لسنا اول بلد يمر بما نمر به الان فقد مر غيرنا بأكثر مما يحصل الان او قد حصل لنا ولنا في بقية الدول اسوة حسنة فالعاقل هو من يستفيد من تجارب الاخرين فقد مرت بعض الدول بمأسي ونكبات وتدهور امني وسياسي وشعبي ومجتمعي واخلاقي اكثر بكثير مما نمر به الان بعد الحرب العالمية الثانية ولكنها سرعان ما استعادت دورها الامم العالمي وتطورها العلمي والعملي والحضاري وبوقت قصير نسبياً مقارنة بمعدل الحركة لدينا الان ولكن كيف نهضت؟ والى ماذا استندت؟ وما معايير تفوقها وقوتها؟ هذا ما سنحاول الاجابة عنه هنا:
الوطن قيمة عليا
ان اول مبدأ استندت له كل الدول التي شهدت نكبات في تاريخها وحاولت النهوض مجدداً واستعادة موضعها في ركب الحضارة واجهت عدة جدليات فكرية وايديولوجية تنشا وسط البيئة الخصبة من غياب القانون والبوصلة الموحدة لتوجيه الوطن والمواطنين وقد اثبت التاريخ ان كل امة بقية تتصارع فكرياً حول من يجب ان يحكم وكيف يحكم فأنها تأخرت قروناً عن نظيراتها من بقية الدول التي اتجهت الى الوطن والمواطن بدل الاهتمام ومناقشة من يحكم وكيف يحكم وهنا اقصد ان الدول التي تطورت انما تطورت حين اخذ كل شخص يحس بالمسؤولية عن الوطن ككل وليس عن نفسه فقط وحين احس الشعب ككل انه في سفينة مع كل المواطنين البقية وان أي شخص يخرق حصته من السفينة سيؤدي الى غرق السفينة ككل وحين اخذ كل مواطن مهما كان عمره وعلمه ومنزلته يراقب ويحاسب ويقترح ويطمح للأفضل ويميز الصح من الخطأ والصالح من الطالح وحين احس الجميع ان البلد بلدهم بلا تمييز على اساس عرق او دين او لغة او لون او أي فارق اخر بين بني ادم وهكذا تطوروا.
البوصلة الموحدة
حين يسير كل شخص في الوطن على هواه او على هوى فئة معينة وتتعدد الفئات والتوجهات فأن احتمالية تناقض وتضارب هذه التوجهات كبيرة مما يجعل احتمال الفشل والاضطراب والنزاع قائماً دائماً ولا ينتهي حتى تفوز اطروحة على حساب الاطاريح الاخرى وهنا من الضروري التأكيد على ان اطروحة الاغلبية من الشعب هي التي تفوز دائماً في النهاية مهما تعددت التوجهات السياسية والفكرية التي تطرح هنا او هناك وهنا لدينا خبرة مقدارها عشر سنوات منذ السقوط ولحد الان اثبت الشعب فيها هويته الاسلامية الدينية التي تهفو وتتطلع الى حكم يرضي الله ويحقق العدالة والمساواة بين ابناء الشعب الواحد الامر الذي لا زالت طبقات كبيرة من الشعب تأمل ان يسير عليه السياسيون لتحقيق الغاية من الوجود وبناء جنة الدنيا قبل جنة الاخرة بالعدل والاحسان والتكافل الاجتماعي وتطبيق مثل ومباديء السماء. قد يقول القائل ان الشعب متغير التوجه كل حقبة زمنية وهنا يأتي دور الديمقراطية التي تحرص على ايصال من يمثل تطلعات الشعب ومهما تغيرت تطلعات الشعب فأن السياسيين والاحزاب السياسية يجب دائماً ان تراقب عن كثب المتغيرات الاجتماعية والفكرية في كل طبقة من طبقات المجتمع.
كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
في كل دولة من دول العالم المتطور نرى اهتماماً كبيراً بطبقة العلماء والادباء والمثقفين والكتاب والمحللين والمبدعين في كل التخصصات حيث تعقد لهم الندوات والمؤتمرات والتكريم والتعظيم والتشريف واشاعة ما ينتجون في المجتمعات كمفخرة خاصة للبلد ومبدعيه وهنا لا ننكر الدور الكبير لعلماء الدين في تغطية مساحة واسعة من التخصصات التي تحكم وتنظم مسيرة المجتمع من دين واخلاق وعلم اجتماع وتاريخ وثقافة اسلامية وغيرها من الامور التي يتطرقون لها الا ان هذا لا ينفي دور المتخصصين في كل مجال علمي ان يقوموا بدورهم في عقد الندوات والمؤتمرات التي تناقش مستجدات المجتمع التي تنشأ من تطور المجتمع نفسه او مما يستورده المجتمع من بقية التجمعات البشرية حيث ان عالم الفيزياء والكيمياء والاجتماع والاقتصاد وكل اختصاص علمي يفترض ان يدرس الواقع ويتابع اخر التطورات العلمية ويعقد محاضرات عامة يناقش فيها ما هو ضمن تخصصه لكي لا يقتصر علمه على الجانب النظري والشخصي بعيداً عن المسؤولية العامة تجاه المجتمع والتخصص العلمي.
