7 أبريل، 2024 3:15 ص
Search
Close this search box.

الحوزة العلمية الدينية السومرية

Facebook
Twitter
LinkedIn

تدفق الآيات هي عملية تواصل رسالي بين مجتمع سابق – رباه احد المصلحين – و بين مجتمع لاحق , عن طريق ترابط اجتماعي وتلاحم مكاني , والتي تهيئ الظروف المناسبة لوجود مرشد ومصلح آخر يكون هو الشحنة الدافعة لعملية التواصل , ومركزا لدوران المعتقدات في كل جيل , وبتعاليم ورؤى ومبادئ جديدة اكثر تفصيلا وعمقا وعددا , تأخذ عملية التواصل هذه على عاتقها تنفيذ المخطط الآلهي العام الهادف , والرامي الى هداية البشرية في كل زمان وكذلك لتحقيق دولة العدل الآلهية , من خلال تهيئة المجتمعات الانسانية الاخرى لتقبل اطروحات هذه الدولة عبر غرس مجموعة من المقدمات التربوية والاصلاحية الكفيلة باعادة مسار البشرية نحو جادة الصواب او قريبا منها .
ومن ثم هي المجموعات المترابطة تاريخياً التي تعي قيادتها الحقيقية , وتطبق رؤاها على ارض الواقع باعلى مستوى , مهما بعد او قرب ظاهريا . المجتمع الايماني ينتقل من مكان الى آخر , حسب الظروف التي تراها القيادة , او التي يمكن ان تساعد على اتساع رقعته في عموم المجتمع , وحسب تعاقب القيادات . وهذا التعاقب بالقيادات يمكن ان يغير من مكان المجتمع الايماني .
وبسبب عدم التمكن من التواصل مع القيادات المتعاقبة , يبقى البعض يظن ان المكان الذي كانت تشغله القيادة السابقة هو الاشرف وهو محل وقوع الاحداث التي اخبرت بها القيادات السابقة . والواضح ان هذه الرؤية ناتجة عن نظرة اولية لحقيقة المجتمع الايماني , وهي صحيحة في نفسها , لكن الواقع اعمق من ذلك واكثر انتاجا , فهي ناظرة لنتيجة وجود هذا الترابط الاجتماعي العقائدي , والمتمثلة بخلق مجموعة واعية لقيادتها الحقيقية .

ان الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي . وتتألف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسية : المواد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. ولاطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من جغرافية واقتصادية ونفسية كالدين واللغة والتربية، … وقصة الحضارة تبدأ منذ عُرف الإنسان، وهي حلقة متصلة تسلِّمها الأمة المتحضرة إلى من بعدها، ولا تختص بأرض ولا عرق، وإنما تنشأ من العوامل السابقة التي ذكرناها.
وتكاد لا تخلو أمة من تسجيل بعض الصفحات في تاريخ الحضارة ، غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة إنما هو قوة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يصيب الإنسانية من قيامها ، وكلما كانت الحضارة عالمية في رسالتها ، إنسانية في نزعتها ، خلقية في اتجاهاتها ، واقعية في مبادئها ، كانت أخلد في التاريخ وأبقى على الزمن وأجدر بالتكريم .
ومن هنا كان لتعاقب الحضارات اثر فاعل في نضوج البشرية وتطور المفاهيم الانسانية , لكن على شرط توفر القادة المخلصين الذين يرشدون ابناء كل حضارة لتبني ما هو صحيح ونبذ ما يخالفه .
ولانهيارها – الحضارة – عوامل هي عكس تلك العوامل التي تؤدي إلى قيامها وتطورها، ومن أهمها الانحلال الخلقي والفكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر، وانتشار التشاؤم أو اللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكفاء والزعماء المخلصين .
اذن كان من اللازم توفر مجموعة عوامل اساسية لنقول لتعاقب حضاري معين انه ( تواصل رسالي ) منتج ل( مجتمع ايماني ) , اهمها :
١ – انتقال لإرث حضاري سابق الى احضان حضارة جديدة .
