الخوف الطاقة الوحيدة القادرة على إخضاع الفرد وجعله يصدق كل شيء . والخوف شعور كامن في عمق الإنسان سواء كان فردا، أو جماعة . وازاد الشعور بالخوف في عصرنا هذا بتزايد التهديدات . وغدا الخوف سمة من السمات التي تميز المجتمعات المعاصرة إلى الحد الذي يجيز لنا تسمية القرن الحالي بقرن الخوف . خوف من الكوارث البيئية، والوباء، والدمار الشامل، والتدخين، والسمنة، والجنس (الإيدز)، والهاتف النقال، والمزروعات المعدلة جينياً، والمأكولات، ولحم البقر (جنون البقر)، ولحم الدجاج (إنفلونزا الطيور). وآخرها الخوف من كورونا . والقائمة تطول .
وتحول الخوف إلى ثقافة في المجتمع . فلم يعد مجرد عارض جانبي . و تلقائيا تظهر عوارض ضعف في ثقافة الحرية والحق والنزاهة جراء ذلك . وفي ايامنا تحول الخوف الى صناعة تحترفها الأنظمة الاستبدادية وحتى التي تعد نفسها انظمة ديمقراطية . تطبيقا للمبدأ الميكيافيللي “من الأفضل أن يهابك الناس على أن يحبونك”. فلا يمكن للدولة أن تسيطر على الناس بحق دون أن تحكم السيطرة على ما يلقى في عقولهم . فثقافة الخوف تسوق الجميع نحو الأسر الاجتماعي لمركز القوة المتحكمة لتملي عليهم طريقة في التفكير وقيما للتبني . ولا يمكن للطغاة نشر الخوف في صفوف الجماهير دون تجسيد هذا الخوف في صورة أعداء داخليين وخارجيين، عندما يخاف الناس فإنهم يكونون أكثر استعدادًا لقبول إجراءات تنتقص من حرياتهم الشخصية، بل حتى من مقومات حياتهم الأساسية . وتطبيق (حالة الطوارئ) أو (حالة الحرب) هي ستارا تتخذه الحكومات لتمرير أي إجراءات تريدها .
وتاريخ الأنظمة الديكتاتورية يخبرنا ان نشر الخوف عبر الأجهزة الأمنية الرسمية والسرية، لايكفي بل غالبًا ما تشكل مجموعات شبه عسكرية لترويع مواطنيها أو تدعم – على الأقل تغض الطرف- عن نشاط بعض هذه المجموعات الموجودة سلفًا . وهذا ماشهدناه في محاولة لقمع الانتفاضة من قبل جهات ( الطرف الثالث ) حاولت ومازالت تمارس العنف ضد المتظاهرين وصلت الى القتل والاختطاف لترويع الشعب . او الاستعانة بالمرتزقة كما في الشركات الامنية الاجنبية التي دخلت العراق بعد 2003 . حيث قامت بالاغتيالات والتصفية الجماعية في عهد الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر، تحت حصانة كاملة من الملاحقة القضائية. ومارست اغلب الانظمة الاستبداية لعبة الاعتقال والافراج ولاحظت الجماهير عن حالات اعتقال ثم افراج . اختطاف ثم افراج . لعبة متقنة تؤكد بها الحكومات انها قادرة على اعتقال اي شخص وقتما تشاء . وخاصة الناشطين والرموز الدينية والسياسية الذين يمثلون تهديدا مباشرا لها .
ولجأت العديد من الانظمة الاستبدادية وحتى ما يسمى بالانظمة الديمقراطية الى وضع مواطني البلد تحت رقابة صارمة بدواعي الامن الوطني او القومي . ونسج الشعب حكايات من الاساطير حول عمل تلك الاجهزة السرية ووصل الامر الى المواطن الذي اخذ يخاف حتى من ظله . وتداولت مقولة شعبية شهيرة “الحيطان لها آذان” ، وهي العبارة التي تُنبه أحد أطراف الحديث إلى الحرص الشديد في الكلام أو لخفض الصوت حتى لا يسمع أحد الحوار الذي يدور حول هذا الأمر .وأصبحت عبارة “الحيطان لها آذان” واحدة من أهم الأمثال الشعبية التي يتم تداولها باستمرار داخل البلاد العربية ، حيث تجد فيها الشعوب متنفسًا لما تكنه الصدور أثناء الحديث عن بعض الأمور التي لا يجب أن يعرفها الكثيرون .وكتاب ” الأخ الكبير يراقبك ” ، لجورج أوريل ، تذكر أن الناس مولعون دومًا بنسج الأساطير حول قدرات ونشاطات أجهزة الأمن السرية، أما عن الأسباب فهي جاهزة دومًا وتتعلق بدواعي الأمن القومي والحفاظ على سلامة المواطنين.
