليه من نشأة الكلية، حيث خص هذا الغرض بعناية فائقة، فلم يكتف باستحضار الخواطر الجميلة في ذهنه القوي، انما بذل وقتا غير قصير، وتكبد تعبا مقدراً في اعداد طائفة من الوثائق والمذكرات المسجلة التي صانها اهتمامه من الضياع.
ومما يسر كل فرد من اسرة الكلية ومن تعلم فيها، ان يطلع عليها ليعرف كيف اقيمت دعائم هذا الصرح الثقافي في عهد وُصِم في صحائف التاريخ الشرقي بالاستبداد والظلم.
وفي هذه الجلسة الهادئة المفعمة بالتذكارات استمعنا الى اجوبه شافية وايضاحات وافية عن كل سؤال واستيضاح وجهناه الى الاستاذ (الدفتري).
فكرة تأسيس مدرسة حقوق
لما سألنا الاستاذ عن الزمن والجو الذي نبتت فيه الفكرة لتأسيس مكتب الحقوق في بغداد اطرق مليا وقال:
من رأيي ان في سبيل عرض تصوير صادق لهذا الحدث الثقافي في بلادنا، لابد لي من ان أتطرق الى بعض الوقائع او الشؤون التي قد لا تكون ذات صلة مباشرة بموضوع فتح هذا المكتب، اذ اعتقد انه يتعذر فهم هذه الحقائق وتصور الزمن والشعور بالجو الذي ولدت فيه الكلية من غير ايراد ما سأبسطه لكم الان.
فكرت الحكومة المركزية في اسطنبول في اواخر عهد السلطان (عبد الحميد الثاني) وقبل اعلان الدستور العثماني بسنة او ما يزيد عليها قليلا، في تأليف هيأة اطلق عليها اسم (الهيأة الإصلاحية للخطة العراقية) – وقد رمت السلطة بهذا التشبث الى درس اوضاع البلاد ورسم منهج للنهوض بها من النواحي الادارية والاقتصادية والثقافية. وتكونت هذه الهيأة برئاسة (ناظم باشا) أحد الولاة وهو يحمل رتبة وزير (لم يكن يقصــد بالوزير – الناظر – صاحب كرسي وزاري في مجلس الوزراء، انما هي اعلى رتبة في السلطة ينعت حاملها بصاحب الدولة).
وكان اعضاؤها: الفريق( توفيق باشا) و(كمال بك) – دفتر دار سابق – و(عوني بك) – قاضي شرع سابق- وانيطت سكرتاريتها بشاب يافع من خريجي الكلية الملكية – الشاهانية – في الاستانة، (ممدوح بك).
جاءت الهيأة للعراق وبعد ان طافت في ارجائه قدمت اقتراحات في الامور التي درستها ومن بين هذه المقترحات تأسيس مدرسة حقوق في بغداد.
فلقي الاقتراح قبولاً من حكومة الاستانة، فصد الارادة السلطانية بالموافقة على تأسيسها.
عوائق تحول دون التأسيس
عند هذه المرحلة وقف الاقتراح، على الرغم من صدور الارادة السلطانية، ولم ينفذ الاقتراح في حينه، الا ان قلة من الناس قاموا يبحثون في بغداد عن بناية لهذا المكتب، لم يجدوا الدار التي تصلح لها، الا دار المدرسة التي اسسها المصلح الكبير (مدحت باشا) سنة 1869م. وكانت واقعة في مكان بناية المتصرفية الحالية، وهي اول مدرسة نظامية اسست في العراق، وقد اطلق عليها اخيرا اسم المدرسة الابتدائية الحميدية، فجرى تبديل اسم هذه المدرسة الى مدرسة الحقوق، وكان يومئذ من الاعمال المخيفة التي لا يجرأ عليها احد، وذلك بسبب رفع نسبتها الى السلطان (عبد الحميد) في اسمها، لذلك اهمل تنفيذ المشروع. غير ان هذه الحال لم تحل دون تجاهلها البواعث الخفية لترك المشروع جانبا ومجاهرتها بوجوب فتح المدرسة.
وهكذا سطرنا عريضة طالبنا فيها بتنفيذ الارادة السلطانية لتأسيس مدارسة الحقوق.
وهنا مدَّ السيد (الدفتري) يده الى درج مكتبه واخرج صورة هذه العريضة المقدمة الى رئيس الهيأة الاصلاحية وتاريخها 1908، وهي بخطه وفي آخرها توقيع جماعة من الشباب الراغب في دراسة الحقوق، رأينا بينها عدا توقيع السيد (الدفتري) تواقيع السادة (عبد الله ثنيان والسيد توفيق يوسف السويدي) وغيرهم. ويحسن بنا ان نشير بصدد لعريضة الى اللهجة التي كانت يخاطب بها الولاة في مثل هذا الموقف فقد افتتحت العريضة بما ترجمته من التركية:
عريضة تأسيس مدرسة الحقوق
نسأل الله مصدر الحق الفرد الفياض ان يجعل ولي نعمتنا من غير امتنان، ملجأ المعارف وملك الملوك المكتسبة في الحكمة وان يبقيه زينة السدة الرفيعة الشأن، العزيزة المقام الى ابد الآباد، آمين.
ان أشعة الكمالات المشتقة من مآثر البدائع التي لا تحد ولا تحصى، انما ازدانت بها ساحات الرقي في العهد ذي الشوكة، سيدنا الحافل بتقدم يغبطنا عليه الاسلاف، قد بهرت عيون شكراننا وعبوديتنا ورقينا قد حملتنا على تكرار الواجب الاداء لإطالة عمر الشوكة الامبراطوية. وواصلت العريضة بعد هذه المقدمة الالتماس من الوزير الاسراع بفتح المكتب الذي يعد تأسيسه ثمرة من مساعيه، بالاسلوب التقليدي لتلك السطور واختتمه بالدعاء مرة ثانية بحياة السلطان.
وهنا تبسم الدفتري وقال: أرأيتم هذا الأسلوب، في تلك الايام التي طواها الدهر؟
اندفع الاستاذ (رفائيل بطي) بسؤال عن منشئ هذه العريضة التي هي بخط (الدفتري) فأجاب (الدفتري) ضاحكا:
ان المنشئ لهذه السطور هو البلاغة التقليدية لذلك الزمن، واراك يا استاذ مستمراً في نبش كل صفحة تقف امامها، فأجاب الاستاذ (رفائيل) قائلا: انى اعرف لسيادتكم روائع ناطقة تتحدث بلسان الزمان يرف عليها الروح السائد في بيئتكم.
واخيرا اجاب (الدفتري) مستمراً في حديثه، فقال ان السكون الجاثم الذي لم تكن مثل هذه العرائض قديرة على تحريكه لم يطل امده، حيث تراكضت الحوادث وأعلن الدستور في 23 تموز 1908م.
