ما زالت أوجاع ذلك اليوم الأسود تتشبث بعنف في ذاكرتي، مرَّت سنوات طويلة ،لكن بشاعة ما جرى لن يمحوها الوقت.
كنت حينها في السنة الثالثة عشرة، سمع والدي المرحوم الزعيم الركن عبد الوهاب أمين عبر المذياع بالانقلاب، كان وقتها متقاعداً، أسرع نحو الغرفة ليرتدي بدلته العسكرية ويلتحق بركب الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، لكن أبناء المنطقة وبعض الأقارب منعوه، وطلبوا منه الانتظار، ما زلت أتذكر جيداً وجهه وهو يتحسر على الزعيم ،كان يدرك جيداً أنه لن يسلم من وحشية الانقلابيين، فرأس الزعيم مطلوب لجميع الدول الاستعمارية التي مولت وغذت الانقلاب، وحتماً أنها لن ترضى الا باغتيال الزعيم.
كان وحوش ميليشا الحرس القومي يملؤون الأزقة والشوارع، يبثون الرعب بين الناس ويحرقون منازل بعض المسؤولين ويعتقلون بعضهم، رائحة الموت تحلق فوق الرؤوس ،تزكم الأنوف، جلست قرب والدي وكان يحدث أمي، يتنبأ بما سيحصل في العراق، أخبرها بأن الاستعمار والمتآمرين سيقضون على الوطن وسيقتلون الزعيم ليزرعوا ندبة في قلوب العراقيين، ستكون شهادة وفاة الزعيم هي ذاتها ولادة مرحلة تعيسة لن يهنأ العراق بعدها.
مرت الساعات طويلة عليه، كان يضع المذياع قربه وينحني عليه يستمع ليعلم ماذا يحدث في الخارج، حتى جاء النبأ الصادم باستشهاد الزعيم ورفاقه، جهش باكياً وهي المرة الأولى التي أرى فيها دموع أبي، كانت لحظة هزيمتي الكبرى، كل شيء بدأ يتغير، لم أعد أرى ثغره باسماً الى يوم وفاته.
ذكريات مؤلمة لرجل خدم وطنه ورافق الزعيم في كل خطوات الانتصار وشاركه في بناء الدولة، بعدها بأيام جاء بعض أصدقاء أبي القدامى وكلهم رفاق الجيش حاملين له رسالة من عبد السلام عارف مفادها “أما العودة الى منظومة الدولة والتمتع بخيرات السلطة أو الجلوس في البيت والصمت”، رفض أبي بشجاعته المعهودة المغريات ،ورفض خيانة الزعيم حتى بعد وفاته وفضل الجلوس بين جدران المنزل على ألّا يبيع ضميره وصداقته ووفائه للزعيم.
كم كانت عصيبة تلك السنوات ،وكم كانت مؤلمة، ليس على أبي فقط ،وإنما على الجميع، فمنذ ذلك اليوم وكما توقع والدي فإن البسمة غابت عن العراق ولم يمر يوم إلّا وتداعيات ذلك الانقلاب المشؤوم تنعكس على الوطن.
اليوم وبعد مرور 57 عاماً ،ما زال العراق يدفع ثمن تلك المغامرة التي أقدم عليها المتآمرون والخونة ،خدمة لمشروع استعماري أقلقه وطنية وعراقية الزعيم وثورة 14 تموز 1958 الخالدة، ومازال بعض من مخلفات تلك الحقبة للاسف الشديد يتحكمون بمقدرات البلاد تحت غطاء الديمقراطية والعلمانية والليبرالية وما هم بالحقيقة الا حيتان ضخمة تقتات على الازمات والفساد.