ورد عن كثيرٍ من السَّلف والعلماء الأمر بالتوقُّف عن الخوض في تفاصيل ما وقع بين الصَّحابة ، وإيكال أمرهم إلى الله الحكم العدل ، مع الترضِّي عنهم ، واعتقاد : أنَّهم مجتهدون ، مأجورون إن شاء الله ، والحذر من الطَّعن فيهم ، والوقوع في أعراضهم ، لما يجرُّ ذلك من الطَّعن في الشَّريعة ؛ إذ هم حملتها ، وحاملوها إلينا ، ومن ذلك ما روي عن عمر بن عبد العزيز : أنَّه سئل عن أهل صفِّين ، فقال : تلك دماء طهَّر الله منها يدي ، فلا أحبُّ أن أخضِّب لساني فيها، وسئل أحدهم عن ذلك ، فقال : متمثِّلاً قوله تعالى : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [البقرة : 134 ] .
وهذا النَّهي معلَّل ، علَّته الخوف ممَّا ذكرناه من الطَّعن فيهم ، والوقوع في أعراضهم ، وما يستوجب ذلك من غضب الله ، ومقته ، فإذا انتفت هذه العلَّة ، فالظَّاهر: أنَّه لا حرج من ذلك ؛ إذا كان الكلام والبحث في تفاصيل ما وقع بينهم لا يؤدِّي إلى الطَّعن فيهم مطلقاً ، فلا بأس من دراسة ذلك ، والتعمُّق في أسبابه ، ودوافعه، وتفصيلاته الدَّقيقة ، ونتائجه وتداعياته على مجتمع الصَّحابة ، ثمَّ على مَنْ بعدهم ، وقد كتب بعض العلماء عن الفتنة ، أمثال ابن كثيرٍ ، والطَّبريِّ ، وغيرهم أحداث تلك الفترة الحرجة من تاريخ الإسلام ، وفَصَّلوا ، وفَصَلُوا في قضايا كثيرةٍ تتعلَّق بتلك الفتنة ، ومنهم من ذهب إلى حدِّ تخطئة أحد الطَّرفين ، أو كليهما ، اعتماداً على رواياتٍ ، ونصوص كثيرة اختلط فيها الصَّحيح بغيره.
وهناك أسبابٌ تدعو علماء أهل السُّنَّة وطلاب العلم منهم للغوص في أعماق فتنة الهرج الّتي وقعت في صدر الإسلام ، والبحث عن تفاصيلها ، ومن هذه الأسباب :
1 ـ أنَّ المؤلفات المعاصرة الّتي تناولت أحداث الفتنة بين الصَّحابة ، والتَّابعين انقسمت إلى ثلاثة أنواعٍ :
أ ـ مصنفاتٌ تربَّى أصحابها على موائد الفكر الغربيِّ ، الحاقد على التَّاريخ الإسلاميِّ ، أو الجاهل بالتَّاريخ الإسلاميِّ ، فلم يروا فيه شيئاً جميلاً ، فراحوا يطعنون في الصَّحابة والتَّابعين بطريقةٍ تخدم أهداف أعداء الإسلام ، وخصومه ؛ الّذين قاموا لدراسة أحداث تلك الفتنة وتفاصيلها ، وإعطائها تفسيراتٍ تطعن في جموع الصَّحابة ، وتضرب الإسلام في أصوله ، وتجعل من هذه الأحداث صراعاً سياسيّاً ، على مناصب وكراس ، تخلَّى فيه الصَّحابة عن إيمانهم ، وتقواهم ، وصدقهم مع الله ، وانقلبوا إلى طلاب دنيا ، وعشَّاق زعامةٍ ، لا يهمُّهم أن تراق الدِّماء ، وتُزهق الأرواح، وتسلب الأموال ، وتستباح الحرمات إذا كان في ذلك ما يحقِّق لهم ما يريدون من الرِّياسة والزَّعامة .