ناظم باشا وكيل والى بغداد
ولما تنقضِ ثلاثة اسابيع على تقديم العريضة الا وحدث ان تولى (ناظم باشا) رئيس الهيأة الإصلاحية، وكالة ولاية بغداد قبل عشرة ايام من اعلان الدستور، إذ نقل واليها (حازم بك) الى ولاية سيواس، فكأن الاقدار الحسنة قد هيأت لهذا الرجل الكبير الفرص لكي يقوم بنفسه بإدارة البلاد التي جاء يدرس فريقة إصلاحها، وان يتم على يديه انشاء المدرسة التي اقترح تأسيسها، اذ انتفت تلك الاعتبارات الادبية بإعلان الدستور، واوجده الظرف المناسب على رأس السلطة التنفيذية بتسلم وكالة الولاية، فأُصدرت الاوامر فوراً للقيام بكل ما يلزم لترميم تلك البناية وتجميلها، ونشط العمل بسرعة ودقة وعين يوم 19 اب 1334 رومية المقابلة ليوم الثلاثاء 1 ايلول 1908م للاحتفال بافتتاح الكلية اذ يقع في هذا اليوم عيد جلوس السلطان (عبد الحميد)، واعلن الاستعداد لقبول الطلاب في الكلية.
فتهافت على دخولها حملة شهادة الدراسة الاعدادية في السنوات الاخيرة.
حفــــــــــلـة الافـــتـــــتـاح
اقيمت حفلة الافتتاح عصرا، وقد حضرها كبار الموظفين واركان الجيش ووجوه البلد الذين شهدوا المراسيم واقفين يملأ جمعهم الطنف – الطارمة – وساحة الدار وصدحت الموسيقى. بدأ الاحتفال بخطاب موجز القاه وكيل مدرسة الحقوق تضمن الترحيب وما يناسب المقام واشار فيه بأيادي (ناظم باشا)، وتأسيس هذا المعهد العلمي ودعا للدولة بالازدهار ولجلالة السلطان بالنصر والتوفيق.
فانبرى (ناظم باشا) مرتجلا خطبة استعرض فيها الاوضاع الاجتماعية والادارية في العراق وفي الطليعة النهضة العلمية، وما اوصى به عن منهج الاصلاح التي تمثلت له في المبادرة الى انشاء مدرسة حقوق.
وقد أتى على ركن العدل والمكين الذي يشاد به حكم الدولة ونهضة الشعب. وكان يتكلم بهدوء ويزينه الوقار، ويتدفق في خطابه بأفكار متسلسلة مما نمَّ عن نشأته ودراسته الراسخة، اذ هو من متخرجي كلية الحقوق في استنبول ومن اساتذتها، كما شغل في الاستانة منصب المدعي العام للتمييز في مجلس شورى الدولة.
واطرق الاستاذ (الدفتري) برهة كمن طرأت على ذهنه خواطر ماضية، ثم قال:
لازلت اتذكر ما قاسيناه في ذلك اليوم من شدة الحر عند ركود الهواء، ومما ضيق انفاسنا تكاثف البخار المتصاعد من الجداران المطلاة حديثا بالجص القوي، وحالة الوالي (ناظم باشا) في موقفه الخطابي والعرق يتصبب من وجهه، وهو لا يحاول ان يمسحه بمنديله محافظة على تقاليد اجتماعية عهدئذ، لا تتسامح مع الشخصيات الكبيرة في الاتيان بأية حركة مثل هذه، مهما كانت ضرورية او صحية.
خطاب الاستاذ جميل صدقي الزهاوي
وأعقب الباشا خطيب او خطيبان لا اتذكر بالضبط اسميهما، ثم تقدم الاستاذ (جميل صدقي الزهاوي) وتلا خطابا، وهنا سلم اليَّ محدثي الكريم خطاب (الزهاوي) مطبوعا في مطبعة دار السلام كملحق لجريدة يومية، وهذا نصه:
إن الشمس التي تدفئنا بحرارتها وتنير فضاءنا بأشعتها، اُم لعائلة كبيرة من السيارات، أقربها اليها عطارد وابعدها نبتون، تتحرك معا بانتظام في السماء عميقة تحتوي على
الملايين من امثالها. وارضنا التي نعيش عليها احدى كواكب هذه العائلة السماوية، تدور حول امها كل سنة دورة تتحرك مع دورانها هذا الى جهة من الفضاء تابعة لحركة أمها الى تلك الجهة. وهذه الام شفيقة على بناتها (اللائي ولدن من بطنها تربطهن الى نفسها بروابط قوية من) الجاذبية لا تسمح لهن بالبعد، خوفا من ان يضللن في بيداء الفضاء الذي لا تتناهى حدوده.
والارض في دورانها حول الشمس تعرض كل ستة أشهر أحد طرفيها لأشعة أمها، فتحصل من ذلك الفصول السنة، فاذا كان الوقت في نصفها الشمالي صيفا، كان في النصف الجنوبي شتاء، وإذا كان في هذا النصف شتاءً كان في النصف الاخر صيفا.
وهكذا الربيع والخريف تتعاقب على الارض ويبقى كل منها ثلاثة أشهر ويمر بسلام فيعقبه الاخر. الربيع مبدأ الحياة وغيدانها والصيف زمن انبساطها ونشاطها، والخريف آخرها ومبدأ الموت، والشتاء جمود في الحياة وزوال لها.
وفي الربيع تخرج الارض زخرفها مما ينبت على وجهها من الازهار وتكسو الاشجار أجمل حللها السندسية من الأوراق، وفي الصيف تربو الحرارة وتبسق الاشجار وتنضج الثمار وتكثر البقول وتعُم الفائدة. وفي الخريف يبدأ البرد ويسطو على الحقول الخضراء، فيزول اخضرارها وعلى اوراق الاشجار الخضراء فتصفر وتتساقط من اغصانها، وتعبث بها ايدي الزوابع الاثيمة.
فاذا جاء الشتاء دب الموت في اغصانها وعم، ولم يبق لروح الحياة فيها من أثر يشاهد. ولكل من هذه الفصول المتعاقبة على وجه الارض أمد معين لا يتجاوز مدة ثلاثة أشهر كما شرحنا انفا، واختلافها هذا سنة الله في ارضه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ولله تعالى في حكومات الارض سنة اخرى تضارع هذه السنة لا تبديل، ألا وهي تعاقب فصول عليها مثل فصول السنة من شتاء وربيع وصيف وخريف، غير ان فصول الحكومات ليست مدتها ثلاثة أشهر كفصول السنة، بل هي طويلة تمتد الى سنين، وتختلف عنها من هذه الجهة، فاذا جاءنا من ربيعها مشروع قانونها الاساسي وهو شجرة الحرية تنمو وتخضر أوراقه، وبدأت الحياة تسري الى اغصانه، وهي العدل والمساواة والمعرفة، وإذا حل صيفها بسقت شجرة الحرية واثمرت، ونال كل واحد نصيبه من حلاوة ثمرها.
وإذا ألمّ الخريف اخذ القانون الاساسي يهمل شيئا فشيئا وضعفت الحياة السارية في عروق شجرِه، واصفرت اوراقها وسقطت على التراب ولعبت بها زوابع الظلم والاستبداد.
