18 نوفمبر، 2024 3:35 ص
Search
Close this search box.

المشروع الحضاري العربي .. ماضي الحاضر ومستقبل الحاضر

المشروع الحضاري العربي .. ماضي الحاضر ومستقبل الحاضر

بداية، لا بد من تحديد معنى المشروع الحضاري الذي هو بالاساس تصور لاعادة صياغة مجتمع ما، في جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية… بحيث يجد هذا التصور طريقه الى التطبيق، وفي اطاره يتم بناء الفرد وفق نسق عقائدي معين بما يحقق النظرة الجديدة للعالم التي يتبناها المشروع.
وفي ضوء ذلك، فاننا في دراستنا هذه، نطرح نموذجية الحضارة العربية (السابقة) من حيث انها جاءت مختلفة عما سبقتها وما عاصرها من الحضارات الانسانية الاخرى. وقد جاء وعي هذا الاختلاف من كون المشروع الحضاري العربي ولا سيما في تجربته الاسلامية، هو رسالة ذات اساس ديني وافق انساني، او ان تلك الرسالة هي عقيدة قوم تطمح الى اعادة انتاج الحضارة على اسس قيمية خالصة وتتوجه الى ان تصير نظاماً شمولياً يعم الانسانية جميعها.
لقد ابدع العرب مشروع اعادة الانسان الى رحم الكون في ذلك العصر الذي كانت في الاديان والعقائد مناهج عقلانية وجدانية معاً لشق سبل الخلاص امام الانسان الرازخ تحت عبودية الطبيعة والاستبداد الاجتماعي في وقت واحد.
وانتج العرب مشروعا شموليا لتغيير خارطة العالم الجغرافية والعقلية والاجتماعية والمادية وسجلوا تجربتهم الحضارية كواحدة من اعظم حضارات الانسانية. لذلك، لا بد من التأكيد، ان الاسلام في الحقيقة ليس كغيره من الاديان السابقة المنزلة، فهو ليس مجرد عقيدة وشريعة، بل هو الى جانب ذلك اخلاق وآداب ونظام في القيم والمبادئ لتدبير امور الحياة الفردية والاجتماعية. وعليه، فانه كان لا بد ان تظهر على يد العرب المسلمين حضارة خاصة بهم، ارادها الله ان تكون رسالتها الانسانية جزء من الخطة العامة في نظام الخلق، وان تكون كذلك بمعناها الحقيقي بمثابة تكليفاً الهياً.
-2-
“ان التاريخ العربي بدأ مع الاسلام. فمنذ ظهور الاسلام وقيام الدولة العربية الاسلامية الاولى في المدينة، وسكان هذه المنطقة يبنون ويعيشون تجربة حضارية مشتركة تتجسم فيها كلية تاريخهم. والذي يهمنا هنا، في دراستنا هذه، ليس تفاصيل هذه التجربة ولا ملتويات هذا التاريخ، بل ما يهمنا هو النظر اليها بعين العقل- عقلنا نحن الذي يحمل همنا المعاصر- من اجل الكشف عن نزوعاتها الداخلية، من اجل تكثيف حركتها المتشعبة في مسيرة ذات اهداف…
لنتساءل اذن: ما الغايات التي كانت التجربة الحضارية العربية تعمل على تحقيقها منذ انطلاقتها، مع دولة المدينة الى تفكك اوصالها عهد ابن خلدون وما تلا عصر ابن خلدون.. الى بدء اليقظة العربية الحديثة؟
لم يكن هناك، قبل قيام الدولة العربية الاسلامية ما يجمع بين شعوب هذه المنطقة الممتدة من المحيط الى الخليج، التي كانت في الحقيقة مجموعة مناطق تستشري التعددية في كل منها وعلى جميع المستويات: تعددية اثنية اجتماعية، تعددية لغوية، تعددية دينية، تعددية في الفكر والثقافة، تعددية في الولاء السياسي.
واذا نظرنا الان الى التجربة الحضارية العربية الاسلامية في ضوء هذا الواقع الذي وصفناه، سهل علينا ان نتبين فيها ثلاثة اهداف او نزوعات رئيسية هي التي تعطي – في نظرنا- للتاريخ العربي الاسلامي معناه ودلالته، وبالتالي هي التي تعطي للمشروع الحضاري العربي معنى، وفي الوقت ذاته تمد علم المستقبلات العربية بالمرجعية القادرة على جعله يتوقع مستقبلاً يتجاوز الواقع الراهن ويدفنه بدل ان يبقى حبيس لغة الارقام المزيفة، وسجين الموضوعية التي تفتقر هي نفسها الى الموضوعية.
