22 نوفمبر، 2024 11:59 م
Search
Close this search box.

عمر الخيام متصوفاً

عمر الخيام متصوفاً

مقدمة
ونخرج بالنتيجة، فنضيف الى ما قلناه في الفصول السابقة أن الخيام كان أحد رجالات المتصوفة المشهود لهم في هذا المعترك، فأن ذكر الخمر والتغزل بها هو ليس خمر الدنيا المتعارف عليها الآن، انما المقصود هو التغزل بالذات الالهية على اعتبارها هي الحق الاسمى الذي يجب الوصول اليه كونها حقيقة ينشدها العابد المخلص، والمرتجى الذي يأمن الوصول الى قمة السعادة، والنهاية التي تُبنى عليها الآمال.
و”نريد «بالتصوف» ما يطلقون عليه في بلاد الغرب كلمة «مستيسزم»، وهى كلمة من أشق الأمور أن يعالج المرء تعريفها على وجه الدقة، إذ كانت تدل على حالة من حالات الفكر، أو الإحساس، تبدو مقرونة بمحاولة العقل الإنساني أن يتغلغل إلى حقائق الأشياء وأن يستجلى صفاتها الربانية، أو الاستمتاع بنعمة الوصول إلى الذات العلية والاتصال بها والتسرب فيها، ومن هنا ظهر التصوف فى الفلسفة والأدب، وفى الدين كذلك”.(1)
يقول الحلاج:
مكانُـــــك من قلبي هو القــــلبُ كـلُّهُ فليس لخلقٍ في مكانك موضعُ وحَطَّتْك روحي بين جلدي وأعظُمي فكيف تراني إنْ فقدْتُكَ أصنَعُ

ويقول في موضع آخر
يا موضع الناظر من ناظِري و يا مكان السرّ من خاطري
يا جملةَ الكلِّ التِي كلُّها أحبّ من بعضي ومن سائري
تراك ترثي للذي قلبُهُ مُعَلَّقٌ في مخلَبَيْ طائِـرِ
وكما هو معروف فقد مات الحلاج شهيداً في سبيل معشوقه، حيث اتهموه بالزندقة والمروق عن الدين، كل هذا وكان الحلاج يصر على البقاء مخلصا لمعشوقه.
فالمتصوفة يعقدون انهم قد وصلوا الى كنه الحقيقة وامسكوها من تلابيبها، وان الحقيقة هي هدفهم الاسمى، وهو رضا الله والاخلاص له بالعبادة والتقرب، وغير هذا لا يرومون القليل ولا الكثير، ولا يتحقق ذلك- كما يعتقدون- الا بالعبادة المخلصة، التي لا تتحقق الا بصفاء القلوب. ولذلك سمي “متصوفة” ولا بلباسهم الصوف كما يعتقد البعض.
ما هو التصوف؟
قال ابن خلدون وهو يتحدث في فصل علم التصوف هو: “طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة. وقال القشيري: ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس. والظاهر أنه لقب. ومن قال: اشتقاقه من الصفاء، أو من الصفة، فبعيد من جهة القياس اللغوي، قال: وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه.(2)
اذن، فعبارة “صوفي” أو “صوفية” هي من صفاء النفس أو السريرة، والانقطاع التام الى عبادة رب خالق ومعبود واحد، تخلص له تلك العبادة. وعليه فأن التصوف “يتسامى الى وضع نظرية في المعرفة وتحديد لسب الوصول اليها، وبهذا انتقل التصوف الى دور آخر اصبح فيه طريقا للمعرفة يقابل طريق ارباب النظرية من المتكلمين، واذا كانت المعرفة عند العلماء والحكماء (والحكماء) تجيء بالاستدلال والتعلم، فانها عند الصوفية تهجم على القلب كأنها القيت فيه من حيث لا يدري الانسان، ويكون لذلك الهاما ونفثا في الروع يختص به الاولياء أو وحيا يختص به الانبياء، وطريقة الصوفية في ذلك تقديم المجاهدة وحمو الصفات الذميمة وقطع العلائق كلها والاقبال بكنه الهمة الى الله تعالى” (3)
التصوف، اذن هو الحل أو الجامع بين الشريعة والفلسفة، وعليه فالإنسان يخرج من ضيق عقائد السطحيين الجافة والجامدة، وينجو بروحه المنيعة من اليأس والظلم الذي الفاه خواء صرف. (4) وهذا الطريق اللاحب هو الذي سلكه الخيام، من خلال اشعاره الصوفية، وعبر فيها تعبيراً ساطعاً لا تشوبه شائبة الا الذين ليس لهم دراية ولا معرفة بهذا اللون أو هذه الطريقة الخاصة، التي سلك طرقها ثلة قليلة من الناس، وهم كثر ومنهم الخيام هذا.