وإذا كان الشتاء، وهناك الويل الأكبر، عم الفساد واختفى النظام، وبهض القوي للضعيف، وهضم حقوق الانسان، ولم يبق للعدل والمساواة والمعرفة من أثر، فلا يرى حينئذ من شجرة الحرية إلّا اغصان جرداء لا أوراقَ عليها. وقد طال شتاء الحكومة العثمانية أكثر من ثلاثين سنة، توالت فيها زوابع الفتن دانت لها الإنسانية، ولم تبق من شجرة الحرية التي غرسها بإذن ارادة السلطان ابو الاحرار (مدحت باشا) طيب الله ضريحه قبل ثلث قرن، لا ورقاً ولا غصناً الا وبعثرته او كسرته.
شتاء لعمرى لياله سود طويلة، وَجوُّه مكفهر بما عليه من طبقات السحب الكثيفة، ترتعد من هوله فرائض الهيكل البشري، وترتجف من شدته اعضاء الجسد الانساني. شتاء ينظر الى الناس بوجه عبوس قمطرير، لا شمس على أفقه، تكاد الارواح تجمد في اجسادها من برد زمهريره.
نعم طال شتاء الحكومة العثمانية مدة ثلث قرن، فبرد روح الهيئة وخربت ربوع العدل والمعرفة، ولكنه لم يعدم بفضل الله خالق الفصول ومفرج الكروب، ربيعا يكسر من برودته ويشتت من سحبه المتكاثفة، فتبزغ من خلالها شمس العدل، تنجاب بأنوارها ظلمات الاستبداد، وتبسم لها رياض الآمال، وينزل من حين الى حين مطر السلامة، فيخضر اديم الارض وتأخذ شجرة الحرية تحيا بعد الموت وتورق اغصانها الجرداء، ويهب نسيم الدعة عليها فيهزها هزا خفيفا، تنبسط لرؤيته ارواح الناظرين، وتصدح بلابل الخطباء فوق منابرها العالية فتصفق طربا لها اكف السامعين.
وفي عقب هذا الربيع الزاهر، صيف سماؤه صافية وشمسه مشرقة واشجاره باسمه، تشرئب اليه ارواح الامة على اختلاف طبقاتها، الا وهو زمن تآلف المبعوثين في عاصمة البلاد. اسأل الله ان يعجل بحلوله المنتظر، فنجني من اثماره في فمنا ونستظل بظل اشجاره الوارف، ولا يبقى من الشتاء الماضي الذي اخافنا بزوابعه المتكررة، الا ذكر لئيم يلعنه التأريخ ويلعنه اللاعنون.
والفضل كل الفضل في مجيء هذا الربيع الحسن الذي اخضرَّ بحلوله روض الآمال اولاً، لجلالة مولانا السلطان خلد الله ايام سلطنته تخليدا، وشيد اركان حكومته تشيدا، لا يقوى على هدمه اعداء الحرية الخائنون مادامت الدنيا التي حسنت اليوم في اعيننا فأحببناها بعد ان كانت قبيحة. ثانياً لأحرار مكدونيا الابطال الذين مهدوا بسعيهم الجليل سبيل نيلها مما سيخلده التاريخ محمدة لهم تذكر مادامت السماوات والأرض.
وقد تألفت كما علمتم في بلدنا بغداد كغيرها من البلاد العثمانية جمعية كبيرة ذات شأن من الاحرار باسم (الاتحاد والترقي) غرضها الاول الذي ترمي اليه هو، محافظة شجرة الحرية – القانون الأساسي – من كل قوة لئيمة تمس اغصانها الجميلة وأورادها النضرة بسوء.
فهي تفقأ كل عين تنظر اليها شزرا، وذلك في حماية جابر القلوب المنكسرة جلالة مولانا المتبوع الأعظم، ورعاية وزيره الخطير رئيس الهيأة الاصلاحية ووكيل والي ولايتنا دولة (ناظم باشا) وعناية معتمده ومعتمد الامة كبير فيلقنا السادس، والوكيل قومندانه عطوفة (محمد فاضل باشا) وفقهما الله تعالى لما فيه خير الرعية وصلاحها، وغرضها الثاني هو تصميم المعارف في بلدنا هذا المحروم حتى ينكشف عن ابصار كل الامة عمى الجهل، وسبيل ذلك تأسيس مدارس ابتدائية تكفي حاجاتنا، وجوامع كلية للعلم تصدر رجالا اكفاء تناط بيد قدرتهم وظائف الحكومة، وتمشية مصالح الرعية كهذه المدرسة الحقوقية التي تعدها جمعيتنا خطوة واسعة في سبيل تقدمنا ونجاحنا المنتظر. فجمعينا نشكر من صميم فؤادنـــــــــا مروج تأسيسها الكبير وكيل والي ولايتنا دولة (ناظم باشا) وفقه الله تعالى لتأسيس امثالها.
والافاضة فيما ينجم عن مدرسة علم الحقوق هذه من المنافع الكبيرة تطيل من خطبتي فأكتفي بما اورده حضرة الخطيب المصقع الذي تقدمني.
جميل صدقي الزهاوي
في عدد الغد خطاب السيد (محمود صبحي الدفتري) ومعلومات أخرى في الموضوع.
الحلــقة الثانية

من مذكرات
(محمود صبحي الدفتري)
المنشورة في العدد (515) من جريدة الأهالي البغدادية
بتاريخ 2/9/1960
الذكرى الثانية والخمسون على تأسيس كلية الحقوق العراقية معلومات لم يسبق نشرها عن هذه الكلية رجعنا فيها الى الأستاذ (محمود صبحي الدفتري) أول طالب في الكلية
ملخص ما نشر يوم أمس: مرت يوم أمس – أيلول 1960- ذكرى مرور اثني وخمسين عاماً على افتتاح كلية الحقوق العراقية ، اقدم كلية عراقية في تاريخه الحديث. ولهذه المناسبة فقد رجعنا الى الأستاذ (محمود صبحي الدفتري)، أول طالب سجل في الكلية وقد كانت تسمى حينذاك – مكتب الحقوق- نسأله تزويدنا بمعلومات عن ظروف تأسيس هذه الكلية وافتتاحها، فعلمنا منه أن عمادة كلية الحقوق كانت قد طلبت منه نفس هذا الطلب في أواخر سنة 1951، وان تلك المعلومات دونت بحينه لتنشر في دليل كلية الحقوق، غير ان ذلك الدليل لم ينشر.
وقد حصلنا على تلك المعلومات وبدأنا بنشرها يوم أمس.
كان ما نشرناه يوم أمس هو ظروف تأسيس مكتب الحقوق باقتراح (ناظم باشا) رئيس الهيئة الإصلاحية للقطر العراقي ثم وكيل والي بغداد وبمساعيه وجهوده تم افتتاح مكتب الحقوق في بناية المدرسة الحميدية، وقد كانت في محل متصرفية لواء بغداد اليوم وخطاب (ناظم باشا) وخطاب (جميل صدقي الزهاوي) وفيما يلي بقية هذا الحديث:
وبعد ان فرغ الأستاذ (الزهاوي) من خطابه تقدمتُ الصف – والكلام هنا للأستاذ (محمود صبحي الدفتري) – بضع خطوات وألقيت الخطاب الذي أعددته عن زملائي الطلاب الذين سجلوا في الكلية.