٢ – وضوح تميز المجتمع الحضاري اللاحق على المجتمع السابق فكريا .
٣ – احتواء كلا الحضارتين على منهج عبادة توحيدي .
٤ – وجود مصلح رسالي فاعل في كلا المجتمعين .

انّ علماء التأريخ والانساب والآثاريين اختلفوا في حقيقة العلاقة بين المجتمعين السومري والاكدي , وتولدت في ذلك عدة آراء , ارى ان اغلبها عبثية وترفية , لكن يهمني منها رأيان :
1 – ان المجتمع السومري والاكدي هو مجتمع واحد , كانت لغته الاكدية , اما اللغة السومرية فهي اللغة المقدسة , او لغة ( الدين ) , لذلك كانت اسماء المعابد دائما – حتى في عنفوان التألق الاكدي – سومرية .
2 – ان المجتمع السومري سابق على المجتمع الاكدي لكنهما من اصل واحد , ثم اندمجا معا – لترابطهم العضوي – مع تفوق الاكديين بسبب انتمائهم للسامية ، وبالتالي الى نوح عليه السلام , ونموهم السكاني .
والأقرب – بعد قراءة مقارنة للمصادر – ان السومريين هم قوم نوح وعشيرته , و ذراري من نجا معه في السفينة , اما الاكديون فهم ذرية نوح المباشرة .
ان ابحاثاً عراقية حديثة تشير الى رسو سفينة نوح في ارض النجف , وهو امر يؤيده انشاء نوح للمجتمع الاول في تلك الانحاء , وذلك يخالف آراء اليهود والمستشرقين بان المقصود بجبل ارارات التوراتي مرتفع ما في تركيا او ارمينيا , فما الذي دعا نوح ان يتوجه جنوبا لانشاء مجتمعه حينها ؟ .
يقول العلامة والباحث سامي البدري “، إن “هناك معلومات تم الحصول عليها في وثائق مسمارية باللغة السومرية والأكدية تؤكد أن سفينة نوح قد رست في النجف، مبينا أن النص المدون في اللوح الحادي عشر السطر ١٣٨ و ١٣٩ في ملحمة كلكامش يقول ( أمسك جبل بلاد نصر بالسفينة ولم يدعها تتحرك ) , واسم السفينة كان ( ناصرت نبشتم ) بمعنى ( حافظة الحياة ) , ويقابل الفعل ( يحفظ ) سومرياً كلمة ( حار , حير ) , وبالتالي تكون الجملة بالسومرية ( امسك جبل بلاد الحير بالسفينة ) , ومن ثم اخذ المكان لاحقاً اسمه من قداسة الموقف فصار ( الحيرة ) , الاسم الذي اختزنته الذاكرة العراقية , وهو ما يوافق ما جاء في الرواية : ( عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله ( عليه السلام ): ” استوت على الجودي ” هو فرات الكوفة ) .
وأوضح البدري أن كلمة نصر أكدية وتعني الحفظ ويقابلها بالسومرية حير وحار ويعني أمسك الجبل ، والنجف هي جبل الحيرة , مضيفا أن النص العبري يقول استقرت السفينة على جبل آرارت وهي كلمة بقيت مبهمة “.
وأضاف البدري ” اكتشفنا أن اللفظة تتألف من كلمتي ار واراد ، وأن أراد هو نهر الفرات ، وتشير إلى النجف والكوفة ، ولا تشير إلى تركيا ” . وقد عضد رأي البدري باحث اكاديمي آخر , أنه لاحظ من خلال تحليلات التربة والأدلة الآثارية أن الطوفان حدث بارتفاع 70 مترا، الأمر الذي يشير إلى أن منطقة الخليج العربي كانت يابسة عندما حدث الطوفان، وارتفعت المياه عن مستوى موقع الخليج العربي إلى 70 مترا , مبينا أن هذا الارتفاع معناه أنه يمتد إلى أعلى نقطة في جنوب العراق وهي منطقة طار النجف “.

