19 ديسمبر، 2024 12:03 ص

انطفاء جذوة الشعر

انطفاء جذوة الشعر

اللغة عبارة عن رموز أشارية مصطنعة من قبل الإنسان لفظا وكتابة . تمتلك هذه الرموز طاقات إيحائية ومجازية عديدة تعمل على تجسيد المعاني الموجودة في الذهن مسبقا ، وتستخدم اللغة كوسيلة للتفاهم بين البشر ، وأحيانا للتعبير عن مكنون الذات . إن المعاني الموجودة في الذهن البشري مسبقا هي مدركات عقلية ناشئة عن وصول معلومات معينة عن طريق تحسس الأشياء الخارجية .
     ظهرت اللغة إبتداءا ، حتى في أشكالها البدائية ، في طور متأخر من حياة الإنسان على الأرض ، ويمكن أن نستدل على ذلك من قناعة علمية راسخة مفادها إن الإدراك يسبق القدرة على النطق ، فالطفل الصغير غير القادر على الكلام يستطيع ، إلى حد ما ، أن يدرك الأشياء الخارجية بمستوى معين ويستطيع أن يعبر عن نفسه دون الحاجة إلى رموز أشارية مخزونة في ذهنه . كذلك فإن عملية النطق ترتبط بمدى نضوج الآلية الفسلجية المتخصصة في عضو معين من أعضاء الجسم ، الأمر الذي يتطلب مرور فترة زمنية معينة  قبل أن تتطور وتكتمل آلية النطق هذه . 
    تظهر اللغة بأرقى حالاتها في الإنجازات الأدبية المتنوعة ، وتستخدم في هذا النطاق كوسيلة وحيدة للتعبير ، وسأشرح هنا أحد ألأنواع الأدبية الرئيسية في هذا المجال ، ألا وهو الشعر .
    الشعر هو إنجاز لغوي متميز ، ويمثل مرحلة أساسية من مراحل تطور الوعي البشري ، ويدخل ضمن نطاق طور المراهقة الذي مر به تاريخ الإنسان . والشعر هو عملية تشكيل جمالي يعتمد على بناء الصور الشعرية بمفردات لغوية ذات دلالات وإيقاعات معينة . إن اللغة بحد ذاتها هي شعر ، حتى وإن تمثلت في صور ، وإن الطاقات الإشارة في لغة الشعر قد استنفذت عندما قام الشعراء بتقديمها بهيئة قصائد ، ونظرا لوصول اللغة إلى مرحلة “الاكتمال” توقف الانجاز الشعري عند هذا الحد ولم يتطور إلى مستوى أفضل ، وبقي الشعر بعد ذلك يعمل ضمن غايات التسجيل التاريخي لمأساة الإنسان فقط  ، وهي غايات يمكن تحقيقها بوسائل ثانوية أخرى . 
    إن الانجاز الشعري يتأسس من خلال عمل الشاعر ضمن منطقة اللغة والبحث عن طاقة المفردات المجازية والإيحائية ، أو اكتشاف قدرتها على نقل المعنى بشكل ناجز . واللغة كرموز موجودة في ذاكرة الشاعر وجاهزة للعمل ، ويعود الفضل في ذلك إلى المنجز الجماعي والتاريخي في تأسيس تلك اللغة ، وليس هناك شاعر يستطيع أن ينحت لوحده رموز قصيدته الاشارية – اللغة – بشكل كامل دون الرجوع إلى الإرث الاجتماعي . وفي نفس الوقت لا يستطيع أيضا أن يركز جهوده الإبداعية للعمل في منطقة المعاني المجردة فحسب ، وإن كل ما ظهر من شعراء عظام هم في الحقيقة كانوا يعملون في منطقة اللغة الاشارية وما تحمله من طاقات مدهشة على صعيد الإيحاء والمجاز . والميزة الأساسية لدى الشعراء العظام هو قيامهم بتأسيس علاقات موسيقية جديدة ومبتكرة بين المفردات اللغوية ذات إيقاعات وأوزان معينة بشكل قوالب هي البحور والقوافي تحاكي في صياغتها نظام الأشياء الخارجية مع تقديم صور شعرية لا تخرج عن نطاق القدرة المجازية الكامنة في أي لغة .