ودفع الينا نص الخطاب باللغة التركية في حينه وهو يشبه ملحق لصحيفة يومية، وهذه ترجمته الحرفية:
خطاب محمود صبحي الدفتري
مواطني الاحرار
هنا نحن نحتفل اليوم بافتتاح مكتب الحقوق في بغداد، معهد سيغدو مبعثا لذيوع الحقائق في مؤسساتنا الاجتماعية القائمة في ميادين المعرفة الشعبية الفسيحة في الولايات بغداد والموصل والبصرة، مما سيدل السالكين على الطريق الواسعة الموصلة الى العلم والفضل.
ولما كنا طليعة المنتمين الى هذا المعهد، فواجبنا ان نلقي خطواتنا الأولى في مضمار التقدم وان نرسخ في اذهاننا عبارة ” ليس للإنسان الّا ما سعى “.
ان اقليمنا العراقي حري بان يصبح جنة غناء للأقاليم العثمانية الواسعة الارجاء، فقد اناط بي رفاقي الخطابة في هذا الحفل، بصفة كوني اول من سجل اسمه في هذه المدرسة العليا، فأعلن باسمهم لأبناء وطننا من الحاضرين الكرام:
باننا نعاهدهم على الجد المتواصل، بعزم يلائم ما أذهلنا به العالم من اعلان تحررنا وما غمرنا من الانتعاش بنشر المساواة والاخاء والحرية بين ظهرانينا.
أيها السادة
من البداهة عندكم ان العلم والثقافة هم الوسيلة الوحيدة، لإنهاض الامة ورقي البلاد، ورفع شأن الدولة وصيانة كرامتها. وان خزائن الثروة لا تفتح مغاليقها بغير مفتاح المعرفة.
ان شمس العلوم قد ملأت الشرق بفيض انوارها حيناً من الدهر.
وما ان غشتها غمامة من ظلم الظالمين وعسفهم حتى غابت عن الأنظار متوجهة نحو سماء الغرب لتبزغ من أفقه، وها هي تسطَع هنالك بينما بقينا في ظلام الجهل. لست أدرى هل اوقعتنا الأيام في وهدة النسيان؟ هل نسينا أن وطننا كان منارة العرفان، بحيث تتلمذ الاوربيون في المدارس التي شادها اجدادنا، كما كانت بغداد خزانة لكتب العالم.
لماذا قعدنا مواصلة نشر العلوم مقتفيين إثر اجدادنا الذين خلبوا لب (شارلمان).
ليت شعري أعوزتنا تلك الكفاية، ام فقدنا تلك الحماسة.
ان صفحات الارتقاء الأوربي مستمدة في مرجعها من سفر المعرفة الذي الفه اجدادنا العظام.
ولكن لنا عذر، ولقد كنا في وضعنا الذاهب اشبه بآلة تشغيلها بيد رؤسائنا فاقتلع هؤلاء القائمون على الالة أدوات تدويرها فتراكم عليها صدأ جهودنا.
وهكذا انتهينا الى ما نحن عليه الان، كلما فتحنا عيوننا احسسنا بسحب الجهل تلفنا لفا. لقد عشنا في خوف وذهول وكنا مجهدين نلمح من بعيد كواكب العلم الذي ينير العالم الأوربي.
غير ان بدر الحرية الذي طلع اليوم في سماء العدل مبدداً غياهب الاستبداد الذي طالما جللت آفاق الافاق العثمانية، قد انار سبيل التطور الواضح امام ابصار امتنا، وبخاصة ابصارنا نحن الشباب الذي وضعنا اقدامنا على الدرجة الأولى من سلم الارتقاء، وأخذ ينادينا ” أن هيّا على السُّرى”.
فعلينا اليوم ان نحيي أرواح اسلافنا بطلائع اجتهادنا، فنعيد عمران بلادنا التي غدت انقاضاً ماثلة للعيان، وان نوقظ امتنا من غفوة الجهل.
ان الواجب يدفعنا الى ان نَهِبَّ فنبدو مثالاً للمثابرة في العمل.
مواطني الأعزاء
ان المدرسة الي نجتمع فيها الساعة كانت اول مدرسة أنشئت للتعليم، ثم اخنى عليها الإهمال ثلاثين سنة، وفي هذا اليوم الاغر يعاد وضع أساسها العلمي الجديد بفضل اليد البيضاء لنصير العلم (ناظم باشا) وقد سميت – مكتب الحقوق – وها نحن اولاء نحتفل فخورين بافتتاحها مجددا، في ظل الحرية ناشرة لواء العدل.
من ذلك يقتضينا الواجب أيها المواطنون أن نشكر كلنا بلسان واحد وقلب واحد شكراً خالصاً هذا الوزير صاحب المقام الرفيع.
لقد فتحت السعادة أبوابها في وجوهنا من كل صوب ولا يعيق سعينا عائق بعد اليوم، وأصبح بمقدورنا أن نخدم دولتنا وامتنا ما وسعتنا الخدمة، وفي هذا الموقف ينطلق لسان الإخلاص في بالدعاء لمليكنا المحبوب ووالدنا الجليل حضرة مولانا السلطان (عبد الحميد خان الثاني).
رفاقي
أما وعزة وطننا رهن تنفيذ أحكام القانون الأساسي والإدارة الدستورية، فعلينا ان نرفع اصواتنا هاتفين:
ليحيا الملك، ليحيا القانون الأساسي، ليحيا الاتحاد والترقي، لتحيا الحرية.
ولدى اطلاعنا على مضمون هذا الخطاب وجدناه يضيف حيوية ويتناول أموراً جوهرية تتصل بالنهضة الاجتماعية والسياسية في البلاد. كما انه يحوي اعتزازاً كبيراً بمجد العراق القومي والاشادة بتاريخ في عصرهم الذهبي، فبدر هنا فوراً سؤال الى السيد (الدفتري) عن الفارق بين انطلاق الفكر وتهييج الحس في هذا الخطاب وخفوت الشعور والمداورة والرضوخ في عريضة الطلاب المشار اليه انفاً، مع انه لم ينقضِ على الحادثين أكثر من شهرين، فصاح محدثنا:
هذا طبيعي !! تلك كتبت في دور الاستبداد، وهذا أوجدت فكرته في عهد الحرية.
وختم السيد (محمود صبحي الدفتري) وصف الحفلة بقوله:
هكذا انتهت الحفلة بانغام الموسيقى، وانصرف المحتفلون والبشر يطفح على وجوههم والآمال تساور اذهانهم.
شخصية (ناظم باشا) : وسكت لحظة ثم ابان:
أرى ان أعود الى مؤسس هذه الكلية فأروي لمحة من مزاياه وأصدر لكم شخصيته اللامعة، ولعلها خير فرصة لتسجيل مآثر هذا الرجل، ذلك ما يقتضيه منا الوفاء وما يفرضه علينا الواجب.