ان القرآن الكريم يوضح لنا مدى التغير الجذري في مجتمع نوح ( بعد الطوفان ) , والذي جعل الله تعالى يباركهم ويجزل نعمته عليهم :} قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } (سورة هود: ٤٨) . وكانت النتيجة الطبيعية ان يكون هؤلاء هم ورثة المشروع الالهي الايماني : } فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } (سورة يونس: ٧٣) .

انّ الولاية التكوينية بحسب المعنى اللغوي تعني انّ للمعصوم جهة قرب من القضايا والأمور الكونية ، بحيث تكون له السلطنة على إحداثها وتكوينها .
كما انّ هذا التعدد الهائل في ( المخلوقات ) المشرفة على كل شيء وكل حدث في الكون افراط واضح يزيد عن التصورات الذهنية القائمة على الحاجات النفسية للشعوب الوثنية ، التي افترض كريمر انّ السومريين منهم ، حيث يكاد يكون لا نهائي ، وهو امر يصعب تصديق انّ السومري المتحضر يؤمن به . لكن الحقيقة انّ المعتقد السومري كان يؤمن ويفكر بما تؤمن وتفكر به الديانات الإبراهيمية من نظام ( الملائكة ) . وقد قرّر الفيلسوف اليوناني الأول ( طاليس ) – وهو ممن اخذ عن العلوم السومرية – ذات المبدأ حين قال : ( ان العالم مملوء بالآلهة ) , بمعنى ( الملائكة ) دينيا , و ( القوانين الكونية ) فيزيائيا .
عن تفسير القمي : ( سئل الصادق عليه السلام : هل الملائكة اكثر ، ام بنو آدم ؟ فقال : والذي نفسي بيده ، لملائكة الله في السماوات اكثر من عدد التراب في الارض ، وما في السماء موضع قدم الّا وفيه ملك يسبّحه ويقدّسه ، ولا في الارض شجرة ولا عودة الّا وفيها ملك موكل بها ، يأتي الله كل يوم بعملها ، والله اعلم بها ، وما منهم واحد الّا ويتقرب الى الله كل يوم بولايتنا أهل البيت ، ويستغفر لمحبينا ، ويلعن اعدائنا ، ويسألون الله ان يرسل عليهم العذاب إرسالا ).
وكما هو جلي من هذه الرواية انّ الملائكة تعمل كقوانين حاكمة في الموجودات ، وهي ذاتها تقوم في وجودها على ولاية الأئمة المعصومين ، بمعنى هو ذاته التقسيم السومري لتراتبية الموجودات العليا . فيما يكون للمعصومين ذاتهم تراتبية خاصة ، تبتدأ برسول الله ، ثم علي بن ابي طالب ، ثم باقي المعصومين .
وما يؤكد قرائتنا هذه وجود ( نينخورساج = الام ) التي هي ( ننماخ = السيدة المجيدة ) , والتي يسميها السومريون ( ننتو = السيدة التي انجبت ) حيث والدة جميع ( الآلهة ) . وقطعا سيتبادر الى ذهن علماء وفلاسفة الامامية اليوم ( السيدة فاطمة الزهراء = سيدة نساء العالمين ) , والتي كانت مصدرا لانوار ( الائمة ) الموكلة اليهم ( الولاية التكوينية ) , ولعل ما جاء في ( الاسرار الفاطمية ) نقلاً عن ( البحار ٤٣ \ ١٠٥ ) مؤيداً لمذهبنا هذا : ( قال الصادق عليه السلام : وهي الصدّيقة الكبرى ، وعلى معرفتها دارت القرون الاولى ) , وبنفس المعنى بيت للشيخ المجتهد ( محمّد حسين الأصفهاني ) في قصيدته (الأنوار القدسيّة ) : ( وحــــبها مـــن الصفات العاليـة * عليــه دارت الـــــقرون الخاليـة ) .
