يؤكد مؤرخ العراق القديم الخبير المخضرم في الحضارات العراقية القديمة المرحوم الدكتور طه باقر أن مدينة ذي قار شهدت أول ثورة إصلاحية في تاريخ البشرية عام 2351 قبل الميلاد!!
ويؤكد الدكتور طه باقر في كتابه (تاريخ الحضارات القديمة) وهو الضليع بتنقيباته الأثرية البالغة الأهمية ، أن شعب مدينة لكش في ذي قار ، قد ثار على حكومته المستبدة ، ونظم في وقتها وقفات إحتجاجية غاضبة للخلاص مما يتعرض له من ظلم وإضطهاد ، وفي يوم شتائي بارد ، على شاكلة برد شباط الحالي، بعد إن عانى سكان مدينة لكش من سوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية ومن هول الضرائب التي فرضها ملك لكش على شعبها، ، ما ادى الى إشتعال نار الثورة ضده ، مما لاقوه من ممارسات أضرت بهم كثيرا وتسببت بإحداث أزمات ومصاعب عيش واستغلال لكرامة شعب، لم يتبق أمامه الا التمرد والثورة والاحتجاج على ما آلت اليه أوضاعهم الحياتية والمعيشية من تدهور وانفلات..!!
وبعد إن ماطل ملك لكش في تلبية نداء مواطني الشعب في الاستجابة لمطالبهم ، شرع (ثوار أوروكاجينا) من عامة الناس في تنصيب أمير عليهم ، إضطر لإقامة أول عملية إصلاح سياسي عرفهُ التاريخ، ومن ضمن خطوات الأمير الجديد الإصلاحية أن “أوركاجينا “قام بتشريع مجموعة من الإصلاحات ، ومن ثم شرع بتدوينها من خلال دستور جديد، سُميت في حينها بـ (إصلاحات اوروكاجينا) ..ومما جاء في مقدمة تلك الاصلاحات : ” جئت لأخلص الضعيف من القوي ولن أدع أحد ينام وهو جائع”!!
ومن ابرز ما تمثلت به تلك الإصلاحات في عهده هي قيامه برفع الضرائب وتحسين الخدمات، وتوفير فرص العمل وإنهاء التسلط الطبقي وأستغلال المناصب والفساد الذي شاع بذلك الزمن!!
ويذكر الأستاذ الدكتور المرحوم طه باقر كل تلك المعلومات التي أوردناها عن ثورة أهل الناصرية في مقدمة كتابه تاريخ الحضارات القديمة من صفحة (٣٥٥ إلى صفحة ٣٥٧) أن الإصلاحات التي شرع بإقامتها قد تم تدوينها على موشور طيني تم العثور عليه في العراق وهو معروض حالياً بمتحف اللوفر في باريس!!
هذه هي الحقائق الناصعة البياض لمآثر تلك المدينة الضاربة في أعماق التاريخ ، حيث حضارة مدينة لكش، التي يتفاخر بها العراقيون والعالم، على أنها شهدت أول ثورة إصلاحية في تأريخ البشرية ، وأحداثها شبيهة بما يجري الآن في العراق بعامة والناصرية وذي قار بخاصة، ومن حق أهل الناصرية أن يفتخروا بتأريخهم ، وهم الذين لم يسمحوا للنوم أن يتوسد فراشهم، وما إن شعروا أن أوضاع البلد قد تدهورت وبلغ السيل الزبى في انتهاك الكرامات وعدم توفير لقمة عيش تليق بأهل العراق حتى أعادوا تاريخهم المجيد، لكي يؤكدوا للعالم أجمع أنهم أعادوا ثورة الأجداد التي أنطلقت عام 2351 قبل الميلاد ، وها هم أنفسهم يثأرون لتاريخهم العريق ليعيدوا أمجاده الخالدة، ويؤكدون قدرتهم على مواجهة الظلم والتسلط والطغيان، لكي يعود الحاكم الى رشده ويعترف بحق الشعب في العيش الآمن الكريم، وهو مايحرص عليه ثوار ذي قار هذه الايام، وقد كانوا أكثر ساحات العراق التي يهابها من حكم العراق اليوم، وهي من أعطت لبقية ساحات المحافظات الأخرى وبخاصة بغداد الزخم الجماهيري الذي يستحق، وهي من أسمهت بصمود الانتفاضة الشبابية الجماهيرية ، التي كان لأهل ذي قار الفضل الكبير في إيقاد شعلة الثورة ، وها هي بإنتظار ان تقطف ثمارها اليانعة في وقت قريب إن شاء الله، بهمة أهل ذي قار وأهل العراق الكبار في تأريخهم ، وهم من علموا الدنيا أول حروف الكتابة، ومن أسهموا في إرساء معالم حضارة ستبقى شامخة بكبريائها على مدى الدهر، الى ان يرث الله الأرض ومن عليها..عندها يكون لكل حادث حديث!!
وأود في خاتمة هذا المقال أن اوجه شكري وتقديري للزميل والاعلامي العزيز وليد عمر العلي الذي رفدني بسطور مهمة مستقاة من كتاب مقدمة تاريح الحضارات القديمة للدكتور المرحوم طه باقر ، كانت معيني في إعادة صياغتها على شكل مقال لاطلاع من يريد أن يغوص في هذا السفر العراقي الأصيل وروائعه، لتكون عبرة لأجيالنا الحاضرة والمستقبلية، وهم من يستلهمون منها العبر ، التي تخدم توجهاتهم ومواقفهم عندما تدلهم الخطب، وعندما ينفذ صبر الشعب، وعندما لم يتبق للصبر من منزع، إلا أن يثور، ويعيد الحرية والكرامة للشعب، وله من تاريخه العريق ما يرفع رأس شعبه المعطاء الى علياء السماء، وها هم في إنتفاضتهم المباركة الحالية يستعيدون تاريخهم الزاخر بالبطولات ، وتراهم في ساحات التظاهر ، وهم أشد صلابة مما يظن الكثيرون ، ممن يحاولون سحق ثورتهم او العمل على تسويف مطالبهم، واجهاض تلك الثورة الشبابية ، وقد أصر العراقيون هذه المرة على إنهاء مظاهر الفساد واستباحة الكرامات والفوضى التي تضرب أطنابها في هذا البلد، وهم لقادرون على إستعادة أمجادهم، حتى تتم الإستجابة لمطالبهم العادلة المشروعة، وهم يستحقون كتابة الصفحات المشرقة من جديد، وهم أهل لتلك المهمة على كل حال!!
تلك الانتفاضة الكبرى ، التي كان أهل ذي قار قد أسهموا في إيقاد شعلتها منذ شهور ، كانت هي نفسها قد حدثت في عصور ما قبل التاريخ..والتاريخ يعيد نفسه اليوم .. فما أشبه الليلة بالبارحة!!