     نخلص من ذلك إلى إن أية خطوة لتجاوز مهمة الكشف عن طاقة الرموز المجازية في التعبير وتهديم العلاقات الموسيقية المتمثلة في البحور والإيقاعات والأوزان هي محاولة واضحة لتحجيم دور الشعر كفن تعبيري عند الإنسان ، وفي نفس الوقت هي دليل أكيد على محدودية الشعر في نقل المشاعر الإنسانية فنيا وذلك لاقتصار مهمة الشعر للعمل ضمن نطاق اللغة كإشارة وليس كمعنى . إن العمل الروائي أو القصصي هو الذي أخذ هذا الدور الحيوي والريادي في الإبداع الأدبي عندما أعطيت الأولوية للعمل ضمن إطار المعاني واستخدام اللغة كإشارات لتجسيد تلك المعاني . والباب مفتوح بمصراعيه أمام الكاتب في هذا الجنس الأدبي لتأسيس علاقات جديدة تتبدل من عصر إلى آخر في تلك المنطقة الحيوية بلا نضوب . ويمكن لذلك الكاتب أيضا أن يزهو بمنجزه المتمثل في صياغة أعمال جديدة تحمل لمساته الإبداعية بوضوح وتفصح عن فلسفته وتحليله للعالم .
      إن ما يسمى بقصيدة النثر اليوم هي إنجاز لغوي يعمل لصالح النثر وليس الشعر ، فبعد إن أدرك رواد هذا النمط الأدبي وصول الشعر كفن تعبيري إلى حد الملل من القواعد الكلاسيكية التي تتحكم في نظامه البنيوي واتهموا نظام القوافي والبحور والإيقاعات والموسيقى بتقييد الشاعر أثناء التعبير لجئوا إلى تحطيم تلك القواعد المعوقة حسب تصورهم للعمل الإبداعي في الشعر واتجهوا للبحث عن الطاقة المجازية والإيحائية للمفردات واعتقدوا واهمين إن في ذلك نموا وتطورا نحو الحداثة ، في حين نرى إن الشعر العربي الكلاسيكي بالرغم من وجود آفة القولبة والنظم قادر بصورة أفضل لانجاز تلك المهمة ، ونجد إن القصيدة العربية الكلاسيكية أكثر فصاحة وبلاغة وبيانا من قصيدة النثر الحالية ، الأمر الذي يؤكد تفوقها في تناول جانب الإيحاء والمجاز الذي تتسم به اللغة العربية بشكل أكثر وضوحا كوسيلة مهمة لإكمال القصيدة المعبرة والناجحة . والملاحظ إن مقياس المقدرة الشعرية لأي شاعر عربي تعتمد في الأساس على معرفة قدراته الفنية في نظم القريض قبل كتابة قصيدة النثر .
      إن مهمة البحث عن الطاقة الإيحائية للمفردات ليست جديدة على الشعر ، بل على العكس تماما هي أقوى وأنجح عند الكلاسيكيين . أما توغل دعاة قصيدة النثر للعمل أعمق من ذلك وصولا إلى الكشف عن معان وعلاقات جديدة خارج نطاق القوافي والبحور والإيقاعات الموسيقية من الواضح إنه ولوج مباشر إلى منطقة النثر وليس إلى منطقة الشعر .
    نستنتج من ذلك إن مهمة الشعر لا تتجاوز عملية بناء النظام الاشاري الموجود في اللغة ، ومحاولة توظيف الطاقة الإيحائية والمجازية للمفردات وتقديم علاقات موسيقية معينة تحاكي نظام الأشياء الخارجية ، ويعتقد إن نشوء القافية مثلا كما معروف في القصيدة العربية الكلاسيكية يعزى إلى “الحُداء” مع حركة الجمل وبروز الصوت الواحد مما يدل بشكل واضح على محاكاة النظام الخارجي للأشياء . إن أي ابتعاد عن هذه المهمة والدخول في مساحة المعاني المجردة من الرموز الاشارية والموجودة قبلها هو إجراء لا يحسب لصالح الشعر .
    إن الشعر لا يموت ، لأنه لا يمتلك مقومات بايولوجية ، وإنما يقف عند حد معين نتيجة الإفلاس . وستشهد القرون القادمة لا محال انطفاء جذوة الشعر تماما بفعل عوامل التغيير الاقتصادي والاجتماعي التي لا زالت مستمرة في تأثيراتها على بنية الفرد والمجتمع ، وسيكون دور الشاعر ثانويا في استمرار تطور حضارة التكنولوجيا ، ويكفي أن نذكر في هذا السياق أن الكثير من الروائيين والفلاسفة بدأوا حياتهم كشعراء ينظمون القصيد ثم ما لبثوا أن تحولوا إلى التعبير بأساليب أخرى ، وقديما ، قديما جدا قام أفلاطون بطرد الشعراء من جمهوريته المثالية ، من ثم جاء القرآن وأعتبر الشعراء قوما يتبعهم الغاوون ويقولون ما لا يفعلون ..