ثلاثة اهداف او نزوعات كانت تحرك من الداخل، بالفعل والممارسة التجربة التاريخية/ الحضارية العربية الاسلامية منذ ان بدأت، وهي نفسها التي تحرك من الداخل كذلك، ولكن في صورة حلم عنيد متجدد طموح العرب في الحاضر الى مستقبل سيظل باستمرار مشروعاً امامهم ينمو ويتسع بكفاحاتهم ويتقلص ويضمر باستكانتهم وتخاذلهم:
1- الهدف الاول: يتمثل فيما عرفت به هذه التجربة من النزوع نحو التوحيد والوحدة، هذا النزوع الذي ترجم عملياً في قيام الدولة العربية الاسلامية الواحدة الواعية بنفسهاوبطابعها السياسي، ابتداءاً من عهد الفتوحات الكبرى عهد الخلفاء الراشدين والامويين.
2- الهدف الثاني: يتمثل فيما عرفت به التجربة العربية الاسلامية من نزوع نحو التمصير والتمدين، اعني الانتقال بالمجتمع من البداوة الى الحضارة، من مجتمع العشيرة والقبيلة الى مجتمع المدينة.
3- الهدف الثالث: فيتمثل فيما طبع التجربة الحضارية العربية الاسلامية من نزوع نحو العقلنة، عقلنة الدين، عقلنة الفلسفة، عقلنة العلم، عقلنة الحياة الاجتماعية، عقلنة السياسة….
لم تحقق هذه الاهداف في صورتها الكاملة في اية فترة من فترات التاريخ العربي الاسلامي، وهذا ما يجعلها حية تؤسس بصورة واعية او لا واعية نزوعات العرب اليوم الى مشروع حضاري مستقبلي.
ان المشروع الحضاري العربي مشروع الماضي ومشروع المستقبل، هو النزوع الى تحقيق هذه الاهداف الثلاث: الوحدة، التمدين، العقلنة.
كما ان التاريخ العربي الاسلامي يفقد معناه ويبقى مجرد احداث تتعاقب وتتصادم، ودول تتنافس وتتزاحم، اذا لم نقرأه كصيرفة هادفة الى تحقيق هذه النزوعات الثلاثة. كذلك، علم المستقبلات العربية لن يستطيع ان يعمل خارج نطاق تنمية التخلف وتعميق التبعية ما لم تؤسس على خيارات استراتيجية ثلاثة: الوحدة، التمدين، العقلنة. ذلك، لان المستقبل العربي، مستقبل كل العرب، ومستقبل كل قطر عربي، رهين بما سينجزه العرب في اطار هذه الخيارات الاستراتيجية التي هي اليوم اكثر من اي وقت مضى ضرورة تاريخية.
تلك كانت المقومات الاساسية والضرورية للمشروع الحضاري العربي، كما طرح في تجربته الاسلامية. واذا ما دامت هذه المقومات قائمة كنزوعات تستحث الفكر والعمل فالعرب سيظلون مشروعاً للمستقبل. اما اذا ماتت فيهم هذه النزوعات الثلاثة…. فانه سيكون من لغو الكلام الحديث عن مشروع حضاري عربي.
ان العرب من دون هذه النزوعات الثلاثة سيخرجون نهائيا من التاريخ…. تاريخهم الذي كان تاريخاً للعالم.
-3-
ثمة انحراف تاريخي مطالبون الآن بتصحيحه، يتجسد هذا الانحراف في التبعية للغرب، والتصحيح يبدأ بالعودة الى المسار والمدار الصحيح في محاولة لانعاش وعي جديد داخل الوعي السائد يشتمل عليه ويتجاوز بنفس الوقت والتجاوز هنا تلمس معطيات العصر وليس الانفلات.
ان استلهام الخصوصية الحضارية يقوم على فهم الألية الحضارية التي حاول من خلالها اسلامنا الاستجابة للتحديات عبر مواقف تحتذي الى الآن كسلوك جد عملي وضروري.
