في عام 2012 كنت حاضرا مؤتمرا للرجل الأول في التلفزيون الألماني الثاني ZDF ماركوس شّشتر Markus Schächter أمام جمهور من الصحفيين والسياسيين، بمناسبة تسليمه منصبه لمدير جديد، بدأه بجملة مسؤولة رصينة قائلا: “حسنا، مثل هذه الصفقة.. نحن، صحفيات وصحفيي هذه القناة، ندافع في بيئتنا الإعلامية، بعيدا عن المنافسة السياسية عن مفهوم “مستقل” كمبدأ، وهذه القناة، هي ملك المواطنين، وليس الأحزاب”.
أسوأ ما في السياسيين العراقيين الجدد “سياسيو الصدفة”، واسمح لنفسي بأن انعت أغلبهم بغير المحترفين الذين لا يفهمون ولا يفقهون في ابسط شؤون السياسة شيئا، اذ لم اقل علم السياسة، مجاهرتهم من على شاشات التلفزة “الصراحة” حينما يتحدثون عن الشأن العراقي والأوضاع. واحيانا قلب الحقائق بالشكل الذي يتناسب ومصالحهم، لكن اقل ما يكون عقولهم.. من هؤلاء، السياسي المعروف اياد علاوي الذي كثرت لقاءاته في القنوات التلفزيونية وخاصة العراقية في الآونة الأخيرة، وهو يعيد الحديث عن أفكاره العظيمة في كل لقاء.. لكن ما هي أفكار علاوي هذه؟
في آخر لقاء له مع قناة “الفضائية العراقية” في 11 آذار 2020، شدد علاوي كما جرت عادته خلال المقابلات مع وسائل الاعلام المختلفة، منذ اندلاع الانتفاضة الشبابية العظيمة في تشرين 2019 على أهمية أفكاره، مضيفا اليها، منسوبا من “الآراء والخصوصيات” المثيرة للجدل: لقاءاته بالمتظاهرين والتواصل معهم لإنتاج قرار “جمعي” غايته إعادة تموضع الطبقة السياسية وضمان مصالحها السياسية والاقتصادية ـ الامر الآخر، تفسيره مفهوم الاستقلالية، ومن هو السياسي المستقل؟ وربطه بمهمته الخطيرة، المتعلقة بـ: موضوع دعوته لتشكيل حكومة تشارك فيها ثلاثة اطراف. بالنتيجة هدفها مشاغلة الحراك “الانتفاضة” وحرفه عن مسار تحقيق أهدافه. يقترح علاوي على طرفي المعادلة السياسية المحتدمة في البلد، وهما: المتظاهرون المطالبون بحقوقهم من جهة ـ وأطراف السلطة وأحزابها من جهة أخرى، الاتفاق: على تشكيل حكومة مرحلية من اطراف ثلاثة بنسبة الثلث لكل منها: قوى الحراك الجماهيري “المعارضة الشعبية”، المنظمات النقابية والمجتمعية، والقوى السياسية الممسكة أحزابها بالحكم. مشيرا الى أنه قد تحدث على هذا الصعيد مع كل من برزاني ورئيس الوزراء المستقيل عبد المهدي والمالكي والحكيم والحلبوسي والصدر والعامري.. الخ. مؤكدا ترحيبهم بالفكرة واستعدادهم للمشاركة.. لكن ماذا يعني هذا؟، وما الهدف منه؟ سيما وأن عمق الازمة السياسية قد اتسع ولم تسفر كل المحاولات منذ بدء الاحتجاجات واستقالة عبد المهدي عن الاتيان برئيس وزراء وحكومة جديدة غير جدلية لإنقاذ البلد من الانزلاق نحو الأخطر.
لم تأت فكرة علاوي التي يسميها بـ “رائعة” من فراغ بقدر ما تكون محاولة لمواجهة الانتفاضة الشعبية وأهدافها. والاهم اخراج الطبقة السياسية الذي هو جزء منها من عنق الزجاجة وتوفير مخرج سياسي آمن يمنع تعرضها للمساءلة القانونية على ما اقترفته من جرائم إدارية وهدر للمال العام ووضع البلد اقتصاديا على حافة الهاوية، أيضا التستر على سلاح ميليشيات الأحزاب المنفلتة وتبرئة ساحتها من كل الجرائم ومسؤولية الاعتداء على المتظاهرين وقتلهم بدم بارد.. فلا غرابة لان توافق القوى السياسية وأحزابها بفكرة علاوي وهو ابن هذه الطبقة التي أتت للسلطة على ظهر الدبابة الامريكية واعترش على يدها رئاسة أول وزارة فاشلة متهمة بالسرقة والفساد.. ولنجاح مهمته كان لا بد لعلاوي ان يوفر الغطاء المجتمعي لتكون مقبولة أمام الرأي العام. فاقترب من بعض رموز التنسيقيات سيما في بغداد لاختراق صفوتها، وهي مهمة أساسية لقبول الطبقة السياسية المتنفذة في جهاز الدولة ومؤسساتها فكرته.
لو ان علاوي الذي كان في مطلع الستينيات من القرن الماضي أحد المناطة بهم مهمات خاصة في حزب البعث وأحد قادة الحرس القومي بعد انقلاب 63 بملابسه العسكرية في كلية الطب ببغداد وعضواً مساهما في جهازه السري. يريد حقا لعب دور وطني لحلحلة الازمة السياسية وإنقاذ البلد والمجتمع من التدحرج نحو الهاوية، لكان عليه بعد هذه التجربة المريرة من عمر العراق والعراقيين على مدى ستة عشر عاما من اللامسوؤلية، ان يجعل فكرته مصدرا لبسط شروط المتظاهرين للإتيان بحكومة انقاذ وطني من طبقات المجتمع الوطنية النزيهة، من قوى الحراك والنقابات والخبراء والاكاديميين المستقلين وما اكثرهم. بمعنى حكومة كفوءة وشجاعة ونزيهة، لا لقوى الفساد والنهب مكان فيها.
وما كان عليه أصلا أن يدافع في كل مرة عن الطبقة السياسية وتبرئتها من كل الجرائم على اعتبار انها كانت من المعارضة في زمن صدام. وهو الذي يعرف تماما، مثلما يعرف بأن محاولة اغتياله في لندن لا علاقة لها بالشأن الوطني، انما بالصراعات داخل حزب البعث من اجل المصالح الشللية التي أدت الى عمليات تصفيات للعديد من البعثيين في الداخل. أقول أنه يعرف حجم المعارضة ودورها المحدود في المجال الوطني آنذاك، وغاياتها “أي المعارضة” لا تتعدى مسألة الحصول على المال عن طريق مد اليد للأمريكان بحجة المساعدة لإسقاط النظام، والنتائج اليوم واضحة! هذه هي الحقيقة التي لا يريد علاوي ملامستها، فأصبح، عرف او لم يعرف، متخندقا في ذات النفق المظلم المليء بالمآثم والسفالات.
أعود الى آراء علاوي المتعلقة بمتن الفكرة، التي بالتأكيد ليس من باب حسن النية، تعمد على ضخها في شأن سياسي حرج. حيث ادعى القول: بأنه ليس من الممكن تجاهل القوى السياسية لما كان لها وما عليها أيام المعارضة من استحقاق.. وعرج: لا يمكن تحت ذريعة مفهوم “مستقل” الاتيان برئيس وزراء بعيدا عن القوى السياسية واحزابها.. ثم، ما هو مفهوم الاستقلالية ـ ومن هو المستقل يتساءل؟ أن آلية ربط كل هذا التشابك بأصل الفكرة، المقصود بها، “حكومة الأطراف الثلاثة” بحد ذاته، مسألة في غاية الخطورة على الانتفاضة ومستقبلها. وتقاطع معها لإضفاء الشرعية السياسية والمجتمعية لطبقة لا تستطيع ان تحكم وفق عقيدة الوطن والشعب أولا، ولا يمكن لها ان تفهم بأي حال من أن هذا المبدأ مدعاة لبناء دولة المؤسسات ورقي البلد أيضا.
أعتقد أن علاوي ليس لديه مقاربات فكرية في مفاهيم السياسة، والا لماذا يتساءل عن مفهوم “من السياسي المستقل” وربطه بهذا الشكل بماهية الغاية، إلا اذا كانت لديه حسابات جعلته يستخف بالعقول! بشكل عام، ان كان الامر متعلقا بالمصلحة العامة للامة، يفترض أن يكون بين مفهوم “مستقل” و”المسؤولية” وجود تقارب وليس تقاطعات لضمان استقلالية القرار شفهيا أو تعاقديا على أساس الاستقلال السياسي ومبدأ حرية الرأي. وقبل كل شيء الإعفاء من أي ضغوط حزبية تمارس على النادي البرلماني في اتخاذ قراره المستقل. اما الثابت فأن مصطلح التحرر من القيود السياسة ـ الحزبية بما يتعلق والمصلحة العامة، كما يعرف باسم الإزعاج السياسي أو الإرهاق السياسي، يواجه بنوعين مختلفين من المواقف بين مواطني الدولة: السخط المجتمعي لعدم الرضا عن السياسة الحالية من جهة، والسخط السياسي أو استياء الدولة من عدم الرضا العام عن النظام السياسي من جهة أخرى.
ان مصطلح السيادة الذاتية “الاستقلالية” بالإشارة للتعريف الأصلي وفق النظرية المطلقة لنظرية الدولة المدنية “القرن 15” تعني، إن الشعب هو مصدر السلطات ـ وبالتالي يمكنه اتخاذ قراراته بغض النظر عن القوى المحلية الأخرى. ومفهوم “الاستقلال” يرتبط بمفهوم الحرية، الذي يتم نقله إلى المجتمعات التي لها حق تقرير المصير للشعب. تبعا لذلك، ان تكون مستقلاً “بمعنى تكوين رأيا خاليا من المبادئ التوجيهية والأيديولوجيات الحزبية” أن يكون لكل واحد منا ويجب أن يكون له مواقف سياسية أساسية مختلفة حول القضايا الإقليمية والوطنية والمجتمعية. مجموعة من الأفكار والحلول التي من شأنها إزالة المخاوف بالنسبة للمجتمع، ولا تمثل أي مواقف حزبية ثابتة في الجدل السياسي انما تأتي المصلحة المشتركة قبل المصالح الفردية والحزبية الضيقة. في “قاموس الحدث الرقمي” في بلادنا، منذ شرعنة الاحتلال في 2003 تحت ذريعة “التحرير” هناك دلالة قوية على “السخط” تجاه “اللامبالاة” ازاء العديد من الامور الهامة في حياة الدولة والمجتمع، تشير الى خيبة الأمل من الأحزاب المتسلطة، وسخط المجتمع في الأصل من المواقف المعادية لليبرالية والديمقراطية وهدر الحقوق العامة. وما على هذه القوى السياسية التي يريد علاوي إعادة تموضعها، الا ان تستجيب لرأي الشعب، وترك ادارة الدولة لمن هم اجدر منها دون البحث عن مخرجات وتفسيرات تسويفية قبل فوات الأوان.