( امّا بالنسبة لأسلوب الخلق الذي عزي الى تلك الآلهة ، فان فلاسفتنا السومريين طوروا مبدءاً صار فيما بعد عقيدة في أنحاء الشرق الأدنى كافة ، وهو مبدأ القوة الخالقة الكامنة في الكلمة الإلهية . فكل ما كان على الاله الخالق ان يفعله ، وفقا لهذا المبدأ ، هو ان يضع خططه وينطق بالكلمة ويعلن الاسم . وربما كانت فكرة القوة الخالقة للكلمة الإلهية نتيجة لاستنتاج قياسي مأخوذ من ملاحظة المجتمع البشري ايضا ، فإذا كان باستطاعة ملك من البشر إنجاز كل ما يريده تقريبا بمجرد الامر ، اي بشىء لا يزيد فيما يبدو على كلمات تصدر من فمه ، فلا شك ان إمكانية القيام بذلك كانت اكبر بالنسبة للآلهة الخالدة التي كانت فوق البشر ومسؤولة عن عوالم الكون الأربعة . ولكن ربما كان هذا الحل (( السهل )) للمشاكل المتعلقة بأصل الكون ، حيث الفكرة والكلمة وحدهما مهمتان جدا ، انعكاسا على الأكثر للحافز البشري باللجوء في تحقيق الرغبات المفعمة بالامل الى مجرد الرغبة في أوقات الضيق والمحنة ) .
وبعيداً عن تفسير كريمر للمعتقد السومري ، نجد انه انطباق تام للمعتقد الابراهيمي الذي ذكرناه . ولا يمكن القول انّ الأديان الإبراهيمية – المتأخرة نسبياً عن الحضارة السومرية زماناً – كانت قد وجدت تلك الرقم والألواح الآثارية التي عثر عليها كريمر ، او انّ هذه المعتقدات قد انتقلت اقتباساً لهذه الحضارات الدينية ، فيلزمنا حينئذ القول بأنّ الامة السومرية قد اخذتها عن غيرها ايضاً ، وربما عن نفس المصدر الذي اخذتْ عنه هذه الأديان ، فلا دليل لدى كريمر على ابتداع السومريين لهذا المعتقد ، بل جلّ ما لديه انهم آمنوا به . ولعلّ النص ( بعد أن انزلت … الملكية من السماء ، وبعد ان انزل التاج والعرش الخاصان بالملكية من السماء ، اكمل رسوم العبادات والنواميس الإلهية ، وأسس المدن الخمس في مواضع طاهرة ، وسماها بأسمائها وخصصها كمراكز للطقوس والعبادات ) يؤيد هذا الافتراض كثيراً ، باعتبار ان السومريين يكررون باستمرار انّ حضارتهم – بمتبنياتها – هبة الالهة .
لقد ورد في الكتاب المقدس قوله ( في البدء خلق الله السماوات والأرض * وكانت الارض خربة وخالية ، وعلى وجه الغمر ظلمة ، وروح الله يرفّ على وجه المياه * وقال الله : ” ليكن نور ” ، فكان نور ) .

في أجواء العقل التوحيدي هذا نشأت الحوزة العلمية الدينية في العراق , في مدن مختلفة , منها الكوفة وبغداد والحلة والنجف وكربلاء . وانتقل اليها الإرث التوحيدي , بالمباشرة , وبالنص عن الامام .
ان اهم التغيرات التي اعقبت نوح عليه السلام و اثّرت في مجتمعه الايماني هي الزيادة السكانية العالمية المتفجرة بصورة مطردة , وكحالة طبيعية كانت نسبة الخط الانحرافي في توسع . لذلك كان من الطبيعي والحتمي – بناءا على التخطيط الإلهي العام لهداية البشرية – ظهور شخصية مثل ابراهيم النبي بكل ما يرسم لها القرآن الكريم من ابعاد , وتفترق عن الشخصية القيادية لنوح النبي لاختلاف المهام المناطة بكل واحد منهما .
