القسم الخامس
إن نظـام التشـكیلات الإداریـة فـي كـل وزارة أو جهـة غیـر مرتبطـة بـوزارة ، یتضمن وصفا للوظائف المتقدمة ( مدیر فمـا فـوق ) وشـروط إشـغالها ، وحیـث لـم تلتــزم بتلــك الشــروط والمواصــفات أغلــب دوائــر الدولــة ، لعــدم كفایــة التوصــیف وتكییفــه لإســتیعاب الكفــاءات والقــدرات العملیــة المتمیــزة ، بســبب الركــون إلــى مستوى التحصیل الدراسي فقط ، وعـدم فسـح المجـال لـذوي الخبـرة المكتسـبة والمتراكمة من أصحاب الممارسة العملیة والفعلیة ، من تولي زمـام المسـؤولیة الإداریـة المباشـرة ، أدى إلى إشغال عـدد مـن تلـك الوظـائف بعناصـر غیـر مؤهلـة مهنيا لها ، إلا عن طریق الوكالة أو التنسـیب ، الأمـر الـذي أفقـد تلـك الأنظمـة قوتهـا الملزمـة ، وفاعلیتهـا فـي تحقیـق النتـائج المتوخـاة ، بسـبب التهـاون فـي مسـاءلة المخـالفین ، كمـا أدى ذلـك إلـى زیـادة ضـعف كفـاءة العـاملین مـع زیـادة أعـدادهم ، بسـبب عــدم إلمــام الــرئیس المباشــر أو الأعلــى لتفاصــیل أعمــال وظیفتــه ، المرتبطــة بتنفیــذ مهــام وواجبــات الــدائرة التــي یرأســها ، ناهیــك عــن عوامــل حــب الســیطرة وبسـط النفـوذ ، علـى الـرغم مـن إنعـدام الخبـرة العملیـة التـي لا یـدعمها التحصـیل الأكایمي ، ولا یمنحها قـوة وحصـانة ومنعـة التجربـة العملية الفعلية ومكتسـباتها ، وإن كـان ذلـك على حساب هیبـة الوظیفـة العامـة وقوتهـا الإداریـة ، المسـتندة إلـى نزاهـة الكفـاءة والخبرة الفكریة والتطبیقیة .
إن حكمة المشرع في الجمع بین مراقبة عـدد المـوظفین وتنظـیمهم ، حسـب أحكام المـادة (٣٣) متقدمة البیان ، وبـین تـدریبهم ضـمن القواعـد الواردة في قانون الخدمة المدنية ، تؤكـد أهمیة التـدریب وتأثیره المباشـر على تحدیـد عـدد العــاملین فــي دوائر الدولة ، حیـث تـزداد أعـدادهم كلما إنخفض مسـتوی أدائهـم النـوعي ، بسـبب ضعف كفـاءة وقلة خبرة مسـؤولیهم ، ویقـل عـددهم كلما إرتفعــت مسـتویات الأداء الـوظیفي النوعي ، بفعـل قـوة وتـأثیر الخبرة المتراكمة للمسـؤولین ، المؤدیة إلى إرتفاع درجة كفاءة المرؤوسـین ، مـن خلال نقـل المـوروث العملي وآلیات تطبیقه ، عـن طریق ممارسة الإجراءات الیومیة لشـؤون الوظیفـة والخدمة العامة بحنكة ونزاهة إدارية غير مصطنعة ، إضـافة إلى مـا تحققه إهتمامـات ربـط الواقع الوظیفي بمتطلباته المسـتقبلیة ، الـذي جسـدته المـادة (٣٤) مـن القـانون ، حیـث الـنص على أنٍ ( تؤسـس فـي الـوزارات المختصـة عنـد الضـرورة دورات لتـدریب المـوظفین ، ممـن یتقــرر تـدریبهم بغیـة زیادة كفاءتهم ، بعــد إستحصـال موافقـة وزیـر المالیة على مـدة الـدورة ، وشـروط الالتحاق بهـا ، وحقـوق المتخـرجین منها ) . كما إن تخویـل الوزارات بإقامة الـدورات التدریبیة لمنتسـبیها ، یعني نقـل الخبـرة المتراكمـة إلــى جیــل الموظفین الجـدد ، مـن منابع المشهود بتمیـزهم الـوظیفي المهني ممارسة وبحثا غير ملوثين بعصيات الفشل والفساد ، ومـا ینـتج عنه مـن توحیـد الإجـراءات المتبعـة وتبسـیطها فـي دوائـر الـوزارة الواحدة ، وعـدم فسـح المجـال لإجتهـادات التعامـل المـزدوج مع تفاصـیل الموضـوع الواحـد بمعـاییر غیـر قانونیـة ، والسعي لتبـادل المعرفـة والمعلومات التي لا تقــف عنـد حـدود دوائـر الـوزارة الواحـدة ، حیـث الـدورات التدریبیة المشتركة لمنتسبي دوائر الدولة ، وما یترتب علـى نتـائج المشـاركة فیهـا مــن ثــواب وعقــاب ، التـي سیسـتدل بهـا علـى قـوة التـأثیر الإیجابي لهـا ، فـي تحدیـد أعـداد القوى البشریة العاملة في أجهزة الدولة المختلفة .
