لا اعرف ماسر حبي للتجول في سوق مريدي, ذلك المكان الذي يشكل اهمية بالغة في مدينة الصدر خصوصاً, وفي بغداد عموماً . فربما رغبتي تكمن في حب الاطلاع والفضول لمعرفة الشخصيات التي تتجول هناك, وكذلك الباعة الذين يطلقون عليهم “القفاصة” وهذه الاخيرة, طابع تغلب على كل الباعة في السوق حتى الشرفاء منهم . المكان يحتوي على الناس البسطاء والشرفاء ما لايعد ولكن لقب “القفاصة” اضفى سمعة سيئة وسلوك نمطي عن العاملين بهذا السوق . سوق مريدي مهم جداً ويعتبر من الاسواق المهمة في بغداد . انقطعت عنه لسنين عدة, وقبل ايام اعتراني الحنين الى ذلك السوق, وذهبت اليه متشوقاً, عائداً الى عادتي القديمة في تفحص الوجوه وتقليب الحاجات المعروضة هناك . وصلت هناك وليتني لم ادخل ولم اذهب اليه . حينما تدخل السوق يلفحك الصوت مع الهواء الحار الممتزج بالاتربة صخب وضجيج يملأ الفضاء , تمشي ولاتكاد تسيطر على نفسك من شدة الصوت الذي يداعبك, ويجعل جسمك معرض للاهتزاز والرقص دون ان تشعر!. انها “الصفكَات” كما يطلق عليها . تمشي ويخيل لك ان السوق سيقع عليك وستنقلب الدنيا رأسا على عقب, وانهم آتين لقتلك لا محالة . ومن هم هؤلاء القتلة الذي يهددهم الرادود في “صفكَته”؟ لا تعرف . صوت مزعج كأنه النهيق وسط سكون وصمت ليلي هادئ . كلمات مريبة تثير التوجس والخوف :<اجيناكم اجيناكم , كلمن طلقة نضربكم >. وهكذا على هذا النغم ثم يأتي الايقاع الثاني <هلا هلا هلا , طكَـ طكَـ طكَـ>. لا اعرف هؤلاء “الرواديد” شخصياً ولم التقي بهم قط , لكن انا متأكد انه لم يرى في حياته غير الدماء والقتل , او لها تفسير آخر, ان لديه عقدة نقص واراد ان يعوض نقصه من خلال هذا الشيء . كما يفسرها علماء النفس .. ان هذه الاصوات ربما تكون عود الثقاب الذي يشعل الفتيل بين أبناء البلد الواحد, التي تجمعهم المشتركات الانسانية والدينية والوطنية وماشاكل ذلك . انها المحرض على الدماء والقتل والعنف وتحريض الشباب وتعليمهم لغة القوة والبطش, بدل الارتقاء بهم واحترام انسانيتهم وتعليمهم وحثهم على ان يصلوا اقصى درجة في العلم, نجعلهم يرددون بينهم وبين انفسهم <نضربهم ونشرمهم شرم>. كنت اسير في احدى ازقة مدينتي, واذا بي ارى امامي شباب كأنهم الورود, تتراقص كل اجزاء اجسامهم . من رأسهم الى اقدامهم يهتزون كأن الرجفة اصابتهم ليس لشيء الا انهم متفاعلين مع “صفكَة” مفادها <نكسر ظهره اليوصلنه>. حينها اصابني اليأس والذهول على مستقبل هؤلاء الشباب الذين ليس لديهم هم واي تفكير الا ان يرقصوا ويحركوا اجسامهم بأتقان! . هذا ماوصلنا اليه , شباب متردية في الذائقة, وانهم وصلوا الى الدرك الاسفل من الانحطاط في كل مسارات الحياة . وياتي هؤلاء “الرواديد” يزيدون الطين بلة ويسعون الى خراب الذائقة العراقية وكذلك اضفاء السمعة السيئة على ذائقة طبقة معينة معروفة, وهذه الطبقة التي اخرجت فنانين ذوي حس جمالي مقتدر قامت تخرج لنا هؤلاء الرواديد الذين يسعون الى هدم ذائقة تلك الطبقة وفنانيها الذين يعتبرون الوهج المتلألأ في سماء الابداع العراقي . ارى بعض الرواديد احياناً يتغنون بالوطن بقصائد متسمة بحس مرهف, وذائقة جميلة تنسجم مع ذائقة الشعب العراقي الاصيل . ولكن مع الاسف تتغلب هذه “الصفكَات” المبتذلة التي صارت المعيار الاصيل لاختيار شبابنا, والوحيدة التي ترقصهم جيداً وتجعل اجسامهم مثل “السبرنكَة”!. وكذلك صارت الطريق لتبادل التهم والتراشق بالشتائم والتحريض على القتل الجمعي بين أبناء البلد الواحد .. نخرج في هذه الشوارع نبحث عن راحة بعيداً عن ضجيج ايامنا الصاخبة, وترهيب المفخخات, واصوات النشاز التي نقابلها في حياتنا اليومية, نجد امامنا الرواديد والمونتربو الذي يظلل صوته الافاق . ماذا يريد لنا هؤلاء “الرواديد” , وماهي رسالتهم في الحياة ؟. هل يريدون لنا ان نستبدل اصوات الموسيقى الجميلة, وترك الفن ومتعته البهيجة, ونتجه الى هلا هلا هلا طكَـ طكَـ طكَـ!!.