احتفلت الجماهير العراقية المتعطشة للحرية والساعية الى استعادة كرامتها المسلوبة من قبل الحكومة ومجلس النواب وقوى التخدير الاخرى في صبيحة يوم السبت الموافق 31 آب 2013 بتظاهراتها التي عمت محافظات الوسط والجنوب مطالبة بالغاء الرواتب التقاعدية لاعضاء مجلس النواب التي يتقاضونها بارقام خيالية تبلغ الملايين من الدنانير مقابل خدمة تختلف بين نائب واخر فقادة الكتل وبعض الشخصيات الاخرى عرف عنهم عدم حضور جلسات مجلس النواب الا ما ندر فيكون تقاعدهم المليوني مقابل خدمة فعلية لاتتجاوز ساعات محدودة فقط واخرون يمتاز حضورهم بانه متقطع بل حتى الذين كان حضورهم كاملا فان خدمتهم حسب المدة الدستورية لاتتجاوز السنوات الاربع بينما رواتب المتقاعدين من وظائف الدولة الاخرى لاتتعدى بضعة مئات من الالوف مقابل خدمة تتجاوز فيى الغالب الخمسة وعشرين عاما خدموا خلالها دوائر الدولة وافنوا شبابهم فيها .
وبمقارنة بسيطة بين الراتبين نجد ان الراتب التقاعدي لعضو مجلس النواب لخدمة اربع سنوات يزيد عن معدل الراتب التقاعدي لموظفي دوائر الدولة الاخرى لخدمة 24 سنة (افتراضية ) بمقدار (30) ثلاثين مرة وهي نسبة خيالية وغير مقبولة دستوريا ولاعقليا ومخالفة لمباديء العدالة الاجتماعية التي تدعو لها الديموقراطية التي ندعي تطبيقها فهل من المعقول ان يحصل البرلماني الذي يخدم الدولة بنسبة 15% مقارنة بالموظف المتقاعد الاخر على راتب تقاعدي اكثر بنسبة (3000%) من راتبه.
وبعد سنوات من استغفال الحكومة ومجلس النواب للشعب العراقي وتجاهلهما لمطالبه رضخوا اخيرا وتحت ضغط التظاهرات فاستجابت الحكومة لمطالب المتظاهرين وصرح نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني بان لجنة مختصة في مجلس الوزراء قدمت مسودة قانون يحتسب الراتب التقاعدي حسب معادلة خاصة تربط بين الراتب الاسمي وسني التقاعد وان هذا القانون يشمل موظفي الدولة العراقية كافة ابتداءا من رئيس الجمهورية نزولا حتى ادني درجة وظيفية ولم يتضح بعد ان كانت هذه المسودة ستتحول الى قانون ام ان الخلافات السياسية والمصالح الشخصية للبرلمانيين وكبار المسؤولين والخلاقات بين مجلسي الوزراء والنواب سترفض او تمنع اصدار مثل هذا القانون.
ومن خلال متابعتنا لهذه التظاهرات نستطيع ان نبين بعض ملامحها الايجابية والسلبية فقد امتازت بما يلي :
1- انها تظاهرات شعبية غير مرتبطة باي من احزاب السلطة ولا احزاب المعارضة ولا تيارات دينية او مذهبية فلم تحرك الجماهير فتوى ولا طائفية مذهبية انما دعت لها قوى مدنية اعلامية وثقافية ليس لها دوافع سياسية فليس من اهدافها اسقاط الحكومة ولا تصحيح الدستور ولا تبديله .
2- ما كانت هذه التظاهرات ذات اجندات خارجية فالمطالبة بالغاء الرواتب التقاعدية للبرلمانيين هدف وطني بحت بل على العكس من ذلك فانه يمكن القول بان الاقليم الشرق اوسطي يشجع البرلمانيين على ذلك لانه انهاك للعراق ويقوي البرلمانيين خاصة وان اكثرهم مرتبطون باجندات خارج العراق .كما ان الذين رفعوا هذا المطلب هم من عانى الامرين من انشغال الحكومة والبرلمان بامور اخرة بعيدة عن هموم الشعب . والهدف منه تعزيز الاقتصاد الوطني وتقليل الفساد المالي ومحاربة المنافع الشخصية لكبار المسؤولين والمطالبة بمساواتهم مع سائر الموظفين في الدولة العراقية من اجل تنمية العدالة الاجتماعية وهذا ما لاتريده دول الاقليم .
