“معرفة الحقيقة (الظاهرة ، وما إلى ذلك) هو معرفة السبب: لا يمكن للمرء معرفة الحقيقة إذا كان لا يعرف السبب”1
نحن نجرب وتتكون لدينا خبرة. كما نختبر العالم بألوانه وأشكاله وأصواته وروائحه ، ونختبر الكل ويتم اختبارنا من خلال تقلبات الحياة. على هذا الأساس لا يمكن الاستغناء عن التجربة ويجب أن يكون لكل إنسان تجاربه الخاصة. إن التجربة تصبح خبرة وهي جزء مما يعنيه أن تكون إنسان وتساهم في تطور الإنسان كانسان. لذلك تنعكس الفلسفة بكل طريقة ممكنة على طبيعة التجربة ودورها في تطوير الفن والسياسة والأخلاق والدين والمعرفة وتشمل مختلف مستويات الحياة أي علاقة المرء بذاته والغير والعالم. في البداية يمكن التمييز بين التجربة من حيث هي لقاء الوعي مع الواقع الخارجي يترتب عنه جلب معرفة جديدة لجانب من هذا الواقع من ناحية أولى والتجربة المفهومة بوصفها وقائع معاشة ، من خلال التفكير ، تكشف عن جانب جديد من الواقع من ناحية ثانية . من هذا المنطلق يعد مفهوم التجربة ليس فقط أحد أهم المفاهيم في الفلسفة ، بل هو أيضًا واحد من أكثر المفاهيم تعقيدًا ومن أعسر الإشكاليات التي عرفها تاريخ الفلسفة. يوجد جانبين من التجربة في نصوص أرسطو: الإمبيريا empeiria تعني شيئين – التجربة التي نحصل عليها عن طريق الممارسة والتي تتمثل في إتقان القدرات العملية ، وكذلك التجارب التي تم جمعها وتكديسها ومراكمتها أثناء لقاء الإنسان العامي بالعالم ، لذلك يحددها على أنها معرفة خاصة بأشياء معينة. لكن التجربة يمكن أن تحدد أيضًا العملية التي يتم عبرها تعديل معرفتنا وقدراتنا ومعاييرنا بشكل متبادل. لكن ما هو الدور الذي يسنده أرسطو للتجربة في نظريته الفلسفية؟ وبأي معنى يعتبر المعلم الأول الفيلسوف التجريبي الأول؟ وكيف مثل الاستقراء حجر الزاوية في اتجاهه التجريبي؟ وماهي تبعات هذا القول ؟
يدرس أرسطو طبيعة التجربة ومكانتها في نظرية العلم الطبيعي وفلسفة الكون والحكمة العملية ودرجات الكمال في المعرفة الحيوانية وفي المعرفة الإنسانية ويتتبع نشأة التجربة وعلاقتها بالعقل البشري،من جهة هدفه وعاداته وحاجتها إلى معرفة المبادئ الأولى ويثير التساؤل عن تكوين التجربة. لعل مفهوم التجربة عند أرسطو مستمد من مجموع المعرفة كما يسعى إلى تحصيل ذلك كل متدرب مستجد. كما يجري الإنسان تجاربه عن طريق حاسة اللمس وغريزة الحذر والتعلم وبواسطة التماثل ويكتسب درجات من الكمال في المعرفة عن طريق التجربة empeiria والفن والعلم والحكمة ويضيف التعود habitus . في هذا السياق يؤكد المعلم الاول على أهمية التجربة الحسية في بناء العلم الطبيعي بقوله:”من فقد حسا ما فقد فقد علما ما”.