ومادامت ” الحقيقة ” عدوة تلك الانظمة الاستبدادية لجأت الى السيطرة على وسائل الاعلام . ولا يفووت على المواطن العراقي ان وسائل اعلام النظام السابق كان تروج لأفكار ترسخ مكانة السلطة والسطوة في عقليته وتزين اعمال النظام القذرة . وظهر بعد ذلك تهديد المليشيات التابعة للاحزاب والكتل السياسية بعد 2003 للصحف والفضائيات كبيرا . وشهدت عدد من الصحف و الفضائيات انتهكا صارخا وصريحا لمكانتها والدخول عنوة لمواقعها ، والعبث ومصادرة محتوياتها وتهديد كوادرها الاعلامية . والاحصائيات تؤكد ان اعداد كبيرة من الصحفيين تم اغتيالهم في وضح النهار . ضحية لكلمتهم الشريفة . وتم توثيق أكثر من حالة سجن واستهداف للصحفيين من قبل الجيش الأمريكي أثناء الحرب على العراق.
وفي المقابل تستغل المؤسسات الإعلامية والسياسيين الخوف لدى المجتمعات الغربية وغيرها وتضخمه وتعيد تصنيعه وانتاجه حتى غدا يهيمن على الخطاب الشعبي والرسمي فيها لأسباب خاصة ، ومصالح ذاتية. فمثل هذا التصنيع والإنتاج، هو نوع خاص أطلق عليه سياسة “المتاجرة بالخوف والذعر” . إذ يتحول الخوف، في هذا النوع من السياسة، إلى سلعة تباع وتشترى كباقي السلع، تدر على مصنعيها أموالاً طائلة، قد لا تدره عليهم السلع الأخرى. ودخلت المؤسسات الفنية والاعلامية في هذا المجال لاستثمار الخوف ماديا عبر قطاع صناعة أخبار الخوف، وأفلام الرعب والعنف والجريمة، والمسلسلات البوليسية التي تعود عليهم بمليارات الدولارات .
واجادت المؤسسات الاعلامية دورها في المجتمعات في تصنيع الخوف وتصديره بشكل كبير وفاحش خدمة للنظام السياسي والنظام الاقتصادي . ويعتقد (هربرت شيللر) باحث : أن العلاقة التي تربط هذه المؤسسة الاعلامية بالنظام السياسي هي علاقة قائمة على رؤية هذا النظام لها، بأنها وسيلة مناسبة، وأداة فاعلة في نشر سلطته وفرض هيمنته، والترويج لأفكاره، ومبادئه، وثقافته في المجتمع . وبالمقابل تحصل تلك المؤسسة على الحماية السياسية والقانونية . اضافة الى الدعم المالي الذي يوفره النظام الاقتصادي الذي يروج لمنتوجه عبر الدعاية والاعلان .
ولما الافراد في تلك المجتمعات تعتمد اعتمادا كبيرا على المؤسسة الإعلامية ، يفوق أي اعتماد آخر على أية مؤسسة أخرى امسى الفرد في تلك المجتمعات ملتصق بوسائل الاعلام التصاقا كبيرا فهي التي تزوده بالمعرفة، وتمده بالمعلومات والأخبار بكافة أشكالها وأنواعها، محلياً وخارجياً، وهي التي تعمل على توجيه سلوكه، وتيسير تفاعله الاجتماعي، وهي التي ترسم له الخطوط العامة في تعامله مع المواقف الطارئة، من خلال ما تقدمه له من معارف ومعلومات وخبرات، وهي التي تعمل، أيضاً، على ترفيهه وتسليته، وهي التي تتوسط بينه وبين العالم الاجتماعي الخارجي الذي لا تطاله تجاربه وحواسه بشكل مباشر؛ إنها، باختصار، هي التي تشكل رؤيته لهذا العالم. وهنا تتجلى أهميتها ويبرز دورها. فالعالم الحقيقي في ظل التأثير الكبير لوسائل الاعلام لم يعد موجوداً بالفعل، بل استعيض عنه بما نشاهده على شاشات التلفاز من مشاهد، وصور، وأحاديث، وتعليمات . عالم صنعته وسائل الاعلام لتوهم الفرد به وتنفذ كل مخطط معد مسبقا .
وتجلى ذلك في ابهى صوره في التغطية الاعلامية الكبيرة والمأزومة لوباء كورونا الذي انتشر في عدد من بلدان العالم . وعلى الرغم من جدية الوباء. لكن حجم التغطية الذي ساد على جميع وسائل الاعلام الغربية والشرقية جعلت المواطن يشعر بالخوف الشديد الى درجة الهلع وحبس الشعوب نفسها في البيوت . ودلالات طرح العلاج باتت قريبة وهي نتيجة تنتظرها الجهات المستفيدة بعد تحقيق الصورة الكاملة بسقوط ضحايا وخسائر اقتصادية كبير لتجني بعد ذلك ارباحها . وبعد ان تنفرج الازمة ويذهب الوباء واماطة اللثام عنه . كما ذهبت اوبئة من صنعها كانفلونزا الطيور وانفلونزا الخنازير وغيرها . تفكر الانظمة السياسية والاقتصادية في بلدان معينة في صناعة خوف جديد للعالم . لانها المهنة التي تدر اموالا كثيرة وسيطرة اكبر .