ولد (ناظم باشا) سنة 1278 ه 1862م في مدينة (يني شهر) التركية، وبعد إتمام دراسته الحقوقية في كلية اسطنبول، أشغل في عاصمة الخلافة مناصب في وزارتي الخارجية ومجلس شورى الدولة، وآخر وظيفة تولاها هناك – الادعاء العام للتمييز في شورى الدولة فوق اشتغاله كراسي الاستاذية في الكلية الملكية – وعين والياً لولاية الموصل وديار بكر وارضروم وقسطموني، وانتدب بعدها رئيساً للهيأة الإصلاحية للخطة العراقية للإقليم العراقي.
وبعد اعلان الدستور العثماني بأشهر قلائل استدعي الى العاصمة وعين والياً لولاية البانية، وقبل أن يتسلم منصبه الجديد اختير وزيراً للعدلية.
وفي الحركة الرجعية المشهورة في 31 مارت 1325 رومية 13 نيسان 1909م، اغتاله الرجعيون خطأً كما يخيل لشدة شبهه برئيس مجلس النواب (احمد رضا بك) الذي يريد الثائرون اغتياله تلك الساعة.
واغتيل خطأً أيضاً في هذه الحركة (محمد رضا أرسلان بك) نائب اللاذقية في مجلس (المبعوثان) العثماني لشبهه القوي بـ(حسين جاهد بك– يالجين) نائب استنبول ورئيس تحرير جريدة ظنين الاتحادية الشهيرة. وعقب ذلك اضطرابات دموية استمرت بضعة أيام وانتهت بزحف الفيلق الثالث من الجيش من سلانيك بقيادة
(محمود شوكت باشا) وخلع السلطان (عبد الحميد) الذي اعتبر محرضاً على الحركة الرجعية وإحلال أخيه ولي العهد السلطان (محمد رشاد) محله.
وهكذا استشهد (ناظم باشا) غير متجاوز السابعة والأربعين من عمره.
كان رحمه الله جم الادب شديد الانتباه في تصرفه، قليل الكلام رصينه، بعيداً عن الغضب في أحرج المواقف، هادئاً في تصرفاته مسالماً في سيره، مع الاحتفاظ بالمبادئ الأساسية. ورغماً عما يجيش في نفسه من نزعة تقدمية ورغبة في الإصلاح، كان يتمسك بالاصول والآداب التقليدية بمثل أرستقراطية رجال (الاستانة) في جيله.
ولا ريب في انكم لاحظتم عليَّ الانطلاق في البحث عن هذه الهيأة الإصلاحية وتأسيس كلية الحقوق ووصف شخصية (ناظم باشا)، وتحدثي في هذه الشؤون تحدث المطلع على تفاصيل الأمور، وأن مبعث ذلك اشتغالي في مكتبه في الهيأة الإصلاحية، وكان المكتب الخاص يسمى يومئذٍ (شفرة قلمي) من يوم تسلم الباشا مهام الولاية بالوكالة الى مغادرته العراق أي نحو ثلاثة أشهر.
وكنت أؤَدي وظيفتي طول وقت الدوام الرسمي وبعده حتى انقضاء النهار، وقد يستدعي تراكم الاشغال احياناً ان نواصل العمل في دار سكناه.
وقد أطلعنا السيد (الدفتري) على بعض المكتوبات الرسمية بإنشاء (الدفتري) وخطِّه وعليها تصحيح (ناظم باشا) واضافاته بقلمه، وهي من الأوراق العزيزة التي يحرص عليها محدثنا.
وهنا سألنا السيد(الدفتري) إذا كان قد توظف في تلك السنة المبكرة في الدولة؟
فأجاب: كلا، كانت الأصول المرعية في دواوين الدولة في ذلك العهد تسمح بقبول شبان يداومون في الوظائف للتمرين ومن غير ان يدفع لهم رواتب، وقد يناط بهؤلاء المداومين اعمالاً رسمية.
وفي يوم انتمائي الى قلم (المكتوبجي) في الولاية – السكرتير الأول – رأى المكتوبجي أن يقدمني الى دولة الوالي في نفس اليوم لمداومتي في الوظيفة، وكانت قد انيطت الى(ناظم باشا) وكالة الولاية قبل أيام قليلة، فأمر فوراً بالتحاقي بالمكتب الخاص.
انها لصفحة مأثورة طوتها الأيام، أذكرها بعاطفة يمازجها الاحترام.
الدراسة في كلية الحقوق: نرجع الى خطوات كلية (الحقوق)، قال (الدفتري): لم يتسنَ الشروع في الدراسة بعد افتتاح الكلية مباشرة، بل تأخر ذلك بضعة أسابيع انشغلت في خلالها الإدارة بإعداد الأساتذة الذين يتحتم حصول مصادقة وزارة (المعارف) في العاصمة على تعيينهم.
لقد تمكنت الإدارة من إيجاد أساتذة لهذه الكلية يستطيع المنصب أن يعدهم أكفاء للتعليم في كلية الحقوق حتى في وقتنا الحاضر، وقد اختيروا من كبار موظفي الولاية من الإداريين والحقوقيين، وكلهم من متخرجي الكليات فوق تمرسهم الطويل في مناصبهم.
وكانت في ايدي الطلاب أما كتب بالتركية ترد من استنبول- وهي ما يدرسه طلاب الحقوق هناك، ولا يجهل المطلعون أن مكتبة استنبول كانت غنية بالكتب الحقوقية ولاسيما الفقهية، مثال ذلك أن شرح المجلة لـ(علي حيدر)، وأشار معاليه الى أحد رفوف خزانته، وهي أربع مجلدات ضخمة تعتبر من احسن المراجع لطلاب العلم في هذا العهد، كما إن شرح (عاطف بك) غزير المادة العلمية الموجزة – أو دفاتر يدون فيها الطلاب محاضرات اساتذتهم.
طلاب الصف الأول: كان طلاب الأول للسنة الأولى من انشاء مدرسة الحقوق مجموعة غريبة في بابها، حيث قُبل جميع خريجي الدراسة الإعدادية كتلاميذ، واختارت الادارة طريقة خاصة نجحت في التطبيق، وهي السماح بحضور الدروس لأي شخص كان بصفة مستمع من غير ان تقيده بإبراز شهادة الإعدادية، إنما كان ]على[ هؤلاء المستمعين أن ينجحوا في الامتحان النهائي للسنة الأولى، فمن اجتاز هذا الامتحان بنجاح رقِّيَ تلميذاً الى الصف الثاني، ومن يرسب في الامتحان من هؤلاء المستمعين يحرم من الدوام في المدرسة.
أما الراسبون من التلاميذ الاصليين، فيحق لهم الإعادة الدراسة في صفهم.
وهنا نجد في الصف الأول من خريجي الإعدادية من الشبان كتلاميذ أصليين، وبجانبهم كهول وشيوخ بأزيائهم المختلفة وعمائمهم ولحاهم، ومنهم حكام التحقيق وكتّاب الضبط في المحاكم ورؤساء الكتّاب في الدواوين وغيرهم.