في الواقع يدرس أرسطو ظروف تشكل التجربة ويتبنى نظرة واقعية تعتمد على المعطى الطبيعي والعادات التي يكتسبه الإنسان من المجتمع ولكنه يعول على نمط من المعرفة يرجع إلى المبادئ المطلقة والعلل الأولى. في كتاب الميتافيزيقا يرى أرسطو بأن لكل إنسان رغبة طبيعية في المعرفة ويبرهن على ذلك من خلال اللذة التي تحصل له عندما يتوفر على جملة من الادراكات الحسية سواء شم العطور أو النظر الى المناظر الطبيعية الخلابة أو اللوحات الفنية المرسومة أو التماثيل أو الاستماع للألحان الموسيقية والأنغام الغنائية. من المعلوم أن الحيوان يتقاسم مع الإنسان المعرفة الحسية وممارسة التجربة ولكن الإنسان يتفوق عليه بقدرته على تنظيم التجربة والاستفادة منها. لذلك ليست التجربة العلم بل العلم والفن يأتيان من التجربة2 . من المفارقات أن يدافع أرسطو على التجربة ويرى أننا لا نصل إلى تكوين تصورات عامة يقوم عليها العلم إلا عن طريق تجريد لعدد كبير من التجارب المتشابهة لأن الذين يعتمدون إلى التجربة يحققون نجاحات بالمقارنة مع أولئك الذين يهملون التجربة ولا يعتمدون إلا على المعرفة المجردة والنظريات الفكرية والمقاربة العقلانية ولذلك تم النظر إليه على أنه فيلسوف تجريبي طبيعي بالتعارض مع أفلاطون الفيلسوف العقلاني المثالي. ينطلق أرسطو من الفرضية التالية: العقل لا يمكننا إلا من معرفة التصورات العامة بينما التجربة تجعلنا نعرف الحالات الخاصة وكذلك في المجال العملي لا يتعلق الأمر بالقواعد الكلية بل بالمعطيات الجزئية. والآية على ذلك أن الطبيب لا يعالج الإنسان بصفة عامة بل يعتني بشكل ملموس بإنسان بعينه- سقراط. والحق أن الاستدلال يمكننا من معرفة أسباب الأشياء بينما التجربة تكتفي فقط بالإشارة إلى حقيقة وجود الأشياء دون الخوض في مسالة أسس هذه الأشياء والمبادئ التي تقوم عليها في وجودها وتترك مهمة معرفة أسبابها والإحاطة بكلياتها للعقل الذي يتفوق عليها من هذه الناحية ويسبقها بفضيله ماهو ثابت على ماهو متغير. غني عن البيان أن الفلسفة من حيث هي حكمة تتخذ لنفسها موضوعا يدور حول معرفة الأسباب الأولى والمبادئ القصوى. فهي وليدة الدهشة والتعجب من الظواهر التي تحيط بالإنسان منذ ولادته ويكتشف بمرور الوقت غرابتها. غير أن العلوم تنقسم الى صنفين: الأول يطلب لذاتها عن طريق التأمل النظري وهي علوم غايات والثاني يطلب لغيره من خلال التجربة وتعلم الصنائع بغية الاستفادة منها وهي علوم وسائل تحقق عدد من المنافع. في كتاب الفيزياء يؤكد أرسطو أن معرفة شيء معين تنبني على معرفة أسبابه الأولى وليس مظاهره الخارجية وحدد الأسباب وفق أنواع أربعة هي:
السبب الأساسي: “هو الذي يجعل الشيء ما هو”، السبب المادي: المادة التي يتكون منها الشيء، السبب الدافع: أصل حركة الشيء ويسمى أيضا العلة الفاعلة، ثم السبب الغائي: وهو الهدف الذي يصنع من أجله شيء ما ، بمعنى آخر هو أن الشيء الجيد هو أن الخير وهو الغاية لكل ما يحدث ويتحرك في هذا العالم. لكن أرسطو أثار الإشكاليات التالية: هل يتم دراسة أسباب حدوث الأشياء من قبل علم واحد أم عدة علوم؟ هل يقتصر العلم الأول على معرفة المبادئ الأولى للوجود أم مبادئ البرهنة والتوضيح؟ وهل يدرس العلم الجواهر والأسس أم المحمولات والأعراض؟ وهل تكتمل المعرفة بالشيء بالإلمام بالجزئيات والعناصر؟
