19 ديسمبر، 2024 7:58 ص

الحداثة بثياب واقعية – قراءة في قصائد الشاعر سعد جاسم

الحداثة بثياب واقعية – قراءة في قصائد الشاعر سعد جاسم

تنتمي قصائد سعد جاسم بمفرداتها وصورها لحياتنا اليومية وهي مثقلة بإشارات من ذاكرة جمعية وعامة تعمل في مستوى ما فوق الشعور.
وهذا واضح منذ عنوان مجموعته الأخيرة( طائر بلا سماء ). حيث أن محور الحديث يدور حول موضوعات تربط الخيال بالشروط الواقعية. وتزخر بما يسمى في البلاغة بالطباق. ولكنه طباق متحول يضع الشيء وضده في حالة تشبه الصراع في الدراما. فالطائر من غير فضاء للحركة ( 1) والمحبوبة نافرة ولكنها تتحلى بالصبر ( 2) والرجل يشعر بالحبور  والخسارة في نفس الوقت( 3 ) وهلم جرا…
ولقد توفرت في شعر الثمانينات نماذج كثيرة من هذا الاتجاه إلا أنني أجد أن العمل الضخم والهام لسومرست موم وهو ( القيد البشري) يعبر عن هذه المشكلة أفضل تعبير. فهو يتكلم عن تجربة شخصية بلغة تصور حياة شريحة من المجتمع. وأقول شريحة لأنه فعلا يتكلم عن ملابسات الحياة السرية لفئة من أبناء الطبقة المتوسطة وهم الأنتلجنسيا أو المثقفون الذين أعربت سيمون دوبوفوار عن ضياعهم ومعاناتهم في عملها الهام والضخم أيضا ( المثقفون).
وعلى الرغم من أن موم ركز على الجانب المذكر من هذه الرحلة في مجاهيل العالم النفسي للشخصيات، ودوبوفوار ركزت على الطرف المؤنث منها، كان الفرق محدودا. فالموضوع لم يكن جنسانيا ولكنه إعادة بناء للذاكرة وهي في غير موضعها.
وهذا ينطبق أيضا على كل مغامرة سعد جاسم مع الشعر
إنه دائما يضع الرغبات أمام شروط تفرضها ظروفنا المعقدة. وربما لهذا السبب اختار لمجموعته الأخيرة ( طائر بلا سماء) العنوان الذي يتألف من تناقض بين الضرورات المتلازمة.
وإن بذرة هذا السجال بين المعاني والتراكيب تجدها منذ أول قصيدة وحتى آخر قصيدة. فهو يعبر دائما عن الحياة اليومية البسيطة بلغة مرتبطة بقانون الحداثة الأول.. أن تعني ما لا تقول. وأن تفكر بما سمعت. وأن تستدل على الفوضى والعبث واللاجدوى من خلف هذه القشرة الصلبة والمتماسكة للشكل المنظم . فهو في غالب الأحيان يحاول تمرير المضمون النفسي بلغة مقننة وبإشارات نعرفها جميعا ولو لم نتفق على تفاصيلها. وفي مقدمة ذلك رموز من التاريخ المعرفي والحضاري السحيق مثل أنكيدو سومر جلجامش بابل. وهي كما نلاحظ لها قراءات وتفاسير مختلفة تبدأ من الديني وتنتهي بعلوم الأناسة والأساطير التي تعزى لذاكرة الشعوب وليس لكاتب محدد.
لذلك كان في هذا المجال مفهوما بمعانيه وواضحا بحساسيته الفنية كما في قوله :
بابل سوداء
كشجرة محترقة
مزقت أغصانها الغربان (4).
وقوله:
لكنه كان ملحميا
مثل أنكيدو
في أسرّة اللذة
***
ولكن أهم ما في هذه القصائد أنها أولا سيرة ذاتية للشاعر. بمعنى أنها تتحدث عن الإنسان الموجود في الداخل في المساحة المشروطة بحدود المعاناة الشخصية. ولذلك تكثر مفردات من نوع أمي أبي أنا بلادي.
وكما أرى إن أرق القصائد هي التي يكتبها عن أمه. انظر قصيدته
