18 ديسمبر، 2024 11:18 م

مر ما يقارب النصف عام على الاحتجاجات الشعبية في العراق، ولا تزال تلك الحركة الاحتجاجية تراوح مكانها ،كما أن إجراءات السلطة لم تحقق أي تقدم باستثناء التصويت على قانون انتخابات ،لم ينجز بشكل كامل واستقالة الحكومة ،التي ما زالت تسيّر أمور الدولة.
بعد مرور ستة أشهر، ماذا تحقق غير الفوضى والخوف من المجهول؟ ولماذا لم تستجب تلك الاحتجاجات لواقعها الثوري ،الذي استمدت قوته من رغبة تاريخية للشعب العراقي الذي سئم من تخبطات السلطة وفسادها؟.
في تصوري أن السلطة والمحتجين ،يتحملان مسؤولية ما آلت إليه الأمور الآن، وذلك بسبب غياب الوعي في التعامل مع خطورة الوضع الراهن، وللأسف ،إن المحتجين على اختلاف وعيهم ،لم يطلعوا جيداً على التجارب العالمية المماثلة، ففي بولندا عندما بدأت الحركات الاحتجاجية ضد النظام الشيوعي ،كانت هناك قيادة واضحة تطلق على نفسها “حركة التضامن” وهي نقابة عمالية أسسها ليخ فاونسا، واستطاعت هذه القيادة ،لما تمتلكه من رؤية واضحة في الأهداف من إسقاط الحكم الشيوعي بعد ثمانين عاماً من الحكم ،بعد جولة مفاوضات بين الحكومة الشيوعية وحركة التضامن ،وانتهت بإجراء انتخابات حققت خلالها الحركة انتصاراً ديمقراطياً وأصبح ليخ فاونسا حاكما للبلاد وحقق جميع مطالب الشعب ،التي قامت من أجلها التظاهرات.
وفي تشيكوسلوفاكيا كان للاحتجاجات التي قادها فاتسلاف هافل تأثير فاعل في تحريك النمط الثوري السلمي ،بعد أن تمكنت من إسقاط الحكم الشيوعي بثورة بيضاء ،وبعدها تحقيق الانفصال السلمي بين التشيك وسلوفاكيا ،وكل ذلك تحقق لأن هافل يمتلك كاريزما القائد الثوري الواعي لمتطلبات المرحلة، وبفضل تلك القيادة تحققت مطالب الشعب.
وفي رومانيا تمكنت الاحتجاجات الشعبية من الإطاحة بنيكولاي تشاوشيسكو أكبر دكتاتور في أوروبا الشرقية ،وذلك بسبب وجود قيادة حقيقية وفعلية للاحتجاجات ،أسهمت بشكل كبير في تنظيم الحراك الشعبي والتخلص من النظام الدكتاتوري.
وكل هذه التجارب تدلل على أهمية وجود القيادة الميدانية الفكرية ،التي تستطيع أن تحدد استراتيجية الحراك وفق رؤية واضحة ومحددة ،يمكنها من انتزاع حقوقها بأقل الخسائر، فالقيادة التي تمتلك مواصفات خاصة تجعلها قريبة من الجماهير وعارفة بمطالبها وقضاياها هي من تستطيع أن تمثل الشعب في مراحل التفاوض وإعادة بناء الدولة.
ولكن التظاهرات في العراق ،وبما أفرزته المعطيات ،أثبتت أنها تفتقر الى القيادة الماسكة بخيوط الحراك ،والقادرة على التعاطي مع المتغيرات،فضلاً عن بطء شديد في التحرك الثوري المنتزع لحقوقه ،وفق استراتيجية السلم ،بما يمكنها من تحقيق ذلك باستغلال حالة الضبابية السلطوية ،وعدم الثبات لدى صناع القرار، لكن كل ذلك لم يحصل ،بل على العكس ضلت الاحتجاجات تراوح وتتراجع خطواتها الى الوراء ،وتحولت إلى فوبيا تصدع ذهنية المواطن ،الذي بات يخشى من المجهول، وهذ التخبط حدث، بالرغم من أن التظاهرات كبيرة من حيث العديد والمساحة الجغرافية ومتنوعة من حيث المستوى الثقافي والفكري وبعيدة إلى حد كبير عن التخندق الطائفي والحزبي.
فلماذا تحولت التظاهرات من ضرورة وطنية إلى حركة يراها البعض مجرد فوضى وخراب ؟، الجواب واضح ولا يحتاج إلى ذكاء أو دراسة علمية، هو غياب القيادة الموحدة التي تمتلك رؤية سياسية واقتصادية ،تمكنها من التفاوض مع البرلمان والكتل السياسية والأحزاب وخلق تفاهمات ناضجة ،تسهم في إعادة بناء الدولة من جديد، لكن الاحتجاجات لم تمتلك تلك القيادة وظلت مشتتة ،وغير قادرة على التعبير عن وجودها الفكري ،مثلما عبرت عن وجودها البشري، بل طوقت نفسها بعناد وازدواجية في القرارات والمطالب ،فتارة ترشح علاوي ،وبعدها ترفضه ،وتارة أخرى ترشح علاء الركابي وفائق الشيخ علي لتعود بعد ذلك رافضة لترشيحهما.
لم تستطع الاحتجاجات أن تخرج من واقعها الانفعالي ،والابتعاد عن الأرض الرخوة التي تسير عليها، بل ظلت غاطسة في تلك الأرضية ،ولم تحقق أي قفزة إلى الأمام، فهل يعتقد المحتجون أنهم يستطيعون انتزاع السلطة من الأحزاب القوية ،والمسلحة بأموال ضخمة وأسلحة؟، حتماً أن خيار العند ،هو الأضعف في حلقة التظاهرات ،والورقة الخاسرة التي تريح الأحزاب، وجميع المحاولات التي قامت بها الحكومة والبرلمان لفتح قناة اتصال واجراء حوار مع المتظاهرين اصطدمت بخيارت العند والرفض، حتى المحاولة الاجرائية التي قام بها رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي ونزوله الى ساحة التظاهرات وذهابه بشكل شخصي الى ساحة النسور لمقابلة المتظاهرين والاستماع الى مطالبهم قوبلة بالرفض والعناد، وكان بامكان المتظاهرين اجراء حوار مباشر وايصال صوتهم للأعلى شخصية في السلطة التشريعية خاصة وانه شاب ويستطيع ان يفهم متطلباتهم
المتظاهرون يحتاجون الآن إلى القيادة أو مجموعة قياديين يمثلون المتظاهرين لتحديد الاستراتيجية ،التي يتفاوضون من خلالها مع الدولة ،وإجراء حوارات مع الأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي والمنظمات الدولية الأخرى ،أما البقاء على هذه الفوضى فإن هذه التظاهرات ،ستخرج عن إطارها الوطني والشعبي ،وتتجه إلى المزيد من الفوضى ،وهو ما يسير عكس طموحات الشعب الباحث عن الهدوء بعد عقود من الضجيج.
الجميع يعلم أن الشعب بحاجة إلى الخدمات والرفاهية ،لكن هذا الأمر يأتي عن طريق التفاهمات والرؤية الواضحة ،وليس عبر العناد والفوضى وتزايد وتيرة العنف، ونستطيع القول إن الخروج من المأزق ،لا يتم إلّا بوجود القيادة الثابتة ،لأنها أساس الاحتجاجات ،وبدونها تكون التظاهرات مجرد حركة عشوائية تعبر عن رفض هستيري لحالة دون البحث عن البدائل.
لذلك أنصح المتظاهرين بالإسراع لإيجاد قيادة أو مجموعة قيادات متفقة مع بعضها على برنامج سياسي قابل للتحقيق على المدى المنظور ،لأن التغيير المنشود لا يتم من دون قيادة تخطط للحاضر وترسم أطر المستقبل.