في مثل هذا الوقت من العام الماضي (فبراير 2019) كانت ثورة السودانيين قد بلغت حد اللاعودة، و اقتنعت حتي الدوائر السياسية المتصلبة، و النواة الأمنية الصلبة “الحاكمة فعلياً” بضرورة اجراء جراحة قاسية علي جسد النظام حتي يمكنه البقاء و الاستمرار بعد ان اثخنوا المتظاهرين بكل صنوف التنكيل و كانت ارادتهم بعد كل مرحلة تزداد صلابةً و قوة.
كان جهاز الامن هو رأس الرمح في ذلك العنف البربري، و علاوة علي ذلك كان هو الحاكم الحقيقي، لا حزب المؤتمر الوطني و لا اجهزة الدولة التنفيذية، كان كل شئ يتم بطلب جهاز الأمن ابتداءاً من السياسات الاقتصادية و انتهاءا بالسياسات الخارجية مروراً باعمال الامن الشرطية و الدفاع العسكرية!
حين اقتنع رجل جهاز الامن القوي الذي اعيد تواً الي الخدمة بعد ان سبق و أقصي و سجن، اقتنع بضرورة اجراء مراجعات مؤلمة، و بتر و استئصال اطراف من جسد النظام و زوائد في عقله و قلبه؛ لم يكن لدي دوائر حزب الحكومة (ليس الحزب الحاكم) و لا دوائر الحركة الاسلامية “التي للعجب همشت طيلة سنوات حكم الاسلامويين”؛ لم يكن لديها من خيار في يدها، و لا ورقة تلعبها، إلا اوراق الضغط الخارجي من قيادة التنظيم الدولي للاخوان و راعيته (دولة قطر)!
لا احد يعلم وصف الجراحة التي كان الأمن يريد اجراءها علي النظام و اقنع بها الرئيس (المعزول) البشير، فالتسريبات التي خرجت كانت شحيحة جداً كعادة تسريبات جهاز الأمن، كما لا احد يعرف ما ان كانت تلك الجراحة ستحدث اختراق و تهدئ الشارع الثائر؟!
المهم، برغم ذلك تدخل وفد وزاري قطري زار الخرطوم في تلك اللحظة الحرجة و اجتمع بالبشير، ما تسبب في تأخير (كلمته للأمة) كما ان ذلك الاجتماع تسبب ايضاً كما رشح في تغيير (خطة) العملية الجراحية، و بالتأكيد لا نعلم حدود ذلك التدخل و ابعاده، لكن بالتأكيد للقطريين اوراقهم التي ظنوا ان لعبها في هذا الوقت سيدعم حكم البشير و الاسلامويين، ربما كانت خطتهم تعتمد علي جراحة تجميلية بديلة اضافة لدعم مالي و أمني، لكن فات علي ظنهم ان البشير و نظامه كان قد سقط قبل خطابه حتي!
نظام الانقاذ وصل مرحلة كان من العسير ان يتم فيها فك الارتباط بين البشير و حزبه، أو بين “الأخوان العسكر” و “الأخوان المدنيين – الملكية”! فات زمن الجراحات العميقة التي تنقذ حياة النظام، كما فات زمن جراحات التجميل!
لقد وجد نظام البشير في ايامه الأخيرة دعماً من كل الفرقاء الاقليميين في المنطقة، من قطر و من مصر، و من تركيا و من الأمارات و السعودية، و من خارج المنطقة (روسيا). لكن كما يقول المثل الشعبي (المقتولة مابتسمع الصايحة) و يضرب لمن يزمع و يهم القيام بأمر لدرجة تصم آذانه عن نصح الناصح، لم يكن يجدي اي تدخل خارجي، و كانت النصيحة الذهبية التي يمكن أن تسدي القوي المتداخلة ان تمتنع عن محاولة تغيير مسار و مجريات الامور، لكنها و ان اسدي لها ذلك النصح فكانت تدخلاتها كلها ضربات قدر مسطر و مكتوب؛ ضربات غير موفقة لم يحلفها الحظ، لتقف شاهدة علي عداء انظمة الاقليم للتغيير و لإرادة الشعوب.