 ( الديوانية يا أمي و حنيني ) التي يتآخى فيها المكان غير العاقل مع الصورة الحية والمشخصنة للأم الطيبة. وهذا يعزو لكليهما: الأم ومسقط الرأس العاقل وغير العاقل نفس الصفات ونفس القدرات على الإحساس والتفكير والتصرف. وبلغة علم النفس إنه يحولهما من علامات لأشياء خارجية ومنفصلة إلى علامة واحدة حاضنة وهي الرحم.
يقول في تلك القصيدة:
دائما أفكر بالديوانية
وأراها امرأة تتعثر
بعباءتها الصوفية
ودائما تبحث
في ليالي الحروب
عن أبنائها الضائعين
والطاعنين (6).
وإن مثل هذه العلاقة الرحمانية ( بتعبير زكي الأرسوزي) لا تؤدي لانطباق الصفة على الموصوف فقط ولكنها تعمم من دائرة الأمكنة والشخصيات وهي هنا الأم والديوانية لتدلا على معنى واحد وقابل للتبادل دون أن يفقد شيئا من مضمونه. كما في الصيغة التالية:
الحامل ( الديوانية ) = المحمول ( الأم ) = الحامل ( أمنا الأرض) = المحمول ( أنا الشاعر ).
***
وحتى بالنسبة للعنف السياسي يصل الحديث عن الانتحار والاغتيال لأضعاف ما يصل إليه الحديث عن الانقلابات والمجازر. تماما مثل كل الأعمال الأساسية التي تنظر للعنف على أنه مشكلة مع الحدود والعوائق.
وبالمقابل توجد إشارات متعددة على المراحل المتعاقبة من تاريخ الشاعر. ولكنها ليست بشكل لحظات من العمر وإنما هي بشكل لحظات نفسية .. مثل حالة الضعف والسقوط أمام طوفان القهر الثقافي. وتبدو لي هذه اللحظة أطول من غيرها. وكأنها هي محنة الذات المفردة أمام الذات العامة للمجتمع. وعموما إن المحنة في مجموع هذه القصائد ثقافية من النوع الذي تشعر به في الذهن الذي تتصوره بعين الخيال. ولذلك إن التراكيب تدخل في علاقة تقابل مع الصور. بمعنى أن التراكيب التي تتحرك على مستوى الكلمات و الجمل لا ترسم صورا جاهزة ولكنها تحرض الذهن والوجدان على التصور وتنقل القصيدة من مجرد حامل نفسي إلى مستوى أزمة بلاغية.
وبوجيز العبارة إن فن السيرة في هذه القصائد هو مجرد تصوير للحالة المعنوية. إنه لا يقدم لنا الوقائع بطريقة المحاكاة ولكن ينقل المضمون النفسي للمرحلة بأسلوب الإيحاء.
السمة المهمة الثانية للقصائد أنها شهادة على العصر.
وهذا يعني أنها على الرغم من اللعبة الفنية كانت تفسر الحداثة من زاوية وثائقية. إن قصائد سعد جاسم تشبه في عدد من النقاط القصائد التسجيلية. حتى أنها تحاول أن تجاري القصة والرواية وبالمعنى الذي قدمه لنا صلاح عيسى ومن بعده لردح طويل من الزمن صنع الله إبراهيم.
يقول علناً في إحدى القصائد:
هذا شعبي
وله وبه أفتتح النص
وأبتدئ القص
والسيرة الآتية( 7).
ثم يضيف قائلا:
أنا سعد السيد جاسم
شين ليبرالي الروح
وشيوعي متقاعس (8).
ولقد كانت تؤازر تلك الإشارات الخاصة أسماء علم لشخصيات لها سياق اجتماع ثقافي عام. وهذا يخدم القصيدة بمسألتين: أن تكون موجزة وأن يكون الأسلوب بليغا.
من ذلك قوله:
أفكر بعلي الشباني
وبملاحمه وملامحه ( 9).
وقوله أيضا:
تعال لنحطم المرايا كلها
نكاية بالعسل والمصحات
بـ ( فوكو ) والحدائق والاختلاف
ونكاية بـ ( عبدالحسين شعبان )