ان اكرمكم عند الله اتقاكم وخير الناس من نفع الناس
من الجميل والمؤلم في نفس الوقت ان نرى ان مبادئنا النظرية -الاسلامية على وجه الخصوص- مطبقة في الدول التي نراها كنموذج يحتذى به ولكن لا نكلف انفسنا حتى محاولة تطبيق نظريات السماء في مجتمعنا فالدين والتقوى هو المقياس الحقيقي عند الله وهو الامر الذي يجب ان ينعكس على سلوكنا تجاه بعضنا البعض الاخر والذي يؤدي الى نتيجة حتمية وهي نكران الذات والعمل لخدمة الجماعة (او الامة عموماً) وبالتالي يطبق قول الرسول الكريم (ص) خير الناس من نفع الناس وهذا ما نراه في كل الدول المتطورة حيث تعمل الناس كخلايا النحل بلا توقف لتحقيق التقدم العلمي والعملي والرقي الاجتماعي، وهنا لا ننكر وجود الكثير من الانحرافات في سلوكهم بسبب النزعة المادية البحتة التي تحكم سلوكهم وحياتهم بسبب غياب الجانب المعنوي الروحي من تفكيرهم والسعي للتقدم المادي فقط بعيداً عن نهج السماء الامر الذي يخالف ما يريده الله تعالى لنا وما يستهدفه ديننا وخالقنا من خلقنا فقبل ان ننشغل ببناء ناطحات السحاب والمرافق الترفيهية والسياحية ونفاخر بها الدول الاخرى ونعتبرها انجازات تستحق الفخر يجب ان نعمل قبل كل هذا على تحقيق مجتمع بلا فقراء وبلا معوزين وبلا جائعين وايتام وارامل واناس بلا سقف يؤويهم وهذا ما يحقق لنا الاستقرار الاجتماعي فوجود الفقراء والمساكين والمظلومين في كل تجمع بشري يعرقل تحقيق السلام والاستقرار وهذا احد اسباب بلائنا في كل عصور التاريخ.
اخيراً وليس اخراً مقارنة بسيطة تعكس الكثير من الحقائق:
ان الفرق بين البلدان الفقيرة والغنية لا يعود إلى قدمها في التاريخ فمصر والهند يفوق عمرها 2000 عام وهي فقيرة نسبياً في حين ان كندا واستراليا ونيوزيلندا لم تكن موجودة قبل 150 سنة وبالرغم من ذلك فهي دول متطورة وغنية.
ولا يمكن رد فقر او غنى الدول إلى مواردها الطبيعية المتوفرة فلليابان مساحة محدودة وتعتبر 80% من اراضيها عبارة عن جبال غير صالحة للزراعة أو لتربية المواشي ولكنها تمثل ثاني اقوى اقتصاد في العالم رغم ان العلم الامريكي المحتل لا يزال يرفرف فوق سماء طوكيو منذ الحرب العالمية الثانية! ومع ذلك فهي عبارة عن مصنع كبير عائم ، يستورد المواد الخام لإنتاج مواد مصنعة يصدرها لكل أقطار العالم. مثال آخر هو سويسرا فبالرغم من عدم زراعتها للكاكاو إلا أنها تنتج أفضل شوكولا في العالم وبالرغم من مساحتها الصغيرة التي لا تسمح لها بالزراعة أو بتربية المواشي لأكثر من اربعة أشهر في السنة إلا انها تنتج اهم منتجات الحليب وأغزرها في العالم! ورغم إنها بلد صغير الا ان صورة الأمن والنظام والعمل التي تعكسها ، جعلها أقوى خزنة في العالم.
امر اخر لا بد من الاشارة اليه وهو ان المدراء من البلاد الغنية ومن خلال علاقتهم مع زملائهم في البلدان الفقيرة لم يستطيعوا ان يجدوا فروق تميزهم من الناحية العقلية ومن ناحية الإمكانيات عن هؤلاء في البلاد الفقيرة. اللون والعرق لا تأثير لهما . فالمهاجرون المصنفون كسالى في بلادهم الأصلية هم القوة المنتجة في البلاد الأوربية! اذا اين يكمن الفرق؟
يكمن الفرق في السلوك، المتشكل والمترسخ عبر سنين من التربية والثقافة وربما تراكمات العقود الطويلة من الكبت والحرمان من ابسط الحريات ومن ابسط الحقوق فعند تحليل سلوك الناس في الدول المتقدمة نجد أن الغالبية يتبعون هذه المبادئ في حياتهم: الأخلاق كمبدأ اساسي، الاستقامة، المسؤولية، احترام القانون والنظام، احترام حقوق باقي المواطنين، حب العمل، حب الاستثمار والادخار، السعي للتفوق والأعمال الخارقة، واخيراً الدقة. في حين نرى في البلدان الفقيرة لا يتبع هذه المبادئ سوى قلة قليلة من الناس في حياتهم اليومية! لذا لسنا فقراء بسبب نقص في الموارد أو بسبب كون الطبيعة قاسية معنا . نحن فقراء بسبب عيب في السلوك. وبسبب عجزنا عن التأقلم مع الاخرين من ابناء الوطن الواحد وعدم تعلم المبادئ الأساسية التي أدت إلى تطور تلك المجتمعات وغناها.