رباعياته شملت تصوفاً
ورباعيات الخيام شملت كثير من الاشارات الى التغزل بالذات الالية، على اعتبار سكرتها كنشوة الخمر، بل اشد من ذلك، اذ أن نشوة الخمر قد تبقى يوم أو اقل من ذلك، بينما تلك النشوة فهي باقية على طول المدى، ولا تزول طالما المريد متصلا بها ومشدودا لها، ولا يكاد أن ينفك عنها.
علي الدشتي في كلامه عن الخيام يشير بالقول: “فرأي الخيام يمكن أن يحمل على المداراة وضرب من الحل العقلاني دون أن ننسى أنه بعث برسالة الى أحد أمراء السلاجقة. ما يعني أن لا طريقة الفلاسفة ولا نهج الاسماعلية كانا مورد قبول لديه. لقد رجح، أذن، كفة الصوفية على المتكلمين، فأخرج الفقهاء والمحدثين من الموضوع لأنهم لم يعملوا عقولهم بل استدوا الى الروايات والمنقولات النقلية فقط. على العكس من هذا كان الامام الغزالي، اذ ترك التدريس في نظامية بغداد على ما له من ميزات واعتبارات وامضى عشر سنوات في فلسطين وسورية والحجاز في التفكير والتأمل والعبادة دون أن يدخل في سلك الصوفية التي مال اليها الخيام. دليل هذا على أنه لم يذكر أحداً من سلسلة شيوخ الصوفية. وأن أياً منهم كالشيخ نجم الدين وسلطان ولد لم يذكروه بخير” (5).
وبهذا، يقول ابن عربي الملقب بالشيخ الاكبر، أي كبير المتصوفة، وامامهم بهذا الفن، أو الطريقة:
للحقِّ فينا تصاريفٌ وأشياءُ ولا دواءَ إذا ما استحكمَ الداءُ
الداءُ داءٌ عضالٌ لا يذهِّبه إلا عبيدٌ له في الطبِّ أنباءُ
عن الإلهِ كعيسى في نبوَّته ومن أتتهُ من الرحمنِ أنباءُ
لا يدفعُ القدرَ المحتومَ دافعهُ إلا به ودليلي فيه الاسمَاء
إنَّا لنعلمُ أنواءَ محــــــــقّقةً وقد يكفرُ من تسقيه أنواءُ
العلمُ يطلبُ معلومًا يحيط به إنْ لم يحط فإشاراتٌ وإيماء
ليس المرادُ من الكشفِ الصحيح سوى، علمٍ يحصّلهُ وَهمٌ وآراءُ
إنَّ الذين لهم علمٌ ومعرفةٌ قتلى وهم عند أهلِ الكشفِ أحياءُ
فأبن عربي يعد أهل الفقه والمحدثين: قتلى، قتلهم ضياعهم في تيه هذه العلوم(علوم الفقه والحديث) الا أهل الكشف، ويعني بهم المتصوفة، لأنهم انكشفت لهم الحقائق، فهم بذلك أحياء يعيشون بنور الحقيقة، تلك الحقيقة الغائبة عن أولئك، والمتصوفة يعتقدون أنهم وحدهم الذين ادركوها.

