حتى وإن كان المخرج الأميركي ذو الاسم الإيطالي الفخم، فنشنتي مينيللي، قال مرة أنه يعتبر شخصية إيمّا بوفاري في مقدمة الشخصيات النسائية الروائية المحبّبة الى قلبه، فإنه لم يكن ليخطر في باله يوماً، حين بدأ مساره السينمائي منكبّاً على تصوير بعض أجمل أفلام الكوميديا الموسيقية في السينما الهوليوودية، أنه سوف يقف يوماً وراء الكاميرا لتحقيق فيلم مقتبس عن رواية الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير الشهيرة «مدام بوفاري»، وأن ذلك الفيلم سوف يكون واحداً من أجمل أفلامه، وحتى اليوم، واحداً من أجمل الاقتباسات التي حققت عن تلك الرواية التي لطالما شغلت الحياة الثقافية الفرنسية والعالمية، هي التي شغلت الحياة القضائية في فرنسا نفسها قبل ذلك بقرن من الزمن، أي في أواسط القرن التاسع عشر. ولنضف الى هذا في السياق نفسه، أن فنشنتي لم يكن ليخطر في باله أيضاً، قبل سنوات قليلة من تحقيقه هذا الفيلم، أن يحققه، لو فعل، من دون أن يسند بطولته الى تلك المرأة- الممثلة- المغنية المبدعة، جودي غارلند، إمرأته وأم ابنته لايزا التي بعدما كانت رافقته في حياته وفي بطولة عدد من أفلامه الرئيسية الموسيقية الراقصة، ها هي في ذلك الحين تعلن انها لم تعد قادرة على العمل معه، ما اضطرّه للاستعانة بفاتنة أخرى من كبيرات هوليوود في ذلك الزمن، جنيفر جونز، لأداء الدور… وحسناً فعل رغم الاكتئاب الذي أصابه نتيجة ذلك.
> حقق فنشنتي «مدام بوفاري» في العام 1949 لحساب شركة مترو عند نهاية عقد شهد تحقيقه عدداً كبيراً من أعماله الناجحة التي مهدت لانتصاراته الكبرى في العقد الخمسيني. ومن هنا أتى هذا الفيلم عند نقطة مفصلية من مساره المهني. ومن هنا كان حرصه على أن يقدم في ذلك النوع السينمائي الجديد عليه، بعيداً من صخب الموسيقى وروعة الرقص والحكايات المرحة ذات النهايات المغرقة في سعادتها، عملاً يكون أميناً الى حدّ كبير لـ «واقعية» فلوبير، كاتبه الفرنسي المفضل، – حتى وإن كان النقاد سوف يأخذون عليه بالنسبة الى طريقة تعامله مع الرواية، كونه أبدل واقعية فلوبير الاجتماعية، برومانسية ميلودرامية على النمط الهوليوودي السائد! المهم أن مينيللي وكاتب السيناريو روبرت آلدري، وللوصول الى أكبر قدر من الأمانة مع حكاية الرواية وكاتب الرواية، لم يرويا حوادث القصة بشكل مباشر، بل مواربة بحيث إن الفيلم يبدأ مع الكاتب نفسه، غوستاف فلوبير (جيمس مايسون) وهو أمام القضاء في العام 1857 يحاكَم بتهمة كتابته رواية «غير أخلاقية» ابتدعتها «مخيّلته غير السويّة» وفق تعبير واحد من نقاده… وهكذا إذ يستدعى الكاتب أول الفيلم من جانب القاضي كي يدلي بإفادته ودفاعه، يروح راوياً حكاية إيمّا بوفاري «الحقيقية»، على طريقته التي يشرح فيها كل ما جاء في الرواية مبرراً ومفنداً كل ما رآه النقاد – والمجتمع المحافظ من خلفهم، من «خروج عن الأخلاق العامة». وما متن الفيلم بالتالي سوى حكاية إيمّا كما تحكيها الرواية التي نعرفها، وحكاية زوجها وحبيبها ونهايتهم المستمدة، كما يخبرنا الكاتب، من الواقع نفسه. وفي النهاية بعد أن تنتحر إيمّا بتناول السم بين ذراعي زوجها، يعود بنا الفيلم الى فلوبير وهو يتابع الدفاع عن روايته، مؤكداً أمام القضاة الموقرين أنه في الحقيقة لم يخترع شيئاً من عنده وأن ما وصفه في نصّه الأدبي إنما حدث حقاً في الحياة. فلا يكون أمام المحكمة إلا أن تحكم ببراءته كما ببراءة روايته من أي افتعال لاأخلاقيّ.
> والحقيقة أن فنشنتي بقي طوال حياته، عند الحديث عن هذا الفيلم، يعلن افتخاره بهذا المَخْرَج الذي قام على تقديم الفيلم كحكاية عن فلوبير (الذي دائماً ما قال أنه هو إيمّا بوفاري) كما كحكاية عن واقعة غرام. وهو أعلن قبل الشروع في تحقيق الفيلم أنه أنفق شهوراً طويلة يقرأ كل ما كتب عن هذا العمل وبطلته ولا سيما بأقلام فرويد وهنري جيمس وسامرست موم، فاكتشف أن لكل منهم «إيمّا»ه الخاصة به. وبالتالي آثر في فيلمه أن تكون له إيمّا مشتركة مع فلوبير… مبدعها الأساسي.
> لو ذكر اسم «مينيللي» في أيامنا هذه، من المؤكد أن اهتمام السامعين سوف ينصرف الى الفنانة لايزا مينيللي، الممثلة والمغنية التي تألقت في سنوات السبعين والثمانين عبر أفلام مثل «كاباريه» و «نيويورك، نيويورك»، ولكن بالنسبة الى الجيل الأسبق، من محبي السينما ومتابعيها بشغف، من الواضح ان اسم مينيللي يرتبط بالمخرج السينمائي فينشينتي، والد لايزا، الذي كان واحداً من كبار مخرجي العصر الذهبي الهوليوودي طوال سنوات الأربعين والخمسين، كما أن سنوات الستين لم تخل من أفلام كبيرة حملت توقيعه.
> صحيح ان اسم فينشينتي مينيللي ارتبط أساساً بفن الكوميديا الموسيقية على الطريقة الهوليوودية، حيث اشتهرت له أفلام مثل «جيجي» و «أميركي في باريس» و «باندواغن» و«بريغادون»، غير أن الأبرز بين أفلامه يظل تلك الميلودرامية الكبرى الأقل عدداً في لائحة أفلامه، والتي حلل فيها العواطف الإنسانية، وفي مقدمتها «إيمّا بوفاري» الذي نتحدث عنه هنا. كما ان فيلمه «ظمأ الى الحياة» المتحدث عن حياة الفنان فان غوغ، ومن تمثيل كيرك دوغلاس وانطوني كوين، يظل واحداً من أجمل الأفلام البيوغرافية التي حققت في هوليوود تلك الأزمان. ومن هنا ما يراه العديد من النقاد من أن فن مينيللي يجب أن يعتبر على الدوام دخيلاً على السينما الهوليوودية رغم انتمائه الشكلي اليها، ورغم استفادته القصوى من الإمكانات التي أتاحتها له. فبالنسبة الى سينما مينيللي كان التركيز الأساسي على الإنسان ومشاعره، سواء كان الفيلم هزلياً أو موسيقياً أو ميلودرامياً، أو ذا طابع أكثر خطورة وجدية، كما هي حال فيلمه الكبير «فرسان الرؤيا الأربعة» الذي اقتبسه عن رواية شهيرة واستثنائية للإسباني بلاسكو ايبانييز، ويعتبر حتى اليوم من الملاحم الكبرى في السينما الهوليوودية.
> فينشينتي مينيللي الذي ينتمي الى أصول ايطالية، ولد في شيكاغو في 1910 ابناً لأسرة تتألف من مهرجين وفنانين دوارين ولاعبي سيرك وموسيقيين محترفين. ومن هنا لم يكن من الغريب أن يتجه صوب الفن منذ صباه الباكر، ويمثل على خشبة المسرح وهو، بعد، طفل. بعد ذلك اهتم بالرسم وعمل في المسرح متدرجاً من مصور فوتوغرافي الى مهندس ديكور، فمخرج. اما اهتمامه العملي بالسينما فبدأ في العام 1940. وهو منذ بداياته السينمائية المتواضعة، كمشارك في أفلام لغيره، بدأ يلفت الأنظار بالطابع الإنساني لمساهماته. أما زواجه من الفنانة جودي غارلند، التي تولت البطولة في أربعة من أفلامه الرئيسية، فكان فاتحة خير عليه. لكن بدايته الحقيقية، كمخرج مرموق، كانت في 1944 حين عرض فيلمه «لاقني في سانت لويس» ثم أتبعه بـ «الساعة» و «يولاندا والحرامي»، وهذه الأفلام الثلاثة حددت منذ البداية اتجاهه وتنوع أساليبه، من الاستعراض الموسيقي وصولاً الى الميلودراما.
> والحال أن مينيللي لم يخرج في جميع أعماله التي حققها طوال الأربعين عاماً التالية، وحتى رحيله يعام 1986، عن تلك الأساليب في أفلام تميزت – على تنوعها الشكلي – بثبات مواضيعها، لا سيما موضوع علاقة الإنسان بأحلامه. فالواقع ان هذا المخرج المتحدر من أصول لاتينية كان يعرف أن فن السينما هو أقدر الفنون على تحقيق الأبعاد الحلمية على الشاشة، ومن هنا اهتم دائماً بتصوير الإنسان وهو يطارد أحلامه، حيث تميزت شخصياته بكونها تهتم بالمثل الأعلى وبالحلم أكثر من اهتمامها بمجريات الحياة اليومية. ينطبق هذا الكلام على شخصيات أفلامه الميلودرامية (مثل «شاي وحنان» و «البعض أتى راكضاً») كما على شخصيات كوميدياته («والد العروس» و «تمشيطة والد أيدي») دون أن ننسى «لمن تقرع الأجراس؟» المأخوذ عن رواية همنغواي المعروفة، بخاصة «أسبوعان في مدينة أخرى» وهما فيلمان اختلطت فيهما الميلودراما بالدراما وعمق التفكير في أزمة الفرد ازاء المجتمع، بعبثية البحث عن نهايات سعيدة.
> لقد كان مينيللي واحداً من الكبار الذين عرفتـــهم هوليوود، غير أن هذا لم يمنعه من أن يكون أوروبياً على الدوام، ولم يكن من قبيل الصدفة هنا أن يكون في عصره الذهبي واحداً من أكثر المخرجين الأمــيركيين رغبــة في تحـــقيق أفلام تدور حوادثها في أوروبا (من «أميركي في باريس» و «جيجي» في العاصمة الفرنسية، الى «أسبوعان في مدينة أخرى»… وغيرها).
نقلا عن الحياة