23 نوفمبر، 2024 6:14 ص
Search
Close this search box.

الديّة الحكومية تقوض العدالة في العراق

الديّة الحكومية تقوض العدالة في العراق

تعاقب ولاية تكساس في الولايات المتحدة الامريكية على القتل الخطأ او غير المتعمد أو ما يطلق عليه قانونيا باللغة الانكليزية ( manslaughter and second degree murder) بين سنتين و عشرين سنة سجن وغرامة لاتزيد عن 10 آلاف دولار. ويسمح القانون الفرنسي للمحاكم باختيار أية مدة السجن، باستثناء السجن المؤبد، تراها مناسبة لمرتكبي القتل الخطأ. والعقوبة القصوع في كندا لنفس الجرم تصل الى السجن المؤبد والدنيا من 4 الى 7 سنوات.
وحسب قانون العقوبات العراقي 111 لسنة 1969، تكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن ثلثمائة دينار ولا تزيد على خمسمائة او باحدى هاتين العقوبتين، لمن قتل شخصا خطأ او تسبب في قتله من غير عمد كأن يكون ذلك ناشئا عن اهمال او رعونة او عدم انتباه او عدم احتياط او عدم مراعاة القوانين والانظمة والاوامر. وحول القتل العمد في القانون العراقي، تنص المادة 415 من القانون المذكور آنفاً على ان يعاقب قاتل النفس عن عمد بالسجن المؤبد او المؤقت، وفي حالات خاصة يعاقب بالاعدام وهذا يتفق تماما مع اغلب قوانين دول العالم.
نستخلص مما سبق أعلاه تطابق قوانين كل هذه الدول في عدم اعترافها او تبنيها مفهوم التعويض او مايصطلح عليه اسلاميا “الديّة” كعقوبة أو جزء من عقوبة جزائية رادعة لجرائم القتل. والديّة، حسب الشريعة الاسلامية، واجبةً في قتل الخطأ وشبه العمد إلّا إذا عفا فيها أولياء المقتول. قد تكون الديّة قانون جزائي رادع يناسب مجتمعات قبلية بدائية سبقت ظهور الدولة المدنية الحديثة لكن عقوبات القتل غُلِّظَت مع تطور وتمدن المجتمعات.
الملاحظ ان القوانين الجزائية الوضعية المعاصرة لاتخول العائلة او ذوي المقتول عمدا او خطأ إعفاء القاتل أو تخفيف العقوبة أو الاكتفاء بقبول الدية لان هكذا تشريعات لاتنصف الضحية وتتعارض من مبادئ حقوق الانسان وتخل بالعدالة وتشجع الجريمة. لكن لازالت القوانين الدينية والعشائرية في الشرق الاوسط وفي العراق خاصة تمارس هذا النوع من العدالة. وحول حكم القتل العمد في الشريعة الاسلامية، تقول الآية الكريمة (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) ولان التشريع الاسلامي سبق ظهور الدولة المدنية وكون تركيبة المجتمعات الاسلامية الاولى إعتمدت على العائلة وثم القبيلة، توقف القصاص في الشريعة الاسلامية على أهل القتيل إذ خيروا بين ان يقبلوا الديّة أو ان يصروا على القصاص وهو العقوبة بالمثل، أي القتل.
لايجب أن يسمح القانون الجزائي لاي دولة تحترم شعبها للعوائل الفقيرة أن تخفف العقوبة على قاتل احد افرادها طمعا في ماله أوأملا بالخلاص من الفاقة. المجتمعات العشائرية الفقيرة في العراق أساءت مفهوم الدية واستغله الاغنياء والاقوياء فارخوا العنان لغرائز الشر وامعنوا بقتل المستضعفين طالما لاتتجاوز العقوبة مبلغا من المال يرمونه بوجه عائلة الضحية وينتهي الأمر. وتفاخر الاغنياء والميسورون المستهترين بارتكاب جرائم القتل والافلات من العقوبة، وصار شائعا أن تسمع الغني يصرخ مهددا ( أكتلك وافصلك – وتعني أقتلك وادفع ديتك) حينما ينشب عراك بين غني وفقير أو بين قوي وضعيف. وهو تأكيد لانعدام العدالة وغياب دور الحكومة في فرض القوانين الجزائية المدنية العادلة.
كانت الحكومات العراقية قبل عام 2003 بما فيها حكومة حزب البعث شديدة وحدية في تطبيق القوانين الجزائية الخاصة بجرائم القتل، وحدت بشكل كبير من سلطة العشيرة وسيادة سوانيها. إستمر الأمر كذلك حتى بداية الحرب العراقية الايرانية. لان الخدمة العسكرية كانت اجبارية وغالبية أفراد الجيش العراقي كانت رافضة للحرب إما بسبب عدم قناعتها بعدالتها وإما كرها بنظام البعث الاستبدادي، مما دفع القيادة العامة للقوات المسلحة في حينها الى نشر خط ثالث مكون من نخبة من الحرس الجمهوري خلف الخطين المتقدمين واجبه اعدام المتراجعين. في كل هجوم ايراني أو هجوم عراقي معاكس، يعدم الخط الثالث آلاف الجنود المتراجعين من الخطوط الامامية.حرمت عوائل المعدومين في الجبهات من اية رواتب تقاعدية أو فوائد أخرى لاعتبار أبنائهم “جبناء.”