والإشكالوية ( 10).
ومع ذلك إنه يختلف جوهريا مع الشعار المعروف إن البلاغة هي فن الاختصار.
وللتوضيح يمكن المقارنة مع بابلو نيرودا في ( أحجار تشيلي أحجار السماء ).
إن رموز نيرودا بحاجة لذهن موسوعي. وأكاد أقول لخبير بالجيولوجيا ليفهم المرامي البعيدة لأسماء تلك الصخور. ثم إنها ليست ضمن المجال الفعّال للثقافة المحلية. إنها رموز شمولية وتنطبق على كل العصور والأمكنة. هل يوجد فرق بين صخور الغرانيت لو أنها في تشيللي أو في العراق؟!!.. ولكن رموز وإحالات سعد جاسم من دائرة خاصة. وبالتحديد من دائرة المعارف والخبرات الشعبية في العراق. إنها رموز حاملة لمعنى تأتي قيمته من خارج النص. فالمعنى ليس في المفردات والتراكيب فقط ولكن جزء منه موجود في الذاكرة.
***
إن تجربة سعد جاسم نسيج وحدها لعدة اعتبارات:
1- إنه يكتب قصيدة نثرية لا تعرف بيت الشعر و لا البحور و لا القوافي. و هي قصيدة مفتوحة على كل المقاييس التي تعارض المفهوم التقليدي للشعر العربي و لقوانين لها من العمر ألوف السنوات كما نعلم جميعا.
2- و لأنه يتحدث دائما عن عكس اتجاه الأسلوب. فإذا كان شكل القصيدة عنده مفتوح فإن موضوعاته كلها تعاني من القهر التاريخي و من تراكمات التفكير الشرقي الظالم الذي لا يتوانى عن تصفية رموز الحرية و الثورة.
3- و مع أنه معني بحياته الشخصية و بنشاط الذاكرة القريبة، تتنازع موضوعاته عدة دوائر أوسع، حتى يقترب من كل معاناة البيئة الخاصة و العامة، و التاريخ السري و العلني. و من استعراض أسماء العلم و الأمكنة التي يستعملها كنقاط استناد في القصائد نلاحظ كيف أنه يتحدث عما هو سياسي و متجرد. لقد كانت كل قصيدة لديه استعادة لمرحلة من تاريخ بلده. فقصيدته عن أمه و مدينته الديوانية هي في نفس الوقت اعادة تصوير لمرحلة من التاريخ الأسود في العراق بما فيها من عنف و اضطهاد و تدمير لمعنى الإنسان.
و لقد تنازعت هذا التوجه عاطفتان هما بمنتهى النبل و السمو.. التغزل بالمكان الأمر الذي يعيد للذهن تقاليد الشعر العربي الأصيلة في الوقوف على الأطلال، و رثاء وجوه بعض الراحلين. و هذه اضافة خاصة به. و إن كانت ترتبط غالبا بأسلوب كلمات التأبين التي تكيل المديح لمناقب الميت.
و قد فرض ذلك على اللغة أن تكون شيزوفرينية، تنقل المضمون السادي لعصاب سياسي جماعي بدأ من الاستقلال و لم يتوقف حتى اليوم. و في نفس الوقت تمرر الصور الرقيقة التي تختص بالمديح و بالمواصفات الرومنسية للحظات نحاول أن نثبتها في الذاكرة و أن نخفف بها وجع و مكابدات الواقع.
إن قصائد سعد جاسم متألمة في أحد مستوياتها، و حالمة تداوي جروحها بطريقة ذاتية في مستوى آخر. و هذه ميزة بدأت تنتشر في الشعر العربي الحديث منذ جيل النكسة.
هوامش:

1- قصيدة طائر بلا سماء من مجموعة لها هذا العنوان وصدرت عن دائرة الشؤون الثقافية ببغداد. 2013.
2- قصيدة أنت تشبهين الحب. من المجموعة السابقة.
3- قصيدة طفل الضحك والخسارات. منشورة في موقع مجلة إلى الإلكترونية. أرشيف صيف 2013.
4- مرايا جلجامش. من المجموعة.
5- هو يشبه أنكيدو. من المجموعة.
6- الديوانية يا أمي وحنيني. من المجموعة.
7- القصيدة السابقة.
8- القصيدة السابقة نفسها.
9- القصيدة السابقة.
10- قصيدة طائر بلا سماء من المجموعة التي تحمل نفس العنوان.
                   -تموز 2013-
*ناقد ومترجم سوري

أحدث المقالات

أحدث المقالات