ان المشروع الحضاري العربي المستقبلي مطالب باستلهام الخصوصية التاريخية في محاولة لتأكيد الذات وانهاء حالة الاغتراب وافساح المجال لمشاركة فعالة في الحضارة الانسانية في عصر قادم يقوم على تعددية الحضارات… هذا اذا اخذنا بنظر الاعتبار الى ان استراتيجية الاستعمار الجديد الامريكي/ الصهيوني يقوم اساساً اليوم على تدمير الهوية الحضارية للامة العربية واجهاض مشروعها النهضوي والتكوين، واستبدال جماهير الوعي والتنظيم والتنوير باخرى غيبية امية منقادة بشعائريات التخلف والانغياب عن مسرح العصر والحدث الراهن وراء ظلاميات المذهبيات والعنصريات الحاقدة على العرب ودينهم الحنيف الاصيل.
ان الازمات السياسية والحروب الاهلية والاقليمية المستعرة في انحاء الوطن العربي يقف وراءها نوع آخر من التحديات تنتاب ثوابت المشروع الحضاري العربي التي حفظت له الحد الادنى من امنه الحضاري ان صح القول، وخلال كوارث الانحطاط القديم والتحولات المصيرية الكبرى في العصر الحاضر.
لقد صمدت ثوابت هذا المشروع طيلة المعركة مع الاستعمار الاوربي الاحتلالي، كما انها تابعت هذا الصمود وطورت من زاده الثقافي وادواته الاجتماعية والسياسية خلال مرحلة الصراع مع الاستعمار الجديد وقيام الكيان الصهيوني.
لكن التحدي الراهن ينبثق ضمن دائرة:
اولاً- المجال العقائدي.
ثانياً- الجيو سياسي للفكر العربي في آن واحد.
وهنا تبدو اهداف التحدي الجديد انها تريد النيل من ثوابت المشروع الحضاري العربي نفسها. انها لا تطال الامن السياسي والاجتماعي والاقتصادي فحسب، ولكنها تتطلع الى تجاوز كل هذه الدوائر والحصون الموضوعية حتى تصل الى القواعد التاريخية التي قامت عليها ثوابت هذا المشروع نفسها منذ فجر حضارته حتى العصر الراهن. فالامة العربية التي اعتادت مواجهة الاستعمار والصهيونية واستطاعت ان تحقق الكثير من النقاط الايجابية في صراعها المستمر مع مختلف مراحل تطوراتهما بما ابتكرت من ادوات المواجهة المباشرة وغير المباشرة.
وعلى ما يبدو اليوم ان مصدراً ثالثاً قد تكون كبؤرة تحدٍ جديد لها ينبثق هذه المرة من داخل التراث العقائدي للامة، ومع ذلك الشكل من العداء التاريخي الذي عرفه العرب في منعطفات تجاربهم الحضارية السابقة.
مثل هذا المصدر الجديد للتحديات الذي يمكن اعتباره التحدي العقائدي يتطلب اعادة قراءة لمعطيات التجربة النهضوية المعاصرة وما فجرت من تناقضات ذاتية وموضوعية حولها تتخذ اشكال تهديد مختلفة لثوابت المشروع الحضاري العربي ومستقبل نجوعه على ارضه ولمجتمعه.
يتخذ التحدي العقائدي صورة الغزو الداخلي. وبذلك يختلف عن انماط الغزو الاخرى السابقة التي كان يجسدها احتلال استعماري. فما يسمى بالصحوة الاسلامية المدعومة من قبل قوميات عنصرية مهددة للكيان العربي اصلاً، انما يسعى الى تحقيق فراغ عقائدي داخلي تملؤه فيما بعد غزوات عسكرية مباشرة من قبل العنصريات غير العربية المغلفة بواجهة الشعارات الاسلامية الثورية، بحيث يبدو الغزو العنصري الخارجي كأنه دعوة عقائدية داخلية تسوقها الاستقطابات المذهبية في المجتمعات العربية.
فالاسلام نفسه يجري سلخه عن تاريخيته وبنيته وتحجيمه الى مستوى الطقسيات والتفاصيل الشعائرية وشحنه بالتأويلات المذهبية المتخلفة واستخدامه لاهداف سياسية مرتبطة بديكتاتورية كهنوتية قروسطية ما زالت متسلطة على شعب جار للعرب وشريك تاريخي مزعج لهم.
هذا النوع من الاسلام ذهبت عنه دلالته الثقافية الشاملة، ويستخدم في سياق تحريفي ضخم لمسار النهضة القومية والحداثة العصرية، بحيث يتحقق عزل العرب عن دورهم الثقافي والسياسي ويتم بذلك توجيه طلائعهم النضالية الى معارك هامشية تبعث مختلف محاور الفئوية والمذهبية والعنصرية داخل الجسم القومي والاجتماعي الواحد.