لقـد بلغ إهتمام الدولة بالتـدریب ، إلى حد إشـتراط إجتیـاز المرشـح للتعیـین على ملاك الـوزارات ، لـدورة تخصصــیة فــي مجـال ممارسـة الوظیفـة المـراد التعیـین فیهـا ، حیث أجـاز القـرار المـرقم (١١٥١) فــي ٢٤/١٠/١٩٧٤ ، تعیین خریجة الدراسة الإعدادیة والفنون البیتیة بوظیفـة ( مرشـدة ) ، فـي مـدیریتي الشـرطة والمـرور العــامتین ، بالراتـب الـذي تسـتحقه وفـق أحكـام قـانون الخدمة المدنیة رقم (٢٤) لسنة١٩٦٠– المعدل ، بعد إجتیازها دورة خاصة مـدتها ثلاثـة أشهر في عمادة كلیة الشـرطة ، ونـص القـرار المرقم (٣٠٨) في 14/3/1977 ، على أن ( یعتبـر خریجـو الدراسـات الحسـابیة التي تنظمها مدیریة المحاسبة العامة ، بمثابة ممارسین مـن الفئـة (ج) لأغـراض التعيين في الوظائف الحسابية ، طبقا لأحكام قـانون نقابـة المحاسـبین والمـدققین رقــم (١٨٥) لســنة ١٩٦٩ – المعــدل ، على أن یكونـوا من خریجي الدراسـة الإعدادیة أو ما یعادلها ، وأن لا تقل مدة الدورة عن ثلاثة أشهر ) .
إن حــب العمــل ، وتســخیر كــل وقــت وجهــد الموظــف مــن أجلــه ، غایــة لا یــدركها إلا مــن إحتــرف الوظیفــة مهنیــا ، وأخلــص فــي أداء واجباتــه ، مبتكــرا ومبدعا ومتمیزا بتجربته المكللة بالإستقامة والنزاهة ، التـي یفتقـر الیهـا مـن جعـل مــن الوظیفــة وســیلة إرتــزاق وكســب مــادي لا حــدود لــه ، كمــا هــو حــال معظــم مـوظفي الیـوم ، الـذین لا یعنـیهم البحـث فـي تطویرهـا وتبسـیط إجراءاتهـا ، بـذات قــوة المنافســة علــى التمتــع بإمتیازاتهــا ، وإن كــان ذلــك مــن غیــر وجــه حــق أو إستحقاق لیس إلا … كما إن بحث ودراسة مواضيع الخدمة وإستحقاقاتها ، يستند إلى رؤى الرغبة في تغيير قواعد الواجبات والحقوق ، وتجديد الأحكام المنظمة لشؤون العاملين في دوائر الدولة ، بسبب عدم مواكبتها لمقتضيات ومتطلبات الوظيفة العامة ، أو عدم إنسجامها مع إستخدام الإمكانيات المتطورة والمتاحة من أجل البناء والإعمار ، وحيث نعتقد بصحة وصواب ما نراه ، فإن غيرنا قد يرى خطأ ما توصلنا إليه ، وعليه نجد في المراجعة المهنية الخالصة ، أداة إنقاذ بعض ما شهدته الوظيفة العامة من أنواع المتغيرات السلبية والعقيمة ، التي فرضها تدخل الطارئين بشعارات الإصلاح والتغيير الخالية من قواعد وآليات العمل العلمي والرصين ، مع إهمال تأثير ظروف مقتضيات ومتطلبات الحالة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية غير المستقرة التي صنعها الإحتلال البغيض وأزلامه من الرعاع .