تتحول المهن الراقية والمحترمة، والتي يجهد الناس في الوصول إليها، وتعلمها والحصول على شهادات عالية بها كالطب والمحاماة والعسكرية والهندسة الى مهن تجارية تفتقد الى الأخلاق والرحمة والعطف والإنسانية، وحتى مهنة التمريض، ولقد تمعنت في معاناة مواطن تحكي، وتحاكي معاناة ملايين المواطنين في البلدان العربية مع الأطباء والمحامين والممرضين في المستشفيات، ومنها الطريف، ولكنه فجيع للغاية، فيقول: ذهبت الى عيادة طبيب فقابلني السكرتير الذي طلب مبلغ يصل الى ماقيمته 25 دولار مع البقشيش في سبيل تقديم الدور، والدخول قبل الآخرين، وعندما يصل الطبيب ويجلس إليه، ويروي له حكاية المرض، ويقوم الطبيب بعملية الفحص بعد أن يطلب الى المريض أن يستلقي على السرير الأبيض، ثم (قول آآآه وتنحنح وكح وإجلس ثم تمدد ثم تنفس بعمق) بعد ذلك يطلب منه العودة الى الجلوس على الكرسي، ويبدأ بالحديث المكرر: لابد من الذهاب الى المختبر والحصول على تفاصيل عن نسبة الدهون في الدم، وكذلك بعض الأشعة، ومتطلبات أخرى، ويشكر المريض طبيبه، ويغادر.
يمر على مختبر الأشعة ويدفع 25 دولارا، وبعدها على مختبر الدم، ويدفع 25 دولارا ويعود الى العيادة، ويري الطبيب نتائج التحليل والأشعة، ويعطيه الطبيب الروشته، وينزل الى الصيدلية، ويشتري الدواء بأقيام مختلفة تبدأ من الخمسين ألف دينار، وقد تصل الى خمسماية دولار كما حصل مع حجي ناصر صديقي الذي ذهبت معه الى الطبيب، فوصف له قائمة أدوية، وكنت أمر على الصيدليات، وأشتريها بأقيام كبيرة وصلت الى الخمسماية دولار، وأكثر، وبعدها لم يستفد منها الحجي، وتركها في الثلاجة كما هو الحال مع عديد الوصفات الطبية التي تركها مركونة هنا وهناك، أو في الثلاجة التي ملت وكلت من كثرة مايلقي فيها من قنان وأشرطة حبوب وكبسول وووووو.
العالم يتجه الى هاوية سحيقة، ولايوقفه في الطريق شيء، فالفكر المادي يستولي على العقل والسلوك المتصل بالماديات والحسيات ولايترك المجال لأحد أن يتردد، ويتراجع، وكلما جمع الناس الأموال ظنوا إنهم مايزالون فقراء، وكلما شربوا ظنوا إنهم مايزالون عطشى، وكلما أكلوا ظنوا إن الجوع يخالطهم، ويحتويهم، ويقيدهم، وهم بحاجة الى الشبع والإرتواء، فلايشبعون، ولايرتوون، ويظلون يلفون ويدورون في حلقة مفرغة من الماديات التي تستحوذ على فكر ومشاعر وأحاسيس الناس، ولكنها تتركهم عندما يهرمون ويمرضون، ويغادرون الحياة الفانية الى البقاء، والدوام الذي لاينقطع.