أذكر جيداً حين كنت في الصف الثالث المتوسط وفي بداية العام الدراسي كان أول الدروس في المطالعة والنصوص هو قصيدة الجواهري التي يقول في مطلعها :
سلام على مثقل بالحديد ويشمخ كالقائد الظافري !
قرأ مدرس المادة ثمانية ابيات من القصيدة وطلب منا نحن الطلاب أن نقرأها في الكتاب ومن ثم علينا حفظها الاسبوع القادم ! وقع اختيار المدرس عليّ بأن أبدأ بقراءة القصيدة داخل الكتاب !
قلت له أني أحفظها يا استاذ ! ادهشه ما قلته !
اوقفني امام زملائي وقرأت القصيدة كاملة ! كان البعثيون في مناهج الدراسة آنذاك كتبوا أهداء القصيدة الى مناضل بعثي ! لم يسموه !
سألني الاستاذ كيف حفظت القصيدة ، قلت له لدينا في البيت ديوان الجواهري واقرأ منه الكثير ، ثم أكملت حديثي بأن هذه القصيدة كان الجواهري قد كتبها بعد اعدام يوسف سلمان يوسف وهي مهداة له !
سألني المدرس ومن يكون يوسف سلمان يوسف ؟
قلت له أنه ( فهد ) مؤوسس الحزب الشيوعي العراقي !
اغلق فمي بيده اليمنى ! وقال سوف تحبسّنا !!
في السبعينات وأنا صغير السن كنت استمتع حين يقرأ الجواهري قصائده في المربد الشعري عندما كانت دوراته الاولى ذات طابع شعري ثقافي رائع كان العالم العربي برمته يترقب المربد ومتى سيكون انعقاده . فالجواهري ونزار قباني ودرويش وشعراء عمالقة آخرين يقرأون فيه !
العراقيون جميعاً أحبوا شعر الجواهري وأحبوا قبعته التي تميزه عن الجميع وكأنه يرتدي تاج الشعر العربي ! وظلت القبعة علامة فارقة بتاريخ الجواهري حتى وفاته ولم يخلعها !
قبل وصولنا الاردن كان الجواهري يقيم داخل دمشق بضيافة الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد ، وجاء من سوريا الى عمّان ليقرأ أمام الحسين ملك الاردن والملكة نور والحكومة ومجلس الاعيان والشعب وكل رجالات الدولة قصيدته وهو يمتدح الملك حسين ونسبه الذي يعود الى قريش وعائلة النبي محمد ( ص ) .
في السنة الاولى لوصولنا عمّان كان ثمة احتفالا تحضر له السلطات الاردنية بمناسبة ميلاد الملك الحسين ابن طلال ، فكانت اللافتات قد طرزت الاسيجية الحديدية للشوارع داخل الساحة الهاشمية والتي تعتبر وسط البلد أو سنتر المدينة ! اللافتات كلها عبارة عن قصيدة الجواهري التي قرأها بحضرة الملك ! وتم تلحينها وغنائها من قبل مطربين ومطربات عديدات !!
يقول مطلع القصيدة :
يا أيّـها المَلِـكُ الأَجَلُّ مكانـةً **** بين الملوكِ ، ويا أَعَزُّ قَبِيلا
يا ابنَ الهواشِمِ من قُرَيشٍ أَسْلَفُـوا **** جِيلاً بِمَدْرَجَةِ الفَخَارِ ، فَجِيلا
نَسَلُوكَ فَحْلاً عَنْ فُحُـولٍ قَدَّمـوا **** أَبَدَاً شَهِيدَ كَرَامَةٍ وقَتِيلا
وفي سفرات البياتي المكوكية من عمّان الى دمشق كان دائم الاطمئنان على الجواهري ، وفي آخر زيارة له كان الجواهري قد دخل المشفى لفترة ، زاره البياتي ومعه محمد مظلوم ، الجواهري قارب على المئة عام حتى سأل البياتي عن محمد متوقعا انه ابن البياتي !
وأثناء انعقاد مهرجان جرش في صيف عام 1997 نشرت الصحافة خبر رحيل الجواهري في دمشق ! كان الكثير من الشعراء العرب متواجدين داخل الفندق وأذكر جيد بدأ في يومها الشاعر والرسام هادي ياسين علي يدون بعض الكلمات بحق الجواهري ، كلمات من اغلب الشعراء العرب والعراقيين الذين يتواجدون داخل الفندق وكان الحديث يتركز على رحيل الجواهري ! كنت اجلس مع هادي ياسين وعباس بيضون وهو يتحدث عن الجواهري بطريقة جميلة ورائعة وكذلك الكثير من الشعراء حتى نشر هادي مادته في جريدة الدستور الاردني والتي اخذت صفحة كاملة تحت عنوان ( شاهد القرن ) !
نعم لقد شهد الجواهري القرن العشرين بأكمله وعاصر العثمانيون وتاسيس الدولة العراقية وجميع ملوك العراق وعبد الكريم قاسم وزمر البعث التي حكمت عبر انقلابات دموية راح ضحيتها المئات من الابرياء والشرفاء حتى وصول صدام حسين الى السلطة عام 1979 . ليغادر الجواهري العراق الى براغ التي عاش فيها سنوات طويلة ومن ثم يعود الى دمشق !
ولعل سر شعرائنا الكبار في الاقامة بدول لها حدود مع العراق مثل سوريا والاردن لم يكُ اعتباطا ! فالانسان أين ما يذهب وبخاصة الشاعر لابد له ان يكون قريبا من الوطن الأم ،
رحل الجواهري عن عالمنا بعد مسيرة حافلة وطويلة جدا في تاريخه الشعري الذي نافس كثيراً ابو الطيب المتنبي ! بعض النقاد توصلوا من خلال دراساتهم في شعر المتنبي والجواهري الى نتائج ترجح كفة الجواهري في بعض الاحيان عن المتنبي ! والاثنان من بلدة واحدة ( الكوفة ) !
البياتي بعد أن سمع برحيل الجواهري كتب مرثيته بقصيدة عمودية يقول مطلعا :
في سنوات الضوء والبؤسِ *** وجدتُ في مرآته نفسيِ
خرجتُ من معطفه يافعاً *** لأحمل الشمسَ إلى الشمسِ
وأنا أقرأ بقصيدة البياتي بعد أن نشرت في الصحافة حتى سألته في واحدة من الجلسات عن القصيدة ولماذا كتبها عمودية ؟
قال البياتي أنه الجواهري عمود الشعر العربي ولابد أن نرثيه بقصيدة عمودية هرمية البناء توازي هرمه الشعري الكبير ومكانته العالية !!