ان تحريف الاسلام بهذه الصورة، تقلبه من تراث قومي وانساني الى ايديولوجيا سياسية مباشرة، تنطوي على استراتيجيا متكاملة الاهداف، تعمل على اجهاض نهضة شاملة جبارة لاحدى اهم طلائع ثورة العالم الثالث في هذا العصر يشكلها العرب وشعوب آسيا الاسلامية المرتبطة تاريخياً وعضوياً بخط التطور العربي وطروحاته النهضوية والتقدمية.
فالايديولوجيا الغيبية –اي المتجردة من كل القيم – تأتي حركة شرخ وتحريف معاكسة تماماً لحركة الانبعاث التاريخي للعرب والاسلام، بعيداً عن وحدة العرب وتكاملها مع بيئتها الاسلامية، تطرح المذهبية داخل العقيدة الواحدة وتستشار من خلفها العنصريات القومية والاقليميات الشعوبية.
وبديلاً عن توجه الانبعاث نحو المضمون الحضاري للتراث يوجه نحو الغيبيات والشعائريات والطقسيات واجواء النزاعات الفئوية. وبديلاً عن تأصيل العقلانية الحديثة وحشد طاقات التوعية والتنمية لردم ثغرات التخلف، يطرح التجهيل المدروس كمثل اعلى ضد العلم والعقلانية، ويسوق التخلف وكأنه اوج التحضر، والتصحر وكأنه ذروة التمدن.
ثم اذا ما وصلنا الى الساحة السياسية فان الايديولوجيا الغيبية  تجهض مختلف المضامين التحررية لشعارات النضال السياسي التاريخي والمشروع، فاذا بالحروب الاهلية والمذهبية والاقليمية تندلع ما بين المجتمعات العربية ذاتها والاسلامية ذاتها واشكال الارهاب المحلي والدولي تصبح هي البديل اليومي عن تقاليد الكفاح ضد الاستعمار والصهيونية واشكال التبعيات الاخرى، ومن اجل الوحدة العربية والتقدم الحضاري والعدالة الاجتماعية الواعية والتكامل العالمي بين نهضات العالم الثالث.
هكذا تطرح الايديولوجيات الغيبية ذاتها باعتبارها المعارض الرئيسي لكل بديهيات النهضة الثقافية والفكرية من داخل الاطار القومي والديني نفسه.
انها ولا شك اعلى مراحل الاستراتيجيا الاستعمارية المستهدفة اجهاض عوامل القوة والنهوض من تربتها، تحاربها بذات اسلحتها وتنقض على امكانياتها بذات عناوينها واسمائها. انها الاستراتيجيا الناجحة التي تجعل الهدف يدمر نفسه بنفسه، يصبح فيها الطرف المدافع هو الطرف العدو لذاته.
-4-
ان الحرب العقائدية التي تشن اليوم على العرب والاسلام، من داخل معاقلهم، من بعض مساجدهم ومدارسهم وجامعاتهم واحزابهم وتنظيماتهم المعسكرة المعلنة والخافية، الظاهرة والباطنة، انما تهدف الى احداث التغيير التحريفي الكبير في اسس الفكر والفهم والنظر والتعامل بحيث تتم اقالة العقل العربي من مهماته الدستورية واستقالة الانسان العربي من دوره في معركة العصر والحضارة، ومن ساحات الصراع الاساسية، ودفعه الى تبني الخرافة على انها الحقيقة، والجهل، على انه العلم المقدس واغراقه في معارك وهمية خارج الزمان والمكان مع اشباح لمشكلات متهرئة مما وراء الحياة والتاريخ.
هذه الحرب العقائدية المدروسة البرامج والمواد والمنظمة بوسائل بثها ونشرها وانتشارها تقف وراءها عقول وامكانيات ثقافية خطيرة تضع سيناريوهات الفعل والانفعال الجماهيري. تستثير مشاعر التدين والتقوى البريئة وتوجهها نحو غير موضوعاتها الاصلية. تعتمد عوامل الاستهواء الجماهيرية لنوع آخر من تاريخ الاسلام وفكره وحضارته. تنتزع اهتمام الناس من التركيز حول قضايا الصراع السياسي والاقتصادي والعسكري ذات الطابع المصيري، وتختلف عوضاً عنها معارك هامشية تفتعلها داخل الاسرة والبيئة والمجتمع والامة الواحدة.