متصوف حجة
ويذهب الكاتب محمد الذهبي الى أن “كثير من الدارسين انعطف الى الرأي الآخر في أنّ الخيام متصوف كبير وشيخ طريقة معروف حتى لقب بالإمام والحجة والحكيم، في حين آثر البعض الاخر في السير باتجاه ان الخيام كان ماجنا عربيدا متهتكا ونعته بشتى التهم، واقوى ما موجود لدينا من تراث الشاعر الكبير هي رباعياته التي ترجمت الى اكثر اللغات الحية، ونوقشت من قبل اساطين الادب والنقاد الكبار”(6). ونحن في دراستنا هذه نميل الى هذا الرأي، الذي خصصناها في الدراسة هذه، بل نقر أنه متصوف وموغل في التصوف.
ويرى المازني أنه “ومن شعراء الفرس الذين ذاع صيتهم وسار ذكرهم في الشرق والغرب عمر الخيام. وقد حاول بعض النقاد أن يزج به في زمرة المتصوفة من شعراء الفرس وأن ينفى عنه ما يدل عليه ظاهر ألفاظه، وأن يخرِّج كلامه على نحو ما أسلفنا، وأن يدفع عنه تهمة الأبيقورية جهلًا كما سترى. ولكن الواقع، كما قال مترجمه إلى الإنجليزية فتزجرالد، أن عمر لم يكن أبغض إلى أحد منه إلى متصوفة عصره الذين كان يسخر منهم ويركبهم بالدعابة والتهكم «وأنه لما عجز أن يهتدى إلى شيء سوى القدر أو دنيا غير هذه – بالغًا ما بلغ خطؤه في ذلك – قنع بحظه المقسوم له، واَثر أن يرفه عن نفسه من طريق الحواس على أن يرهق نفسه باستجلاء الغوامض».
على أنه كانت له موهبة تنأى به عن التصوف، ذلك أنه كان رياضيا! بارعًا. ومما يذكر له في هذا الباب تنقيحه التقويم السنوي تنقيحًا أظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان جيبون المؤرخ الإنجليزي بالثناء عليه. وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف فى علم الجبر بالعربية. والذهن الرياضي مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر، وتعليق النتائج بأسبابها، والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف. ومن العجيب أن فتزجرالد لم يفطن إلى دلالة هذا ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف”.(7)
واذا اعتقدنا أن التصوف هو في كل ادواره ومراحل حياته الطويلة- كما يشير الدكتور توفيق الطويل- يمثل بحق على حد قوله، اصفى حياة روحية في تاريخ الاسلام، “وبمقدار ما لقي من عنت واضطهاد كان مثلا للحب والتسامح، فصيحة الحب التي استغرقت حياة الصوفي طولا وعرضا، وشاعت في تفكيره يمينا ويسارا، قد تجاوزت حبه لله وامتد فيضها حتى شمل الناس- اصدقاء كانوا أو اعداء”.(8)
وانت تعلم أن التصوف “مذهب كله جد. فلا يخلطونه بشيء من الهزل. وقيل: تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدعاوى النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بعلوم الحقيقة، واستعمال ما هو أولى على السرمدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله تعالى على الحقيقة”.(9)

اتهامات مردودة
ومع ذلك، فالمتصوفة لم يسلموا من اتهامات خصومهم لهم بالاعتداء على ارثهم الفكري، وتشويه طريقتهم، واتهامهم بالزندقة تارة، وأخرى بالمروق عن الدين، كما اتهموا الخيام، هذا الذي نحن الآن نحاول رفع الالتباس الذي اعترى الكثير تجاه هذا المتصوف، الذي عبر – ومن خلال رباعياته- بعبارات صادقة وكلمات معبرة، تفيض معن سامية، تنشد الخير والرأفة وتدعو الى المحبة الخالصة، وهي بعد، تنشد التسامح بكل تجلياته، علاوة على أن الصوفية لا تؤمن بالعنف بقدر ايمانها بمحبة تكسو قلوب الناس جميعًا.
فمن اتهامات الخصوم للصوفية ادعائهم أنها أخذت “تغالي الصوفية في الاعمال النفسية والروحية، ولم يضغطوا ضغطا كافيا على الاعمال الظاهرة. فكان هناك فقهاء وصوفية وعداء بين الفقه والتصوف، الصوفية يرمون الفقهاء بأنهم لا يعبئون الا بالقشور من مظاهر الامور، والفقهاء يرمون الصوفية بأنهم غلوا في احوال الروح أكثر مما كان يعرفه الاسلام، وسموهم أهل الباطن”.(10)
فهذه الاتهامات مردودة على اصحابها، طالما أن الصوفية اثبتوا نيتهم الصادقة تجاه معبودهم، وصفاء قلوبهم وأنهم اناس لم تغرهم زخرف الحياة، وانما انقطعوا عن الدينا وهاموا بحياة لا يشوبها كدر ولا منغصات.
المصادر:
(1)ابراهيم عبد القادر المازني، حصاد الهشيم، ص 57 منشورات مؤسسة هنداوي.
(2) مقدمة ابن خلدون ص 514.
(3) توفيق الطويل، أسس الفلسفة، ص 302.مكتبة النهضة بمصر.
(4) علي دشتي: http://alrai.com/article
(5) المصدر نفسه.
(6) محمد الذهبي: http://www.ahewar.org
(7) المازني، مصدر سابق.
(8) الدكتور توفيق الطويل، مصدر سابق.
(9) الجرجاني، التعريفات، ص 63، منشورات علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية 2003.
(10) أحمد أمين، ظهر الاسلام، ج2 ص 57، الطبعة الثالثة لسنة 1962، مكتبة النهضة المصرية.

أحدث المقالات