مع استمرار الحرب تزايدت اعداء المعدومين “الجبناء” وتزايدت العوائل المتضررة من جراء هذا التصنيف. وخوفا من ان يدفع حرمان عوائل المعدومين من رواتبهم التقاعدية وتحميلهم عار أبنائهم “الجبناء” خوفا من أن يدفعهم الى خانة الشريحة المعادية للنظام، قررت الحكومة اعتبار المعدومين “شهداء” يتمتع ذويهم بنفس حقوق ذوي ” الشهداء” الحقيقيين او اولئلك الذي قتلوا دفاعا عن الوطن أو النظام. في تلك الايام، راجت مفردة “الشهيد” وتنازع احتكارها النظامان المتحاربان: نظام البعث الاوتوقراطي ونظام الملالي الثيوقراطي فكلاهما اعتبر قتلاه “شهداء عند ربهم يرزقون” وقتلى عدوه معتدين في جهنم يرزحون. في العراق، فقدت كلمة “شهيد” مغزاها الديني واقترن معناها أكثر بتعويضات سخية لذوي الشهداء. واضافة الى مايحصلن عليه من تعويضات مجزية بعد موتهم، وهبت الحكومة من يتقدمون لزواج أرامل الشهداء، وهبتهم تسهيلات ومنحا مالية سخية.
فرح اغلب ذوي القتلى في تلك الحرب بالتعويضات المجزية، وتمنى بعض الآباء لو مات ابنائهم طمعا فيما سيحصلون عليه بعد مقتلهم. فكان أغلب الآباء يدفعون أولادهم دفعا الى الموت ولايدعونهن يغيبون او يهربون من الخدمة بحجة الوطنية والدفاع عن الوطن، حتى لقد بلّغ بعضهم أفراد الأمن او الفرق الحزبية عن أولادهم المتخلفين أو الهاربين من الخدمة العسكرية، العديد اعدم بعد ان القي عليه القبض بناءً على بلاغ من ذويه – هناك أمثلة كثيرة لسنا بصدد ذكرها.
وفي تسعينيات القرن المنصرم تدهور الوضع الامني في العراق لانحسار الموارد كنتيجة للحصار الدولي المفروض على نظام صدام حسين، حينها ركز النظام على ضبط الامن في المدن الرئيسة وترك النواحي والقرى والارياف، فغابت العدالة المدنية ولجأت الناس الى نظام “العدالة” العشائري. ترك النظام ابناء العشائر يقتل بعضهم البعض لاتفه الاسباب ولعله شجع انشغالهم ببعضهم كي لايتوحدوا في عدائهم للحكومة. ساعد غياب الردع الحكومي وزيادة الفقر الى انتعاش ثقافة ” الفصل” او الدية واضطرت كثير من العائلات قبول الفصل تعويضا لقتل احد افرادها وكأنها ارتضت التضحية باحد ابنائها من أجل ان يحيا باقي أفراد العائلة.
لازالت التعويضات والفوائد المقترنة بكلمة “شهيد” قادرة على تسييل لعاب كثير من الآباء الذين عاصروا أو شاركوا في تلك الحرب اللعينة واللذين يقتل ابناؤهم هذه الأيام برصاص قوات الامن الحكومية والميليشيات المتحالفة معها. يقشعر بدني حينما اسمع بمطالبات اعتبار قتلى انتفاضة تشرين شهداء والمقصود طبعا تعويض ذويهم كي يرضوا ويتوقفوا عن المطالبة بمحاكمة القتله وتطوى صفحة الاحداث وتسجل جرائم إغتيال هادي المهدي وسعاد العلي وصفاء السراي وسارة طالب وحسين عادل وأحمد عبد الصمد وصفاء غالي وقائمة طويلة من خيرة شباب العراق، تسجل ضد مجهول.
لمناغاة مشاعر الفقراء من ذوي المغدورين، بدأت بعض الاصوات النشاز من قادة الميليشيات والمسؤولين الحكوميين تتحدث عن مكرمة اعتبار قتلى تظاهرات الاول من تشرين 2019 شهداء وتعويض ذويهم وكأنهم يعيدون مقولة الغني ( أكتلك وافصلك) لكن الفرق هنا هو أن الحكومة “تفصلنا” من مالنا تجسيدا للمثل العراقي القائل ” من لحم ثورك أطعمك” على أمل أن تفلت هي وميليشياتها من العقوبة.
اريد ان أبشر القتلة أننا لن نقبل باقل من محاكمة وقصاص عادل والتعويض ليس مكرمة تتبرمك علينا بها ميليشيات قاسم سليماني بل هو حقنا وواجب الحكومة، وللقتلة اقول ” والله مانجونا إن نجوتم” وسوف لن تسقط جريمة سفك دم ثائر بتقادم الزمن ولكم فيما آل اليه القتلة البعثيون من مآل ولو بعد حين، وسوف لن ينفعكم ندم حينها ولادية ولاتقبل لكم توبة.
#نريد_وطن #نازل_اخذ_حقي #ساحة_الحبوبي #ساحة_التحرير #انتفاضة_تشرين #انتفاضة_الناصرية #كلنا_العراق #عاش_العراق

أحدث المقالات

أحدث المقالات