3- التظاهرات عراقية بحتة بمعنى انها تنتمي الى العراق وطنا وشعبا فالعلم المرفوع علم العراق وحده يرفرع عاليا على هامات المتظاهرين ولم تظهر فيها اي شعارات او صور او رايات او ملامح اخرى لانتماء ديني او مذهبي اوقومي او مناطقي . وكل هذه الاهداف هي مطالب وطنية عراقية بحتة لايمكن حصرها لمصلحة مكون معين اي كان تركيبه.
4- امتدت هذه التظاهرات على عموم وسط وجنوب العراق وبتوقيت واحد حيث تم العمل عليها مسبقا من قبل لجان تنسيقية مشكلة في المحافظات لهذا الغرض والتي تحركت اساسا عبر صفحات الفيس بوك ولم تقتصر على محافظة معينة او مدينة محددة
5- اظهرت للواقع قدرة العراقيين على استخدام شبكات التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) من اجل المطالبة بالحقوق وامكانية التنسيق بين قطاعات مختلفة من الشعب ومن مناطق متباعدة لتفعيل الاهداف وان كانت هذه القطاعات والشرائح مختلفة في توجهاتها الفكرية وهو مؤشر جيد يجب الاستفادة منه وتطويره نحو اهداف اخرى .
6- المشاركة الواضحة لبعض اعضاء الحكومات المحلية في عدد من المحافظات لقيادة التظاهرات ومشاركة المواطنين المطالبة بالغاء الرواتب التقاعدية للبرلمانيين وهو امر مهم وكبير ولكن الاعلام لم يسلط الضوء عليه مع الاسف .
7- الاعتذار العلني الرسمي والصريح لمحافظ ذي قار عن حالات الاعتداء التي تعرض لها المتظاهرون في الناصرية من قبل بعض الاجهزة الامنية في المحافظة وتعهده بتعويض المتظاهرين المتضررين من ذلك وكذلك عقد مجلس المحافظة جلسة طارئة استجوب خلالها قائد الشرطة عن ما حصل من اعتداءات على المتظاهرين والاعلان عن ازاحته من منصبه وهي ملامح ديموقراطية حقيقية يجب الاستفادة بها ومتابعتها .
8- صدور تصريح رسمي من رئيس الوزراء بتاييد التظاهرات وسرعة انجاز اللجنة المكلفة من قبله وضع مسودة قانون موحد للتقاعد شامل لجميع الموظفين في الدولة العراقية تمت مناقشتها والموافقة عليها من قبل مجلس الوزراء وهذا يسجل نقطة مهمة لصالح مجلس الوزراء.
ومع كل ما ذكرناه فان هذة التظاهرات لم تكن خالية من السلبيات والاخطاء التي كان بعضها مشخصا قبل التظاهر فيما بدت اخرى بعده ويمكن ايجازها كما يلي :
1- اقتصار التظاهرات على هدف محدد هو المطالبة بالغاء الرواتب التقاعدية للبرلمانيين جعل الكثيرين يترددون في المشاركة فيها لانها اخرجت الحكومة من اي مساءلة وجنبتها مطالبات الجماهير الغاضبة بينما كانت دعوات اخرى لشمول الرئاسات جميعا والوزراء والدرجات الخاصة بهذه مطالب وقد اثر ذلك على امتداد المشاركة في التظاهرات افقيا وعموديا حيث امتنعت الكثير من الجهات عن المشاركة في التظاهرات لانها لا تعبر عن المعاناة الحقيقية للشعب ولا عن مطالبه الفعالة في مكافحة الفساد الاداري والمالي وتوفير الخدمات للمواطنين وبسط الامن والامان.
2- عدم فعالية المطلب فالمطالبة بالغاء رواتب البرلمانيين التقاعدية لايتم الا بقانون والقانون يحتاج الى تشريع والتشريع لا يصدر الا من مجلس النواب بعد ان يوافق عليه البرلمانيون الذين يطلب المتظاهرون بالغاء رواتبهم التقاعدية وهي معادلة غير مقبولة عقليا وبعيدة عن الواقع مما يسهل على البرلمانيين رفضها اضافة الى ان البرلمانيين يمكن ان يشرعوا لانفسهم رواتب عالية بطريقة اخرى من دون الرجوع الى الشعب فيكونوا قد التفوا على التظاهرات وحافظوا على رواتبهم العالية وحجتهم انهم الغوا تقاعدهم .ومن جهة اخرى كان الاولى ان يكون المطلب هو تعديل الرواتب التقاعدية للنواب وليس الغائها وبهذا تكسب الجماهير عددا جيدا من النواب المؤيدين لهذا المطلب .
3- اظهرت التظاهرات قصر نظر الاجهزة الامنية في بعض مفاصلها في التعامل مع المتظاهرين اذ تعرضوا في بعض المحافظات الى الضرب واستخدام خراطيم المياه والعيارات النارية من قبل افراد هذه الاجهزة على مراى ومسمع اجهزة الاعلام وسالت دماء الكثيرين وكذلك تم اعتقال عدد من الناشطين المدنيين نتيجة لدورهم في التظاهرات بينما تعاملت الاجهزة الامنية في محافظات اخرى بدرجة عالية جدا من المسؤلية والمهنية وحققت الحماية الكافية للمتظاهرين حيث مرت التظاهرات في يومها من دور اي خروقات امنية تذكر واثبتت بشكل كامل قدرتها على مسك الملف الامني بنجاح .
4- ومن الملامح المؤسفة جدا خلال هذه التظاهرات هو عدم تصدي اي كتلة برلمانية ولا جهة حكومية للمشاركة فيها ولا الاعلان الرسمي عن تاييدها وهو موقف سيتضح مقالبه موقف شعبي ساحته الانتخابات البرلمانية القادمة
5- ما زال الموقف العام للشعب العراقي في العمل الميداني بصوره المختلفة والتي منها التظاهرات يرتكز على القاعدة الشعبية (الاعتزال عن المشاركة) وكأن الحدث لايعني الجميع اذا كانت اعداد المتظاهرين دون مستوى الطموح ولكن بعض النقاط السلبية المذكورة في اعلاه اضافة الى يأس الانسان العراقي من التغيير واستجابة الحكومة لمطالبه دفع الملايين الى العزوف عن المشاركة .
6- ظهر جليا عدم وجود القدرة على المطاولة والثبات على الحالة من اجل تحقيق الاهداف لدى المواطن العراقي المعروف بصبره على ما يكره فالتظاهرات كانت رسالة الى السلطات ولم تاخذ مساحة زمنية كبيرة اذ سرعان ما انسحب المتظاهرون ولم تنتظر لحين معرفة ردود الافعال البرلمانية ان لم نقل تضغط باتجاه تحقيق اهدافها ففقدت بهذا فرصة ان تستجيب الرئاسات لمطالب المتظاهرين بشكل فوري من خلال اجتماع مجلس النواب لمناقشة الموضوع او على الاقل صدور بيان منه يتعهد به لمناقشة المطلب الشعبي ولكن هذا لم يحصل .
ان الملامح الايجابية والسلبية التي ذكرناها هي اهم ما ظهر خلال هذه التظاهرات فعلينا ان نستفاد من الحالات الايجابية ونرسخها ونطورها الى الاداء الافضل وان نعالج السلبيات حتى لانقع في مثلها مستقبلا وهدفنا هو بيان الدروس والعبر من ممارسة ديموقراطية مهمة دلت على تبدل الوعي الديموقراطي لدى الفرد العراقي يمكن الاستفادة منه لتصحيح مسار العملية السياسية.
هنيئا للشعب العراقي على موقفه
هنيئا للمتظاهرين على بطولتهم
https://www.facebook.com/abdulsattar.alkaabi