من الأسباب التي يمكن أن يقام على أساسها التغيير في النبوة، هو أن تكون الرسالة التي هبطت على النبي محدودة باعتبار محدودية نفس النبي، وإن كان مفهوماً عاماً، إلا أن هذا المفهوم العام على ما يقول المناطقة، يصدق على أفراده بالتشكيك. هناك على ما تقول الروايات نبي للبشرية، ونبي للقبيلة، وهناك نبوات تختلف من حيث السعة والضيق باختلاف طبيعة النبي نفسه، باعتبار مستوى كفاءة القيادة الفكرية والعملية في شخص النبي .
{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ } * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ( الصافات ٧٥ – ٨٤ ).
ان الارث الذي خلفه المجتمع الايماني الاول – الناتج عن تربية نوح النبي – والذي جعل المجتمع العراقي مجتمعا مدركا لابعاد التوحيد , رغم التطور الانحرافي الطبيعي , ان هذا الارث الفكري والرسالي خلق شخصية رسالية جديدة ذات همة عالية جدا , و تمتلك الارضية المناسبة عقليا لمعاني توحيدية ارقى , لذلك كانت النتيجة المتوقعة : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } ( الانعام ٧٥ ) . فاتم ابراهيم اشواطاً ادراكية لم تتسنَ لنوحٍ من قبل : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ } ( الأنبياء ٥١ ) .

يرى الكثير من كتّاب التأريخ والمفسرين ان ابراهيم خرج من اور لان اهلها مشركون , وهو ظلم وتجني بحق تلك الاقوام وبحق ابراهيم , فان ابراهيم كان من الواجب عليه قبل كل شيء ان يحاول هداية قومه اولاً , وهذا هو ديدن الرسل , بل الخط الرئيس للبعثات السماوية المتكررة . ان خروج ابراهيم كان ناتجا عن شيئين :
١ – مهمته الايمانية الاصلاحية التوسعية الجديدة
٢ – اطمئنانه لامكانية عودة المجتمع العراقي لحظيرة الايمان في أي وقت , بسبب الارث والارتكاز العقائدي في هذا المجتمع .
وإذا اعتبرنا آدم وإبراهيم من الأنبياء المرسلين ، المكلفين من الإله الكبير الخالق الأزل ، فأنه يمكن أعتبار الدين السومري بمثابة ( الدين الإصلاحي الأول ) للبشر ، ونستطيع أن نستدل على تأثير تلك الديانة في المجتمع السومري وما يجاوره ، من خلال ذلك الأرث الحضاري المتنوع الذي وصلنا ، بالإضافة الى ما أنتجته المؤسسة الدينية من تأثير على الإنسان وعلى العلاقات الداخلية والخارجية للمجتمع ، وبعد أن كان المجتمع قبلها يعاني من عدم نضج المؤسسة الدينية ( وفق نظرة روحية تتعلق بالعلاقات الدينية للإنسان ) ، وعدم تبلور ملامح وترابط وانسجام تلك الأفكار الدينية ، تم ترتيب الانسجام والتكامل بينها بالشكل الذي وصلنا وتميز عن غيره من الأنظمة من النواحي المثولوجية أو اللاهوتية أو الطقسية .
وكان واضحا ان مجادلة ( عبدة الاصنام ) لابراهيم لم تكن عن قناعتهم بقدرات هذه الاصنام , بل هم كانوا يعبدونها لتوارث تقديسها عند اسلافهم , الذين اسسوا الحضارة الاولى , وهذا ما عبرنا عنه سابقا بتأثير ( الغلو ( ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ ) ( الأنبياء ٥١ – ٥٣ ) , ( قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قالوا بَلْ وجدْنا آباءَنا كذلِكَ يَفْعَلون ) ( الشعراء ٧٢ – ٧٤ ) .
