20 سبتمبر، 2024 2:52 م
Search
Close this search box.

عن الحقيقة والتأريخ

عن الحقيقة والتأريخ

خاص : بقلم – أحمد عبدالعليم :

(1)

يرى البعض أن إنكار “الحقيقة المطلقة” هو صنو “اللاأدرية” وهو الأمر الذي يعني إنكار العالم، والتشكيك في امكانية بناء (المعرفة) ظنًا منهم أن غياب مفهوم “الحقيقة المطلقة” من شأنه أن ينفي وجود (حقيقة) ومن ثم الوقوع في براثن التشكك، والإنزلاق إلى حالة من التخبط، ونكران الخبرة المتراكمة. وهو أمر يبدو مستغربًا على “خطاب” معرفي يتم طرحه في الوقت الذي تمكن فيه العلم من الوصول إلى (حقائق) هامة حول أمور كانت تبدو في الماضي القريب غامضة وملتبسة. وفي ظني أن مناط الوصول إلى حكم من هذا النوع يؤشر إلى نقص في الوعي، وربما قصور في الإدراك، ينبعان من نقصان في المعرفة بأسس العلم وأدوات المنهج العلمي، التي باتت مادة يتدارسها كل مبتديء.

والفارق الجلي بين المفهومين لا يدع مجالًا لإلتباس، حيث يعني مفهوم (الحقيقة المطلقة) في أبسط صوره نهاية التاريخ، والوصول إلى موقف معرفي لا يمكن أن تتغير عناصره، أو تتبدل معطياته، ومن ثم الإهتداء إلى اليقين الذي لا ينبغي على فرد انتقاده، أو الإتيان بمعرفة تخالفه، وأفضل ما يمكن تقديمه من جهد علمي في ظل هذا الخطاب هو عمليات الشرح والتوصيف لمتون الكتب التي تحويها، ولا يجوز بأي حال من الأحوال انتقادها أو التشكك في مكوناتها وعناصرها. بينما تتأسس المعارف العلمية التي تمتلك حزمة من (الحقائق) الثابتة والمؤكدة، سمة رئيسة مفادها (أن هذا ما توصلنا إليه وفقًا للمعلومات المتوفرة، وفي ضوء الأدوات والمنهج العلمي المتاح) ما يعني أننا إزاء دعوة مفتوحة للبحث والاستقصاء، والتأسيس لمزيد من الإبداع، وهو فارق جوهري يتخذ من “التطور” ركيزة أساسية تمكن البشر من إضافة مزيد من الخبرات، وابتكار رؤى ومعارف قادرة على تقديم بدائل إبداعية من شأنها تعظيم قدرة الإنسان ودعم تقدمه.

(2)

قام خلفاء الرسول الكريم (ص) عقب وفاته بتوثيق ما جاء أثناء البعثة المحمدية من (نصوص) حاكمة، بغرض حفظها، وهم أهل (الشفاهة)، إذ كان (الكاتب والمكتوب) أقل اعتبارًا في الثقافة العربية لفترة من الوقت، حتى بعد استتباب الأمر للإسلام والمسلمين، وكان أول ما وثقوا (كلام الله) وهو (القرآن الكريم) وهو عمل مضنِ استمر طويلًا حتى استقر فيما أطلق عليه تاريخيًا (قرآن عثمان).

وعلى نحو آخر سار متوازيًا مع هذا الجهد الذي لم يكن محل خلافات كبيرة، السعي إلى توثيق (الأقوال والأفعال النبوية) وقد اتخذ فيما بعد هذا الجهد مجالين للعمل كان أولهما توثيق أحاديث الرسول، وثانيهما كان توثيق (أفعال الرسول) وأطلق على الأول (الأحاديث النبوية) بينما أطلق على الثاني (السُنة النبوية). وفي بدء عمليات التوثيق هذه بذل الموثقون والمحققون جهدًا كبيرًا، ولا أبالغ إن قلت أن هذه العملية قد استندت إلى (رؤية تاريخية) تستند في صميم عملها على جهد (علمي) يمكن الاستناد عليه ومراجعته وخاصة في مراحله الأولى التي تميزت بالموضوعية والنزاهة والأمانة التي تصف العلماء والمحققين في التاريخ على نحو يجعلهم أهل ثقة.

إذ ارتبط بعملية (جمع وتوثيق الحديث والسُنة) مجالات علمية أخرى من أهمها ما يطلق عليه (علم جرح الرجال)، فعندما تباعدت الفترة الزمنية بين التوثيق والحدث أصبح من الضروري التحقق من (الحدث) والتحقق من مصدره، وهو الأمر الذي بذل فيه جهدًا مضنيًا في باديء الأمر، حتى أن “مالك ابن أنس” لم يجمع في كتابه الشهير (موطأ مالك) سوى ما يقارب ثمانمئة (حديث) الذي ارتأى أنهم محل ثقته، وكان مجال العمل هذا يرتبط أشد الارتباط بمصدر الحديث وراويه، حيث وضع المحققون الأوائل مجموعة من الاعتبارات والسمات التي ينبغي أن يتحلى بها (المصدر) من بينها أن يكون من أهل الثقة، وأن لا يعرف عنه الكذب لا في حياته الخاصة ولا في حياته العامة، وكذلك التعرف على تاريخه الشخصي وسيرته العامة، ومن ثم لا يؤخذ من مصدر غابت عنه هذه السمات وغيرها كالأمانة والصدق وشيوع اهتمامه وغيرها، حتى تدخلت السياسة في الدين وشاعت الفتن بين المسلمين وتنابذ الفرقاء، وأرادوا سندًا فأولوا (قرآنًا) وأقحموا أحاديثًا، وبات المسلمون بين (أهل سُنة) و(شيعة) وغيرها من الفرق حتى وصل المتنابذون إلى ثلاث وسبعون (فرقة) أو يزيد.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة