تكاد مشكلة سوء استخدام السلطة وأثرها السلبي في تحديد اطر الحياة القانونية للمجتمع العراقي تكون كبرى المشكلات التي يواجهها العراق، دولة ومجتمع. فعلى الرغم من وجود مئات التشريعات التي تبعث الامل في بناء دولة العدالة والمساوات في ظل سيادة القانون، الا انها تبقى مجردة من اي فعل اصيل يحمي مفهوم الدولة الحديثة من التآكل والانهيار تحت وطئة الفساد وسلطة المفسدين. كما ان معظم هذه التشريعات رغم اهميتها، تحولت بعامل المقاصد الثقافية والاهداف السياسية الى اجراءات مزدوجة متناقضة في الخطاب والاداء، اذ تأتي تارة على شكل اجراءات عقابية تستهدف افراد او جماعات او منظمات وحتى مؤسسات الدولة ذاتها, وتارة تأتي على شكل عطاءات مجزية باستثناءات لا تلبي الا رغبات البعض على حساب المصلحة العامة تحت تأثير المحاباة الحزبية او القبلية او القومية او نسيج المصالح الفئوية المتداخلة فيما بينها.
ومما لا شك فيه، أدّت جميع هذه التشريعات المتناقضة من حيث المضمون والمتناغمة مع رغبات ذوي القرار الى استنزاف فكرة القانون قبل كل شئ ، وافقار المقومات الاساسية لمؤسسات الدولة. كما انها عرضت افراد او جماعات او مؤسسات بسبب هذا التناقض الى التهلكة والمآسي كما انها خلفت وراءها آلاف الضحايا والبقية المتبقية طرائد في لائحة مؤجلة يتسائلون في حيرة عن معنى العدالة ومغزى القانون؛ دولة فساد ام دولة قانون او هو مجرد سوء فهم!
وفيما يبدو، ان هناك سوء فهم تسبب بوجود ارباك شديد بين رغبة الساسة في صياغة تعريف لا يجافي ورغباتهم لمفهوم الدولة القائمة على اسس الإنحرافات الإدارية و الوظيفية أو التنظيمية الحاضنة للفساد وبين اطياف المجتمع التي تبحث عن مقومات العدالة في ظل دولة المؤسسات التي توأطر حياتهم القانونية. والاثنان يبحثان عن مقومات البقاء، فكما تشكل السلطة مكسبا صريحا كاستحقاق لدى السياسي ، تشكل العدالة مكسبا حقيقيا كاستحقاق لدى المجتمع. كما ان الإيمان بضرورة وجود القانون و حتمية الامتثال لقواعده ليس فقط دليل ثابت على رقي فكر المجتمع، بل انه كفيل على بقاء ديمومة هذه الاستحقاقات.
وفي اطار سوء الفهم المستمر، لا يبتعد سياق حديثنا عن قرار في منتهى الغرابة صادر عن احدى دوائر وزارة الخارجية قبل شهر ضد مواطن عراقي عمل كمستخدم محلي في احدى بعثاتها الدبلوماسية المعتمدة لدى احدى الدول الاسكندنافية، حيث يتضمن هذا القرار بعدم التعامل معه بأي شكل من الاشكال ولاي سبب كان، كونه كشف لمسؤولي الوزارة عن الخروقات القانونية التي مارسها سفيرها بالتواطئ مع محاسبه ومدير إدارته في البعثة المدعو هيثم فرحان فرمان الذي يعد المهندس الاساسي لجميع هذه الخروقات، اذ كشف المستخدم المحلي لوكيل الوزارة وللمفتش العام بالادلة الجنائية عن ممارسات التي تمس نزاهة الوظيفة الحكومية، مثل الرشوة والاختلاس والتزوير والاعتداء على المال العام والتحايل على الأنظمة والقوانين، وإساءة المعاملة بالتعذيب النفسي للعراقيين العاملين في بعثتها الدبلوماسية ولعمليات الإكراه بأسوء انواعها وجميع هذه الجرائم تدخل ضمن إطار ما يسمى بإساءة استعمال السلطة، بالاضافة الى فقدان العراق فرصة استعادة تسعة عشر قطعة آثارية تعود لحقب تاريخية مختلف لحضارات العراق بسبب قرارات السفير التي تفتقر للكفاءة والخبرة في إدارة ملف في منتهى الحساسية. علماً ان المستخدم المحلي استطاع وبنجاح استعادة خمس قطع آثارية تعود الى الحقبة السومرية وموقع اور بالتحديد، فيما يعود القسم الاخر منها الى مدينة الحضر.