ان هجرة ابراهيم النبي هنا ليست بمعنى ( ترك ارض الآباء الى بلاد اخرى ) , بل هي تلك الهجرة المنتجة بالمعنى الذي تناوله ( علي شريعتي ) . انها هجرة التغيير والبناء , كالتي قام بها نبي الاسلام ( محمد ) صلى الله عليه و آله . لذلك كان ما بعد الهجرة الابراهيمية غير الذي كان قبلها . (( فآمنَ لَهُ لوط و قالَ إنّي مهاجر إلى ربّي )) ( العنكبوت ٢٦ ) .
في الفترة التي اعقبت مجيء ابراهيم الى شمال العراق ظهرت في فارس الديانة الزرادشتية القريبة جدا من التوحيد . واصبحت الارض الآشورية ملامسة لكل الديانات التوحيدية اللاحقة , وبصورة مثيرة للتساؤل , حتى انها كانت احدى الاسباب الرئيسية لانهيار خط الانحراف الاساسي الذي طرأ على الديانة الابراهيمية من خلال انحراف بني اسرائيل , والذي مهد لظهور المسيح عليه السلام .
ارسل إبراهيم خادمَه إلى بلاد ما بين النهرين ليختار لابنه اسحق زوجة من لابان الذي هو من عائلة زوجته سارة ، ان اختيار ابراهيم زوجة عراقية ( من قومه ) ومن عشيرة زوجته ( سارة ) , على نحو من الاصرار يكشفه الكتاب المقدس , يدل دلالة واضحة ان ابراهيم كان يسير ضمن منهج تربوي ايماني , يُريد فيه – بالاضافة الى الكفالة الصالحة لولده – ان يزيد من تواجد الثلة الصالحة في الاراضي الجديدة , وبالتالي يزداد التأثير الايماني في المنطقة , عبر مجموع المهاجرين العراقيين , الذين حملوا معهم الارتكاز الايماني للمجتمع الاول , وكذلك المستوى العقلي المناسب لمحاججة الاقوام المحيطة . و ما يؤكد ذلك ان ( اسحق )عليه السلام سار على ذات المنهج في تزويج ابنه ( يعقوب النبي ) ، فقد عاش اسحق قليلا بعد ذلك وقد تم إرسال يعقوب إلى بلاد ما بين النهرين ليأخذ لنفسه زوجة من عائلته : ( ثُمَّ رَفَعَ يَعْقُوبُ رِجْلَيْهِ وَذَهَبَ إِلَى أَرْضِ بَنِي الْمَشْرِقِ. 2 وَنَظَرَ وَإِذَا فِي الْحَقْلِ بِئْرٌ وَهُنَاكَ ثَلاَثَةُ قُطْعَانِ غَنَمٍ رَابِضَةٌ عِنْدَهَا، لأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ يَسْقُونَ الْقُطْعَانَ، وَالْحَجَرُ عَلَى فَمِ الْبِئْرِ كَانَ كَبِيرًا. 3 فَكَانَ يَجْتَمِعُ إِلَى هُنَاكَ جَمِيعُ الْقُطْعَانِ فَيُدَحْرِجُونَ الْحَجَرَ عَنْ فَمِ الْبِئْرِ وَيَسْقُونَ الْغَنَمَ، ثُمَّ يَرُدُّونَ الْحَجَرَ عَلَى فَمِ الْبِئْرِ إِلَى مَكَانِهِ.4 فَقَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: «يَا إِخْوَتِي، مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ؟» فَقَالُوا: «نَحْنُ مِنْ حَارَانَ». 5 فَقَالَ لَهُمْ: «هَلْ تَعْرِفُونَ لاَبَانَ ابْنَ نَاحُورَ؟» فَقَالُوا: «نَعْرِفُهُ». 6 فَقَالَ لَهُمْ: «هَلْ لَهُ سَلاَمَةٌ؟» فَقَالُوا: «لَهُ سَلاَمَةٌ. وَهُوَذَا رَاحِيلُ ابْنَتُهُ آتِيَةٌ مَعَ الْغَنَمِ». 7 فَقَالَ: «هُوَذَا النَّهَارُ بَعْدُ طَوِيلٌ. لَيْسَ وَقْتَ اجْتِمَاعِ الْمَوَاشِي. اِسْقُوا الْغَنَمَ وَاذْهَبُوا ارْعَوْا». 8 فَقَالُوا: «لاَ نَقْدِرُ حَتَّى تَجْتَمِعَ جَمِيعُ الْقُطْعَانِ وَيُدَحْرِجُوا الْحَجَرَ عَنْ فَمِ الْبِئْرِ، ثُمَّ نَسْقِي الْغَنَمَ».