لقد أدى هذا التصور إلى مراجعة تاريخ الفلسفة ووصف حكماء الطبيعة بالفلاسفة وتثمين مجهود كل من أناكسيماندريس وأمبيذوكليس لقولهما بالسبب المادي وقولهما بأن التغيرات المتعددة التي يعيشها الواقعة من جهة أعراضها فإن وراء ذلك يوجد شيء مادي ثابت هو الجوهر وسبب كل شيء وطبيعته ومبدأ وجوده ، ولقد أطلق عليه هراقليطس اسم النار وعند أناكسيمانس يسمى الهواء وعند طاليس يسمى الماء. بيد أن هذا التصور عاجز عن تفسير الحركة خاصة وأن المادة لا يمكنها أن تفسر الحركة وتقتصر على مبدأ الثبات وبالتالي يجد هذا التصور الطبيعي صعوبة في الإجابة عن سؤال: من أين تأتي حركة الأشياء؟
لقد نفي بارمينيدس وزينون لأيلي وجود الحركة لكي يحافظا على منزلة السبب المادي وفي المقابل يجدر قبول الحركة بصورة بديهية إذا ما تمت الرجوع إلى السبب الفاعل بوصفه قوة محدثة للتغير في الأشياء. لكن الاكتفاء بالحركة والمادة لا يسمح بتفسير مبادئ الخير والترتيب والانتظام في الكون ولذلك احتاج أناكساغور إلى افتراض وجود عقل كوني يتم تعريفه كوسموس يكون منظم للفوضى ويمثل أصل العالم. لقد اقتحم أرسطو تفاصيل العقائد ما قبل السقراطيين ولكي يبين لاكفايتها. فإذا كانت المحبة عند بارمنيدس هي السبب الغائي والسبب الفاعل في ذات الوقت أي المبدأ الكوني لجميع الأشياء فإن الكوسموس لا يعرف الخير والجمال والمحبة بل النزاع والظلم والشر ولذلك أضاف أبيذوكليس إلى النسق الكراهية وطرح أناكساغور النوس كمبدأ كوني يحقق التوازن والانسجام بين هذه المتضادات: المحبة والكراهية. كما اعتقد ديموقريطس في مبادئ الوجود واللاّوجود والفراغ والامتلاء لكي يفسر اختلاف صور الأشياء، بينما اعتبر الفيثاغوريون المبادئ الرياضية وخاصة الأعداد والأشكال الهندسية مبادئ جميع الموجودات. لقد استخدم أرسطو مبدأ النوس أو العقل لكي ينقد المثل الأفلاطونية ويعثر على السبب المباشر الذي أوجد الظواهر وقام بتنظيمها من خلال التناسب بين المبادئ والانسجام بين الكيفيات الأربعة والأسباب الأربعة. لقد جمع أرسطو بين المعقول الأفلاطوني الثابت الذي يتحرك ضمن الماهيات الكلية والمحسوس المتغير باستمرار عند هراقليطس وتلميذه كراتيل وسعى للبحث عن التعريفات والمسائل الأخلاقية عند سقراط3 . إذا كان جميع الناس يرغبون في المعرفة بشكل طبيعي فإن البحث عن الحقيقة يتراوح بين العسر واليسر إذ لا أحد يعزف عن الفضول المعرفي ولكن لا أحد يزعم بأنه قادر لوحده أن يبلغ الحقيقة التامة والنهائية. وبالتالي تقوم معرفة حقيقية الظواهر بالأساس على معرفة أسبابها وبهذا الحقائق الأبدية هي المبادئ والجواهر. لكن ماهي المناهج التي يستخدمها أرسطو عند دراسته ظواهر الطبيعة؟ هل يعتمد على الرياضيات؟