وممَّن تولَّى كبر هذه الفرية ، طه حسين في ( الفتنة الكبرى ) الّذي هو بحقٍّ فتنةٌ كبرى على عقول النَّاشئة من أبناء المسلمين ، فقد راح طه حسين يشنِّع على الصَّحابة، ويشكِّك في نيَّاتهم ، ويتَّهمهم باتهاماتٍ مغرضة خدمة لأهداف أعداء الإسلام ، والمسلمين، وقد تأثَّر الكثير بمنهجه ، ويبدو أنَّ أمثال هؤلاء اعتمدوا على الرِّوايات التَّاريخيَّة ؛ الّتي أوردها المؤرِّخون كالطَّبري ، وابن عساكر ، وغيرهما ، والّتي اختلط فيها الغثُّ بالسَّمين ، والكذب بالصِّدق ، وأخذوها دون مراعاةٍ لمنهج هؤلاء في مصنَّفاتهم ، وهذا خطأٌ كبيرٌ، وقد تأثَّرت هذه الكتابات بالفكر المنحرف ، والكتابات غير الصحيحة للتَّاريخ الإسلاميِّ، فقد تعمَّد الأعداءُ الإساءة في كتاباتهم للتَّاريخ الإسلاميِّ ، كما في روايات ، وأخبار الكلبيِّ، وأبي مخنف، ونصر بن مزاحم المنقريّ، والّتي توجد حتَّى عند الطبريِّ في تاريخه ، لكنَّ الطَّبريَّ يذكرها مسندةً لهؤلاء ، فيعرف أهل العلم حالها، وكما في كتابات المسعوديِّ في مروج الذَّهب ، واليعقوبيِّ في تاريخه .
وقد أشار الأستاذ محبُّ الدِّين الخطيب في حاشية ( العواصم ) إلى أنَّ التَّدوين التَّاريخيَّ إنَّما بدأ بعد الدَّولة الأمويَّة ، وكان للأصابع المعوجَّة ، والشُّعوبيَّة المتلفِّعة برداء الضلال دورٌ في طمس معالم الخير فيه ، وتسويد صفحاته النَّاصعة .
ويظهر هذا الكيد لمن تدبَّر كتاب العواصم من القواصم لابن العربيِّ مع الحاشية الممتازة الّتي وضعها العلامة محبُّ الدِّين الخطيب ، لقد سوَّد بعضُ الكُتَّاب الاف الصَّفحات بسبِّ أفضل قرنٍ عرفته البشريَّة ، وصرفوا أوقاتهم ، وجهودهم لتشويه تاريخ المسلمين، وكانت هذه المادَّة التاريخيَّة الكبيرة ، والّتي تجدها في كتب التَّاريخ، الّتي وضعها أولئك ، أو شاركوا في بعض أخبارها ، وتراها في كتب الحديث عندهم وهي كثيرة واسعة ، وفي ما كتبه شيوخهم في القديم من ضلالات ، وفي الحديث من تقوُّل ؛ هذه المادَّة السـوداء المظلمة الكريهة الشَّـائهة هي المرجع لما كتبه أعداء المسلمين من المستشرقين ، وغيرهم ، وجاء ذلك الجيل المهزوم روحيّاً ، والّذي يرى في الغرب قدوته ، وأمثولته من المستغربين فتلقَّف ما كتبته الأقلام الاستشراقيَّة ، وجعلها مصدره ، ومنهله ، وتبنَّى أفكارهم ، ونشر شبهاتهم في ديار المسلمين ، وكان لذلك أثره الخطير في أفكار المسلمين وثقافتهم ، وكان العدول عن الحق هو الأصل في هذا الشَّرِّ كلِّه ، وإنَّ دراسة اراء المستشرقين ، وصلتها بالانحراف لهي موضوعٌ مهمٌّ يستحقُّ الدِّراسة ، والتتبُّع . لقد بدأت استفادة العدوِّ الكافر من شبهات الأعداء ، وأكاذيبهم ، ومفترياتهم على الإسلام والمسلمين منذ عهد الإمام ابن حزم ( ت 456 هـ).