هل تتذكرون الآن بعض هؤلاء التلاميذ المستمعين؟ وهنا رجع الى ذكرياته القديمة وقال: كان(فؤاد الجيبه جي)، وهو حمو السيد (عبد الباقي عبد الله) مدير البريد والبرق الحالي ( الأهالي: اصبح الآن سابقاً)، وقد توفي في (إستانبول) بينما كان نائباً عن الديوانية في مجلس (المبعوثان) العثماني- في مقدمة الناجحين بتفوق من هؤلاء المستمعين و(عبد الله صائب) والد (نجم الدين صائب) متصرف كركوك الحالي، و(عبدالرزاق الرويشدي) عضو مجلس النواب العراقي سابقاً، والأساتذة (عبدالمجيد آل جميل) و(عبد الحميد الشيخ علي)، وصديقنا (عبد الله بك الشاوي)، وبينهم من التلاميذ الأصليين للصف الأول الأستاذ (رؤوف الجادرجي) وكان يومئذٍ من كبار موظفي الولاية والسيد (نوري القاضي).

الدراسة والموضوعات والامتحان
وقد جعلت الدراسة في الكلية أربع سنوات، وأما الموضوعات فهي لا تختلف عن مواد الدراسة في كلية الحقوق في الوقت الحاضر.
وأما الامتحانات فكانت شفهية كلها عدا الموضوعات التي تتطلب كتابةً بطبعها كالصكوك الحقوقية والجزائية.
والعادة المتبعة أن تجري الامتحانات هيأة قوامها أستاذ المادة الدراسية او اثنان أو ثلاثة تنتخبهم عادة إدارة الكلية من ذوي الاختصاص ومعظمهم من الموظفين والحكام، وكانت الدرجات تعطى من الهيأة الفاحصة سراً من غير أن يطلع عليها أحدهم ما منحه المميز الآخر، ثم تجمع وتقسم على عدد الفاحصين، وحاصل القسمة هو الدرجة المعطاة.
ولم يحدث أن كان عدد الفاحصين أقل من ثلاثة ولا أكثر من أربعة، ويدعى الطالب ساعة الامتحان بحسب درجة تفوقه على زملائه في امتحان السنة الماضية حيث يرتب الطلاب متسلسلين بحسب نجاحهم في السنة السابقة، وكان الأول يذكر كرأس الصف على الدوام والثاني والثالث وهكذا.
وقد جرت العادة أن تقام يوم الفحص – الامتحان – مأدبة غداء للهيأة الفاحصة عند حلول موعد الغداء، إذ لابد أن يستمر الفحص – وهو شفوي – الى ساعة متأخرة بعد الظهر.
ومما هو جدير بالذكر، نشاط الهيأة الفاحصة في العمل في الصباح المبكر، فيتقدم الطالب الأول لأداء الامتحان، ويستمر فحصهم مدة طويلة أحياناً تزيد على ساعة، حيث أن التلميذ الأول لابد أن يكون ذا إطلاع واسع.
ومن ناحية أخرى أن روح المباهاة تبدر عند المدرس لتشجيع الهيأة على الاستمرار. أما الهيأة وهي في بدء نشاطها لتكيل الأسئلة – منتعشة ببرود الهواء صباحاً – كيلاً فيتدفق التلميذ في أجوبته، أما المتأخرون في الصف الذين يمتحنون عادة وقت الظهر عند اشتداد الحر وتراخي الاعصاب، فتراهم في تذمر وانتظار ساعة الحساب في قلق واضطراب، ولكن تكون العادة أن نصيبهم في الفحص لا يتجاوز دقائق معدودة حيث حرارة الطقس في أشدها والهيأة قد أنهكها التعب واستولى عليها السأم، فينتهي الامر على هذه الصورة – صار معلوم ! اشكرك!
وهنا نشأت فكرة جديدة بقبول الطلاب في السنين التالية، إذ بعد الغربلة التي تمت لقبول السنة الأولى، فكرت الحكومة في إيجاد طريقة لقبول الطلاب من الحواضر التي لا تحوي مدرسة اعدادية، فأنشأت شعبة ذات صفين سميت – بشعبة الاحتياط لمدرسة الحقوق –على أن يقبل في هذه الشعبة حملة الشهادة المتوسطة وما يعادلها من دراسات، ودامت هذه الشعبة حوالي سنتين ثم ألغيت.
وكنت قد اخترت وأنا في الصف الثالث للحقوق مدرساً للجغرافية والتاريخ في هذه الشعبة.
هل تذكرون بعض التلاميذ في هذه الشعبة وقد درَّستم فيها؟
لي أصدقاء كثيرون بينهم (محمد زكي) رئيس مجلس النواب سابقاً من متخرجي متوسطة البصرة، ولا أزال أذكر جده وذكاءه واقدامه.
وهذا الصف ايضاً كان يجمع من تجاوزوا سن الشباب ومنهم (حيدر الحيدري) والد السيد (درويش الحيدري) مدير الزراعة العام (أصبح سابقاً)، والأستاذ (عطا الخطيب) الشاعر وعضو مجلس النواب، ولا أذيع سراً إذا ذكرت اسم صديقي الحاج (محمد حسن كبة) وزير الدولة الحالي (أصبح سابقاً)، بين الطلبة النابهين من هذه الشعبة وإن لم يكن يعد يومئذٍ من الكهول.
“في العدد القادم (جمال باشا) يحاول الغاء مدرسة الحقوق”.

الحلــقة الثالثة
من مذكرات
(محمود صبحي الدفتري)
المنشورة في العدد (515) من جريدة الأهالي البغدادية
بتاريخ 5/9/1960
الذكرى السنوية الثانية والخمسون على تأسيس كلية الحقوق العراقية
معلومات لم يسبق نشرها عن هذه الكلية رجعنا فيها الى الأستاذ (محمود صبحي الدفتري) اول طالب في الكلية
ملخص ما نشرناه في العددين السابقين: مرت يوم 1 أيلول 1960 ذكرى مرور اثني وخمسين عاماً على افتتاح كلية الحقوق العراقية، أقدم كلية عراقية في تاريخه الحديث.
ولهذه المناسبة فقد رجعنا الى الأستاذ (محمود صبحي الدفتري)، أول طالب سجل في الكلية وقد كانت تسمى حينذاك – مكتب الحقوق – نسأله تزويدنا بمعلومات عن ظروف تأسيس هذه الكلية وافتتاحها، فعلمنا منه أن عمادة كلية الحقوق كانت قد طلبت منه نفس هذا الطلب في أواخر سنة 1951، وان تلك المعلومات دونت بحينه لتنشر في دليل كلية الحقوق، غير ان ذلك الدليل لم ينشر.
وقد حصلنا على تلك المعلومات وبدأنا بنشرها يوم أمس.
كان ما نشرناه يوم 1 أيلول هو ظروف تأسيس مكتب الحقوق باقتراح (ناظم باشا) رئيس الهيئة الإصلاحية للقطر العراقي ثم وكيل والي بغداد وبمساعيه وجهوده تم افتتاح مكتب الحقوق في بناية المدرسة (الحميدية)، وقد كانت في محل متصرفية لواء بغداد اليوم وخطاب (ناظم باشا) وخطاب (جميل صدقي الزهاوي).
ثم تضمن عدد 2 أيلول خطاب السيد (محمود صبحي الدفتري) اول طالب تسجل في الكلية بالنيابة عن الطلاب، وشخصية (ناظم باشا) مؤسس كلية الحقوق ثم كلمة عن الدراسة في الكلية وأسماء بعض طلاب الصف الأول.
