لا أحد ينكر على العراقيين قدراتهم الخلاقة وقابلياتهم الابداعية في كافة المجالات وعلى مر العصور، كيف لا وهم بناة اول حضارة في تاريخ الانسانية، فمنهم صدرت رسوم الأبجديات وخرائط البحار والعمران والسدود والجسور والقلاع والقصور. ومنهم اخذت الشعوب علومها وصناعتها وأسفارها وثقافتها. وظل العقل العراقي يواكب الحركة الانسانية في شتى مجالات الحياة وتفوق في العديد منها وصار عملة نادرة تتسابق عليه المستشفيات الاوربية، في مجال الطب، والشركات العالمية في مجالات الهندسة والاقتصاد، ووكالات الفضاء في مجالات الفلك، كما سجل الملاك الفني الوسطي العراقي أعلى نسبة في العالم العربي من حيث التقنية والابداع والتعامل مع الآلة الحديثة. لكن هذه الطاقة الابداعية كانت الضحية الاولى لإستبداد السياسات الظالمة التي تناوبت على حكم العراق وخاصة في تاريخه الحديث. فقد حاولت تلك السلطات، بأساليبها الخبيثة في الترغيب والترهيب وتمكنت من تسخير تلك الطاقات لأغراضها وتحقيق اهدافها في محاولة لتحجيم ومحاصرة تلك الكفاءات ووضعها امام خيارين لا ثالث لهما :-
اما تنفيذ املاءات السلطة ذات التوجه الحربي والصناعات التدميرية “فيما يخص الكفاءات الهندسية وطواقمها الوسطية الكفوءة”.
أو الصناعات الكيمياوية ذات التدمير الشامل بالنسبة للملاكات الطبية واجبارهم على اعاقة الخصوم بالسموم وبتر الأعضاء والتشويه وصلم الآذان، وحصر الطاقات الأخرى في مهن وصناعات مشابهة خاضعة لسلطات عسكرية وتعامل مذل ومهين.
وأما الفرار الى خارج العراق ووضع تلك المؤهلات في خدمة شعوب أخرى وأوطان أجنبية. هذا اذا تمكن المعني من الافلات من زمر السلطة ومخابراتها مع انها تابعت البعض من العلماء والكفاءات وقامت بتصفيتهم حتى وهم خارج العراق.
وبسقوط السلطة الاستبدادية وحلول عهد جديد ومع تطلع العراقيين بصبر نافذ لميلاد عراق ديمقراطي حر تطلعوا بنفس العيون الى طاقاته الكامنة المتمثلة بالكفاءات والنخب الخلاقة سواءا التي هاجرت تحت ضغوطات السلطات الجائرة او التي لا زالت مترددة في الدخول في عملية البناء الجديدة لسبب أو لآخر ولكن هذه التطلعات أصيبت بالخيبة والاحباط وزادتها يأسا وقنوطا الهجرة المعاكسة ولأسباب مختلفة يأتي في مقدمتها الخوف من التصفيات الجسدية على أيدي الارهاب والتي تتقصد استهداف الكفاءات العلمية وان كانت تلك التصفيات تطال الصغار والكبار ولا تفرق بين الجنس والعمر والدين والمذهب واللون مضافا لهذا السبب قلة فرص العمل لهذه الكفاءات اثر توقف المشاريع الصناعية والزراعية والسياحية والخدمية نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية. ولم تقتصر الهجرة على الكفاءات والنخب بل تبعتها رؤوس الاموال والتي أخلت بقطاعات واسعة يشكل رأس المال الركيزة الرئيسة في نشوئها ما سيضطر الدولة الى فتح الباب امام الاستثمارات الاجنبية.
لقد استطاع العراقيون خلال فترة الحصار “المتفق عليه” في تسعينات القرن الماضي والذي تسببت به السياسات الحمقاء للسلطة السابقة، تنفيذ العديد من المشاريع الضخمة وبامكانات متواضعة وطرق بسيطة باستخدام “المواد المعادة” لعدم توفر المواد الاحتياطية. كل هذا وغيره جرى في ظروف قهر وحرمان وتسلط عسكري دكتاتوري، كانوا مدفوعين بغيرة وطنية ترجمت اخلاصهم لهذه التربة وأثبتت جدارتهم وكفاءتهم غير عابهين بمن يعتلي كراسي السلطة ما دام الهدف هو خدمة العراق.
نثير موضوع الكفاءات العراقية آملين الالتفات من الجهات الرسمية علها تتدارك البقية الباقية من هذه الثروة التي لا تعادلها كنوز الارض وتحميها من الاستهداف والتهجير والضياع واحتضانها واستثمارها والحفاظ عليها كأغلى ثروة وطنية.