ب ـ مصنَّفات لبعض علماء هذه الأمَّة من المعاصرين ، وهي مفيدة إجمالاً ، ولكن طريقة عرضهم للأحداث ، وتفسيرهم لمواقف بعض الصَّحابة ، والتَّابعين فيها كثيرٌ من عدم الإنصاف ، مثل ما كتبه أبو الأعلى المودودي ـ رحمه الله ـ في كتابه : ( الخلافة والملك ) ، وما دوَّنه الشَّيخ محمد أبو زهرة ـ رحمه الله ـ في كتابيه: ( تاريخ الأمم الإسلاميَّة ) و( الإمام زيد بن عليٍّ ) فالكتابان مشحونان بكثيرٍ من التَّحامل على مقام بعض الصَّحابة ، والطَّعن على خلفاء بني أميَّة ، وتنقُّصهم ، وتجريدهم من أيَّة خصلةٍ حميدةٍ ، أو عملٍ صالحٍ، ويبدو : أنَّ أمثال هؤلاء العلماء لم يحقِّقوا في الرِّوايات التَّاريخيَّة ، فتورَّطوا في الرِّوايات الإماميَّة الشِّيعيَّة وبنوا عليها تحليلاتهم ، واستنتاجاتهم ، غفر الله لنا ، ولهم .
ج ـ مصنَّفاتٌ حاول أصحابها أن يسلكوا فيها منهج علماء الجرح والتَّعديل في نقد الرِّوايات التاريخيَّة ، وعرضها على أصول منهج المحدِّثين من حيث السَّند ، والمتن ، من أجل تمييز صحيحها من سقيمها ، وسليمها من عليلها .
وفي هذه المؤلفات محاولةٌ جيِّدةٌ ، وجهدٌ مشكورٌ للوقوف في وجه هذا الزَّيف ، وتفسير الأحداث التَّفسير الصَّحيح الّذي لا يتعارض مع فضل الصَّحابة ، وإيمانهم ، وجهادهم، ومن هذه المؤلَّفات الجيِّدة ، ما كتبه الدُّكتور يوسف العش ، في تاريخ الدَّولة الأمويَّة ، وما كتبه محبُّ الدِّين الخطيب ، تعليقاً على كتاب : العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي ، وما كتبه صادق عرجون في كتابه : عثمان بن عفَّان ، وما سطَّره الدُّكتور سليمان بن حمد العودة في كتابه : عبد الله بن سبأ ، وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام ، وما كتبه محمد أمحزون في كتابه : تحقيق مواقف الصَّحابة في الفتنة ، وما كتبه الدكتور أكرم العمري في كتابه : الخلافة الرَّاشدة، وما كتبه عثمان الخميس في كتابه : حقبةٌ من التَّاريخ ، وما كتبه الدُّكتور محمد حسن شرَّاب في كتابه : المدينة النَّبويَّة فجر الإسلام ، والعصر الرَّاشدي، وما قام به محبُّ الدين من تحقيقات نافعةٍ ، وتعليقاتٍ صائبةٍ على كتاب العواصم من القواصم ، والمنتقى ، وغيرها من الكتب والبحوث والرَّسائل ؛ الّتي سارت على نفس المنهج ، فقد ظهر من هذا البيان شدَّة الحاجة إلى وجود مؤلَّفات ، ومصنَّفات تردُّ على هذه المزاعم ، والأخطاء .
ولا يتمُّ الردُّ على هؤلاء المزيِّفين للتَّاريخ الإسلاميِّ ، ومقام الصَّحابة إلا بمحاولة دراسة تفاصيل تلك الأحداث، وغربلة الأخبار والرِّوايات الواردة بميزان الجرح، والتَّعديل، والتَّصحيح، والتَّضعيف، وقد جاء عن ابن تيميَّة قوله: لكن إذا ظهر مبتدعٌ، يقدح فيهم بالباطل، فلا بدَّ من الذَّبِّ عنهم، وذكر ما يُبطِل حجَّته بعلمٍ، وعدلٍ. وقد ذهب الإمام الذَّهبي ـ رحمه الله ـ في هذا مذهباً اخر، فهو يدعو إلى إحراق هذه الكتب الّتي فيها هذا الكذب، والتَّشويه لمقام الصَّحابة، قال رحمه الله: كما تقرَّر الكفُّ عن كثيرٍ ممَّا وقع بين الصَّحابة، وقتالهم ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وما زال يمرُّ بنا ذلك في الدَّواوين ، والكتب ، والأجزاء ، ولكنَّ أكثر ذلك منقطعٌ ، وضعيفٌ ، وبعضه كذبٌ،وهذا فيما بأيدينا ، وبين علمائنا ، فينبغي طيُّه ، وإخفاؤه ، بل إعدامه لتصفو القلوب ، وتتوفَّر على حبِّ الصَّحابة ، والترضِّي عنهم.