كلا ، لأن الرياضيات هي علم الأشياء العقلية ولا تصلح إلا لدراسة المواضيع غير المادية، لذلك ليست هذه الطريقة المناسبة في دراسة الطبيعة لكون هذه الأخيرة تتكون من المادة وتعرف الحركة والتغير. هناك طريقتان للمعرفة عند أرسطو إما بالبرهان العقلي أو بالاستقراء التجريبي. أما مبادئ العلم فقد تم الحصول عليها بإتباع مسار الاستقراء. بهذا المعنى يحتل الاستقراء induction مكانة بارزة في نظرية أرسطو بالنظر الى أنه يسمح من جهة أولى بالحصول على معرفة بالكليات والصور والمبادئ التي تمثل الركائز الأولى التي تتم عليها عمليات البرهنة، ولكنه يعمل على المرور من الخاص إلى العام وذلك باتباع الطريق الذي يقود من حالات مفردة الى تصور عام. في هذا السياق يقول أرسطو: ” من الواضح أنه من الضروري أن يكون الاستقراء هو ما يجعلنا نعرف المبادئ، لأنه بهذه الطريقة ينتج الإحساس نفسه لنا الكلي”. هكذا يتكون الاستقراء من حدس العقل للضروري وراء العام أو المعتاد الذي يمنحه الإحساس. المهم هو الانطلاق من الوقائع الملاحظة بصورة جيدة لكي لا يتجاهل العقل أهمية المادة والصورة والعرض والماهية التي يتمثل كلها الموضوع الخاص للعلم من أجل الوصول الى مبادئ الأشياء.
الاستقراء هو أساس وقاعدة كل معرفة ودون الاعتماد عليها والانطلاق منه لا يمكن تكوين اي علم. إذا كان الاستقراء يفضل التفكير في الحالات الفردية التي تكرر نفسها بطريقة منتظمة ، وتؤدي بنا الحالة إلى العام ، فإن النوس يؤدي بنا إلى معرفة مطلقة بالسبب والجوهر: ” من الضروري تحديد عدد أنواع الاستدلالات الجدلية. هناك الاستقراء من ناحية والمنطق من ناحية أخرى…بالنسبة للاستقراء ، فهو الانتقال من الحالات الخاصة إلى الكوني: على سبيل المثال ، إذا كان الطيار الأكثر مهارة هو الذي يعرف ، وإذا كان هو نفسه بالنسبة للسائق ، فعندئذ ، بشكل عام ، هو الذي يعرف في كل حالة أنه الأفضل”4 . إذا كانت فلسفة أرسطو تتضمن نزعة تجريبية وتولي عناية خاصة بالاستقراء، كيف هيمن المنطق الاستنباطي على المعرفة وتحولت الفلسفة العقلانية الأرسطية إلى اكبر عائق أمام تقدم البحث العلمي؟
الإحالات والهوامش:
[1]Voir Aristote, Métaphysique, Livre A. traduction de J. Tricot, édition Broché, librairie philosophique Vrin, 2000.
[2] Voir Michel Siggen, L’expérience chez Aristote, Aux confins des connaissances sensible et intellectuelle en perspective aristotélicienne, édition Peter Lang, 2005, 473 pages.
[3] Voir Aristote, la physique, traduction de Pierre Pellegrin, édition G F, Paris, 1999.
[4] Aristote, Topiques, traduction de J. Tricot, édition Vrin, Paris,1950, p. 28-29
المصادر:
Aristote, Métaphysique, Livre A. traduction de J. Tricot, édition Broché, librairie philosophique Vrin, 2000.
Aristote, la physique, traduction de Pierre Pellegrin, édition G F, Paris, 1999.
Aristote, Topiques, traduction de Jules Tricot, édition Vrin, Paris,1950
المراجع:
Michel Siggen, L’expérience chez Aristote, Aux confins des connaissances sensible et intellectuelle en perspective aristotélicienne, édition Peter Lang, 2005, 473 pages.