وفي هذا العدد نوالي نشر تتمة الحديث، وبه يختتم البحث.
الوالي (جمال بك – باشا) يحاول الغاء مدرسة الحقوق
قال محثنا: لابد لنا من تسجيل حادثة محاولة الوالي (جمال بك) المعروف بعدئذٍ باسم (جمال باشا)، والذي تولى بعدئذٍ قيادة الجيش الرابع في سوريا ووزارة البحرية – الغاء مدرسة الحقوق – ففي صباح أحد الأيام في أواخر الربيع من سنة 1911، شاع في المدرسة خبر اقتراح الوالي الموجه الى المراجع العليا في استانبول بإلغاء مدرسة الحقوق والاستعاضة عنها تأسيس مدارس ابتدائية، وهي الحجة الوحيدة التي تذرع بها.
وكان تلاميذ الصفوف الأولى والثانية والثالثة مع الصف الأول من شعبة الاحتياط في هياج شديد وكلام واعتراض ووعد ووعيد من كل حدب وصوب في ساحة المدرسة والصفوف خالية، وليس من يجيب الى قرع الجرس داعياً الى دخول قاعات الدرس.
ولقد استمرت هذه الحالة المضطربة مدة غير قليلة، ثم اقترح أحدنا انتداب وفد لمقابلة الوالي في الموضوع، وتم ذلك بانتداب ثمانية أشخاص اثنين عن كل صف وشعبة الاحتياط، وكنت أحد هؤلاء المنتدبين عن الصف الثالث.
وفي طريقنا الى مقر الولاية، وكان يقع بالقرب من ديوان مجلس الوزراء في الوقت الحاضر على ساحل دجلة، اقترحت على رفاقي أن ننتخب اثنين منا للدخول على الوالي ممثلين الثمانية المنتدبين عن المدرسة ضماناً لسلامة المقابلة، وكنا على ثقة تامة من موافقة الوالي على استقبالنا مما جعلنا – وكنت أحد الاثنين – ان نقف في باب غرفة الوالي بعد دخول مرافقه عليه بالاستئذان استعداداً للقائه.
وحدث ما لم يكن بالحسبان إذ سمعنا الوالي يقول مخاطباً مرافقه – وبصوت عال ولهجة صارمة – ادفع هؤلاء إذ ليس لهم شأن معي، فليذهبوا الى مدير المعارف.
ومع إن المرافق أخبرنا بما تلقاه من أمر بلهجة رقيقة، غير أنا كنا سمعنا ما تفوه به الوالي بوضوح، فعدنا الى المدرسة وأخبرنا رفقاءنا بما وقع، تاركين أمر معالجة الإلغاء، متمسكين بموضوع هذه الإهانة التي لحقت بطلاب المعهد.
وهنا بلغت الحماسة أشدها واحتدم اللغظ وكثرة الاقتراحات، فرأى البعض منا تهدئة الحالة والاستمرار في السعي لتحقيق الهدف في جو هادئ.
واستقر رأينا على تأجيل الاجتماع الى عصر اليوم، وحيث أن المدرسة مقفلة بعد الظهر، ارتأينا الاجتماع في دار أحد الطلاب، ولما كلفني بعض الزملاء أن نتخذ دارنا محلاً للاجتماع اعتذرت عن قبول ذلك بسبب أن رب الدار – والدي – يشغل حينذاك منصب المدعي العام، حيث لوظيفته علاقة مباشرة بأمثال هذه الاجتماعات غير المصرح بعقدها رسمياً. وعلى إثر ذلك تبرع أحد زملائنا بعقده في داره وهو السيد (لطفي راقم) الذي كان يسكن في دار (رشيد باشا الزهاوي) – لا زالت الدار باقية خلف جامع السراي.
وفي عصر اليوم المذكور امتلأت الدار بالطلاب وعلت فيها الضوضاء، وتعددت الخطب النارية التي يدفع اليها فوران ]المشاعر[، مما حدا بنا الى ملاحظة صعوبة اتخاذ أي قرار في مثل هذا الاهتياج، وعليه اقترحنا أن يفض الاجتماع بتخويل المنتدبين الثمانية اتخاذ القرارات اللازمة لمعالجة الوضع.
وهنا اتفقنا سراً نحن الثمانية أن يكون الاجتماع ليلاً في دارنا – في دار المدعي العام – إذ أن الحركة يصح تأويلها باجتماع بضعة تلاميذ في بيت أحدهم للدرس والمراجعة.
وأطرق محدثنا وقال لابد لي من أن أذكر لكم حادثاً وقع لنا في عصر ذلك اليوم، إذ بعد انفضاضنا من الاجتماع من دار السيد (لطفي راقم)، ذهبت وإياه سوية للاستراحة وتناول فنجاناً من القهوة في الكازينو الواقع في رأس الزاوية عند منعطف شارع المتنبي واتصاله بشارع السراي والتي لا تزال متخذة مقراً بلدياً، وبينما نحن جالسان جاءنا أحد أفراد الشرطة – بدرجة مفوض وخاطب رفيقي السيد(لطفي) طالباً منه الايضاح عن كيفية الاجتماع الذي وقع في داره.
ولاحظت ارتباكاً قليلاً ظهر على رفيقي لهذه المفاجأة، وقبل أن يبادر بالجواب كلمت الشرطي – المفوض – بلهجة قاطعة: إن وجائبكم في الامر كبوليس تنحصر في فض الاجتماعات التي تزعمون أنها غير قانونية كشأن المداخلة في الجرائم المشهورة، أما بعد انتهاء الاجتماع فأمر التحقيق عنه مناط بالمدعي العام، اذهب من فضلك واخبر من أرسلك بما بينته لك.
ملاحظة: لإن القوانين السائدة عهدئذٍ لم تكن تخول البوليس حق إجراء التحقيق في مثل هذه الأمور. وعلى إثر ذلك أدى لنا البوليس التحية وذهب الى غير رجعة.
وعلى إثر ذلك التفت الي رفيقي الذي كان حابساً أنفاسه وقال: أفرم عليك، “خوش جيبة جبتها”. وتبسم (الدفتري) وقال تلاحظون اننا طبقنا درس (الجزاء) الذي كنا ندرسه في ذلك اليوم برأس هذا الشرطي.
نعود الان الى ما عملناه نحن الثمانية المنتدبين في تلك الليلة عند اجتماعنا في دارنا، وعلى الاصح – في دار المدعي العام – لقد كنت باكورة اعمالنا تأسيس جمعية رسمية بعنوان – جمعية مكتب الحقوق في بغداد – لكي نضفي على اجتماعاتنا صبغة قانونية، وفي خلال الاجتماع الذي دام نحو اربع ساعات فبلغ منتصف الليل، تم تدوين النظام لهذه الجمعية وكتابة العريضة التي قررنا تقديمها بصفة كوننا مؤسسين لهذه الجمعية.