وقد أفادنا الذَّهبيُّ في كلامه فائدةً كبيرةً ، وهو تصريحه بكون أكثر ما يُنقل من ذلك في الكتب والدَّواوين كذباً ، وزوراً ، وافتراءً على مقام الصَّحابة رضي الله عنهم إلا أن اقتراح الذَّهبيِّ بحرق تلك المؤلَّفات لم يعد ممكناً ، فقد انتشرت هذه الكتب ، وتولَّت طباعتها كثيرٌ من دور النَّشر ، وكثيرٌ من ذوي النِّيَّات السَّيِّئة ، فلم يبقَ إلا وضعها موضع الدِّراسة وبيان ما فيها من عوارٍ ، وخطأًا ، وكذبٍ حفظاً لأجيال المسلمين من انحراف السُّلوك ، والعقيدة.
تظهر أهمِّيَّـة دراسة فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ، وما ترتَّب عليها من أحداثٍ لمعرفة أسباب الفتنة الحقيقيَّة ، سواءٌ كانت هذه الأسباب داخليةً ، أو خارجيَّةً، ومعرفة نصيب كلِّ سببٍ من هذه الأسباب فيما حدث ، وهل هناك أسبابٌ يمكن إدراجها في هذا السَّبيل ؟ إنَّ الّذي يقرأ طرفاً ممَّا كتب عن هذه الفتنة يحسُّ : أنَّ مؤامرةً كبرى ، جرى التَّخطيط لها، وتعاون ذوو الفكر المنحرف ، والمنافقون على تنفيذها ، فقضية تامر الأعداء ترافق الأمَّة الإسلاميَّة في كلِّ مراحل تاريخها الطَّويل.
إلا أنَّ هذه المؤامرة ما كانت لتنجح لولا وجود عوامل ضعفٍ داخليَّةٍ ساهمت في التَّمكين لنجاح هذه المؤامرة ، وعليه فإن دراسة عهد الصَّحابة ـ والحالة هذه ـ تعد واجباً من الواجبات في سبيل معرفة أسباب ضعف الأمَّة الإسلاميَّة ، وتحديد مكامن الدَّاء الّتي أوتيت منها ، والاستفادة من ذلك في إصلاح حاضر هذه الأمَّة ، وتجنيبها هذه المزالق في مستقبل حياتها ؟ أم كتب عليها أن تظلَّ ترزأ تحت ثقل أدوائها من الدَّاخل، وكيد أعدائها من الخارج؟ ! إنَّ ما وقع من أحداثٍ جسامٍ في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ، وما ترتَّب عليها من أحداثٍ تحتاج لدراسةٍ عميقةٍ ، ومتأنيَّةٍ، لكي نستخرج من تلك الحقبة التاريخيَّة دروساً وعبراً نستضيء بها في حاضرنا ولكي نسترشد بها في سعينا الجَّادِّ لإعادة الخلافة الرَّاشدة على منهاج النُّبوَّة حتَّى تسعد البشرية بدين الله ، وشرعه ، وتخرج من شقاوتها ، وتعاستها ، وضنكها بسبب بعدها عن شرع الله تعالى.
المصادر والمراجع:
* علي محمد محمد الصلابي، تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، دار ابن كثير، دمشق، ط2، (2009)، صفحة 292:287.
* عبدالعزيز صغير دخان، أحداث وأحاديث الفتنة الأولى، صفحة 85:79.
* ناصر بن عبدالله الغفاري، أصول مذهب الشيعة الإمامية، دار الرضا للنشر والتوزيع، ط3، (1998)، صفحة 3/ 1459:1457.