الحقيقة، ان الحرب العقائدية مثلما تزيف التاريخ وتحرف وقائعه، كذلك تتوجه الى تجريد المجتمع من احساسه بموقعه الراهن من الحاضر السياسي والحضاري بالنسبة لذاته وللعالم من حوله. تفرض على الناس ان يتخاطبو فيما بينهم ويخاطبوا الشعوب الاخرى بلغة ومفاهيم وانظمة معرفية لا معادل ومقابل لها في معطيات الحاضر وظروفه المادية والمعنوية. لذلك، يمتنع على العالم من حولهم انه يدرك تطلعات ذلك المجتمع المصاب بفصام الشخصية القومية والحضارية بما له من حضور جسدي راهن في العصر وغياب لوعيه ورشده فيما وراء اساطير المذهبيات والشعائريات الطقسية.
مثلما تشتغل الحرب العقائدية على تثبيت الفصام في شخصية المجتمع بين حاضره وماضيه، كذلك، تجتهد في الفصل بين الدين والتدين، في جعل الثاني بديلاً عن الاول. وهو ذلك الفصل الذي يحقق في الآن ذاته الشرخ بين العقيدة والحضارة. فأن عزل الاسلام عن العروبة لا هدف له الا دفع العقيدة الى ابعد مسافة من التجريد والفراغ التاريخي الذي يتطلب املاءه بالشعائريات والمذهبيات والطقسيات.
ان سلخ الاسلام عن تاريخ الشعب الذي حمله، وعن الحضارة التي حققت مضامينه الثقافية والانسانية، يحوله الى مجرد ايديولوجيا سياسية ناقدة لمعاييرها الواقعية وتجربتها التاريخية وخصوصيتها الحضارية. ويقلبها الى مجرد ذرائع للتسلط السياسي والصراع الانفصالي الشعوبي بين الامم المشاركة في صنع التاريخ الاسلامي وما بين فئات الامة الواحدة الحاملة لدعوته وهويته الثقافية المتميزة.
ان تسييس الدين على الطريقة الشعوبية وطريقة بعض الفئات المتعصبة داخل المجتمعات العربية يحوله من عقيدة موحدة الى ايديولوجيات مفرقة، ومن هوية الى تاريخ انساني مجيد ومبدع الى حزبيات فئوية ومذهبية داخل المجتمع الواحد والى عنصريات وشعوبيات بين العرب والمسلمين. ان عملية التحريف القيصرية التي يخضع لها العقل العربي تريد تغيير هوية الامة ذاتها، تريد ان تخلع جسدها وترتدي اثوابها المتهرئة والمحنطة.
فاصحاب هذا السيناريو الدولي الرهيب يراهنون حقاً على تغيير الهوية العربية اساساً لكي يسهل بعد ذلك تغيير كل شيء من افكارها الى سلوكها الى ادوات دفاعها عن ذاتها، الى طرق تعاملها مع اعدائها التقليديين والمستحدثين. فالاسلام المسيس العنصري والمذهبي، يستخدم اليوم في افضع توجيه مضاد لعكس كل اهدافه التي عاش وترعرع تحت ظلالها، ذلك الاسلام الحضاري، العربي اللسان والخلق، الانساني التطلع والافق، الذي وحد ولم يفرق، الذي عدل ولم يستبد، الذي بنى حضارة فوق الصحراء ولم يدفن حضارة تحت الصحراء، الذي انطلق الى العالم ينشر العدل والاخوة الانسانية، ولم ينطلق لينشر الارهاب والخطف والغدر بالابرياء. فالامة التي تنكر شخصيتها، وتنكر لهويتها، يراد لها ان تخسر حرب الحروب كلها مقدماً، والعرب الذين يخوضون بعض رموز هذه الحروب، وينسون المعنى الحقيقي لحرب الهوية التاريخية، انما يساهمون من حيث لا يدرون في خسارة معركة المعارك الاصلية.
   فهل ثمة استراتيجيا حقيقية من اجل الدفاع الشامل، بل من اجل الامن العقائدي وحده؟
بالتأكيد، فان استراتيجية الدفاع الشامل والامن العقائدي، تتمثل في بعث المشروع الحضاري العربي.
[email protected]

أحدث المقالات