وقد لاحظنا في اول الاجتماع ضرورة إيجاد دار لاتخاذها مقراً للجمعية، كما ينص عليه القانون بضرورة ذكر مركز الجمعية في العريضة، فاستدعينا حالا مختار المحلة، وكانت داره قريبة من دارنا وطلبنا منه أن يجد لنا داراً خالية مهما كان شكلها، وقبل أن تنقضي ساعة من الزمان عاد الينا المختار وهو يلهث من التعب وبيده مفتاح الدار المطلوبة.
وكانت من جملة مقرراتنا لتلك الليلة كتابة برقيات احتجاج شديدة اللهجة الى الصدر الأعظم ووزيري الداخلية والمعارف في استانبول وصوراً منها الى جميع مبعوثي – نواب – العراق ]في مجلس المبعوثان – النواب – في استانبول[.
وكنا قد أرسلنا البرقيات الى دائرة البرق فوراً قبل تقديم بيان الجمعية، إذ ان إرسال مثل هذه البرقيات كانت غير محظورة قانوناً، إذ هي عبارة عن شكوى ومطالبة برفع الحيف عنا.
وفي الغداة، ذهب اثنان منا – وكنت أحدهما – الى مقر الولاية حاملين عريضة بتأسيس الجمعية مرفقة بمنهاجها، والطلب موقع من المؤسسين مختومة بختم الجمعية الذي اعددناه بسرعة. وكان مضمون العريضة على وجه التقريب ما يأتي:
نحن الموقعين أدناه قررنا تأسيس جمعية باسم (جمعية الحقوق في بغداد) غايتها تأكيد حقوق الدراسة والمحافظة على كيان المدرسة وحقوقها العلمية والإدارية – نقدم الى دولتكم في طيه منهاج الجمعية المذيل بختمها القانوني، وقد اتخذنا الدار الواقعة في محلة الحيدرخانة والمرقمة – كذا – مركزاً لجمعيتنا هذه، نرجو التفضل بإجراء ما يلزم لمنح الاجازة اللازمة في هذا الشأن.
ولما كنا قدمنا عريضتنا هذه، في اليوم – كذا – والساعة – كذا – نتشرف بإبلاغ دولتكم باننا سوف نباشر بأعمال جمعيتنا خلال ثمانية وأربعين ساعة من تقديم هذه العريضة كما يخولنا قانون الجمعيات في مادته الفلانية.
يظهر أن الوالي(جمال بك) كان متابعاً لحركاتنا وسكناتنا، ولا شك في أن ذهابنا بهذه الطريقة ينم عن عزم أكيد أدركه في حينه، فحال اخبار مرافقه بطلبنا نحن الاثنين ملاقاته، استقبلنا فوراً وهو في وسط مكتبه، وبعد قراءة خاطفة للعريضة الموجزة جلس الى مكتبه وذيل العريضة بإشارة – على عجل – الى مدير البوليس ثم مدير المعارف، وهذه ترسل الى إدارة المعارف من غير أن تعود الى دائرة الوالي، ونهض وسلمنا العريضة وأخذ يقول: اهنئكم على إقدامكم هذا، وأدعو لجمعيتكم بالخير والتوفيق، وإني مستعد لقبول رئاستها الفخرية، راجعوني حالما تعترضكم أية عرقلة للمشروع.
غادرنا الوالي بعد أن يحيناه بكل جد من غير أن نعلق على كلامه أي تعليق.
واستطرد السيد (الدفتري) قائلاً:
لا شك في أنكم تقدون الرجة العنيفة التي حصلت في البلد من جراء هذا الحادث والاضطراب الذي تولد عند جميع ذوي العلاقة بهذا الشأن، وما يتحمله الموضوع من تأويلات واشاعات مما يتولد عادة في مثل هذه الأحوال، وبخاصة في وقت كانت الحكومة المركزية في الاستانة في مسيس الحاجة لتهدئة الخواطر في انحاء السلطنة، يضاف الى ذلك ما قام به نواب العراق في مجلس المبعوثان من مراجعة وشكوى في هذا الصدد.
وقال محدثنا السيد (الدفتري): أتذكر جيداً البرقية التي تلقيناها من السيد (طالب النقيب)، وكان نائب البصرة في المجلس العثماني وطبيعته تتصيد مثل هذا الظرف، وهذا نصها:
” إن الايدي التي تمس مدرسة الحقوق تقرر استئصالها من جذورها “.
وهكذا تطور الحادث الى مشكلة أساسية فيما يتصل بالوالي نفسه، ولا شك في تلقيه ايعازاً قطعياً بلزوم العدول عن رأيه وترك الموضوع الذي كان هو ذاته قد شعر بخطورته من يومه الأول.
إن (جمال باشا) المتغطرس الذي يندفع بعجرفة من غير تروٍ، كان يجيد ايضاً صنعة التراجع بغير انتظام، كما وقع فعلاً في هذا الحادث.
وبهذا انتهت محاولته الفاشلة بإقفال مدرسة الحقوق ببغداد، ولكن في عين الوقت أراد أن يصلح ما بينه وما بين الطلاب، فطفق يجس نبض التلاميذ لمعرفة إذا كانت المدرسة ترحب باستقباله استقبالاً ودياً عند زيارته لها، ولكننا تمسكنا بشدة في أن تكون الزيارة رسمية يقوم بها الوالي متى شاء بدون أن يتلقى من الطلاب أو من يمثلهم أي خطبة ترحيبية. وانتهى الامر عند هذا الحد.
أما الوالي فقد سلك سلوكاً حاول فيه أن يسمع طلاب مدرسة الحقوق عن حسن نواياه ورغبته في دوامها وتقدمها.
كما لم تظهر منه بادرة أخرى تغيظ الطلاب أو من تزعم حركة مقاومته. وظلت المدرسة مواصلة سيرها الى احتلال القوات البريطانية بغداد.
وقد خرّجت المدرسة أول قافلة من طلابها سنة 1912، أي بعد دراسة أربع سنوات.
انتهت المذكرات –
المصـــــادر
ابراهيم الدروبي، البغداديون اخبارهم ومجالسهم، مطبعة الرابطة، بغداد، 1957.
احمد مجيد الحسن، تاريخ نقابة المحامين العراقيين، مطبعة الكفيل، كربلاء، 2019.
كلية التربية ابن رشد، 2013.
توفيق السويدي،
1.وجوه عراقية، دار الريس للكتب والنشر، لندن، 1987.
2. مذكرات نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية، الذاكرة للنشر والتوزيع، بغداد، شارع المتنبي، 2011.
د. غادة موسى رزوقي، مدينة الحكايا، وزارة الثقافة، اتحاد الناشرين، 2013.
فاضل بيات، المؤسسات التعليمية في المشرق العربي العثماني، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستانبول، 2013.
مير بصري، اعلام التركمان والادب التركي في العراق الحديث، دار الوراق للنشر، لندن، ط1، 1997.
الجرائد
جريدة الأهالي البغدادية، الاعداد (414، 415، 416) للأيام 1 و2 و5 أيلول 1960.
جريدة المدى، اعداد متفرقة من الملحق.
جريدة التآخي الاعداد الصادرة في 26/12/2016 و3/1/2017 و5/1/2017.
مواقع الكترونية
العراق أيام زمان.
الكاردينيا.
ويكيبديا.
معجم المعاني.

أحدث المقالات

أحدث المقالات