ففي الوقت الذي يقيم عشرات المجرمين من العراقيين في البلد المعتمد ذاته تم الحكم على البعض منهم بالسجن بجريمة الاعتداء الجنسي على الاطفال ومنهم بجريمة سرقة المال العام والتهرب من الضرائب ومنهم بجريمة القتل، ومنهم مدون في لائحة الارهاب الدولي والجريمة المنظمة، لم تصدر وزارة الخارجية العراقية ضدهم اي قرار بعدم التعامل معهم على اثر جرائهم بل استهدفت مواطن عراقي جريمته الوحيدة هي كشف فساد السفير والخروقات القانونية في البعثة الدبلوماسية. اذ عدت الوزارة في قرارها موقف المستخدم المحلي تشهيراً بسمعة البلد يستحق عناء محرابته بشتى الطرق، منها الاساءة له ولعائلته وحرمانه من حقوقه المالية المترتبة بذمة السفارة كما يمنع منعا باتا من اعادته الى العمل واعتباره عدوا للعراق والدول المجاورة له وتحدي حقيقي للعملية الديمقراطية التي يشهدها البلد. جميع هذه التهم الموجهة ضد المستخدم المحلي تم اعدادها ومحاكمته عليها من دون ان يتم فتح مجلس تحقيقي واحد يهدف الى تقصي الحقيقة واكتساب قرار الوزارة شرعية في اتخاذه وتنفيذه. المهم هو اشباع رغبة السفير بالانتقام ومحاربة كل من يعمل على كشف الفساد من خلال استخدام السلطة التي اصبحت بدورها مصدراً مربكاً للجميع! الامر المحير فعلا هو عدم وجود معايير واضحة تحقق مبدأ العدالة وتعزز فكرة القانون بعيداً عن مساس المحاباة الحزبية او القبلية او القومية او تأثيرات نسيج المصالح الفئوية المتداخلة فيما بينها!
ان سوء الفهم هذا سيبقى شاخصاً ومصدراً اساسياً للارباك امام جرائم تمارس بحق العراقيين في الداخل والمهجر تحت ذرائع كثيرة من قبل متنفذين في الدولة جل اهتمامهم هو المزج المقصود بين وجودهم واداءهم المشين وقدسية مفهوم الدولة الصالحة، التي تذبح امام الجميع تحت شعارات خالية المضمون، بل ولم تنصف ضحاياها رغم ان معظمهم يعدون شريانها الابهر. وبالتأكيد يبقى التساؤل مفتوح امام انظار الجميع، اما آن الاوان ان يفتح مجلس تحقيقي عادل يهدف الى تقصي الحقائق حول الادعاءات المفبركة ضد مواطن عراقي بدوافع كيدية منظمة تتعارض مع جميع القيم والضوابط القانونية ؟
ان الدعوة الى اعادة النظر في قرار وزارة الخارجية اصبح ضرورة الان والذي يعد في منتهى الغرابة وفريدا من نوعه كونه يعد خرقا لبنود القانون العراقي وايضا خطوة تستحق العناء لحسم سوء الفهم المستمر ما بين افتراض وجود دولة فساد وحاضناتها واستمرار مقوماتها وبين حقيقة وجود دولة مؤسسات هشة وسلطة قانون غير قادرة على حماية الجميع من قرارات تلبي رغبات شخصية لبعض المتنفذين في الدولة ضد المصلحة العامة كما هو في قرار وزارة الخارجية الذي يعتمد في مضامينه على الاكراه والتهديد ضد مواطن عراقي كشف الفساد!