9 وَإِذْ هُوَ بَعْدُ يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ أَتَتْ رَاحِيلُ مَعَ غَنَمِ أَبِيهَا، لأَنَّهَا كَانَتْ تَرْعَى. 10 فَكَانَ لَمَّا أَبْصَرَ يَعْقُوبُ رَاحِيلَ بِنْتَ لاَبَانَ خَالِهِ، وَغَنَمَ لاَبَانَ خَالِهِ، أَنَّ يَعْقُوبَ تَقَدَّمَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنْ فَمِ الْبِئْرِ وَسَقَى غَنَمَ لاَبَانَ خَالِهِ ) .
واراد إبراهيم بذلك كله نشر اهل التوحيد من العراقيين في العالم , لينشروا بدورهم العقيدة الإلهية , وكأنما هو يهيئ اهل العراق للوظيفة الدينية العالمية .
وتتلخص المهمة الدينية النجفية بما كانت عليه الوظيفة الدينية الابراهيمية . وهذه المهمة الشاقة هي زيادة نسبة المجموعة المؤمنة و توسيع رقعة الوسط الايماني ودفع الهالة الايمانية نحو آفاق جديدة واراضي بعيدة , عبر الهجرة الملحمية لابراهيم , لم تكن بالمهمة اليسيرة , خصوصا وانه غيّر عقائد ملوك , وزرع بذور الايمان في شعوب عديدة , و نمّا الجذوة الايمانية في نفوس اقوام كادت تنطفئ فيها . وبذلك مهّد ابراهيم النبي لنشوء الديانات التوحيدية الكبرى .
وكل ذلك من خلال : ١ – توفير عدد اكبر من افراد المجموعة المؤمنة .
٢ – توسيع رقعة الوسط الايماني , من خلال تنقية الشوائب التي اصابت الوسط السابق الذي توسع تلقائيا , وخلق وسط جديد اكبر .
٣ – دفع الهالة الايمانية لاعماق ابعد .
٤ – التمهيد لنشوء الديانات التوحيدية الكبرى لاحقا , وقلب المعادلة لانتاج مجتمع ايماني يفوق المجتمع غير الايماني عددا .
٥ – تحقيق نظرية المجتمع الايماني البديل , عبر ولده اسماعيل الذي استوطن الجزيرة العربية , لتأمين حركة الرسالة في حال انحراف المجتمع الايماني القائم ( مجتمع بني اسرائيل ) .
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } ( ال عمران ٦٨ ) ، لان ابراهيم يُدرك جيدا ان الانسان مخير لا مسير , وان المجتمعات الايمانية قابلة للانحراف , كما حدث مع المجتمع الايماني السابق : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } ( الحديد ٢٦ ) .
لقد نقل الهكسوس من العموريين وحلفائهم الكنعانيين مجاميع عديدة من السومريين الى ارض مصر , مما سمح لاحقا بتغيّر فكري واعتقادي كبير , تكفل به الزمن . ومما يؤيد ذلك ان سكان مصر الفرعونية كانوا من ( الكوشيين والزنوج ) , لكن بعد الهكسوس بدا واضحا تواجد العنصر السامي الرافديني في مصر . الواقع ان الهكسوس قد قضى عليهم جملة في مصر بوصفهم أمة حاكمة على يد الملك احمس الاول ، وليس معنى انه قد قضى على نفوذهم الثقافي في البلاد .

كان الفراعنة بعد الهكسوس اقوى لسببين , انهم عرفوا العربة الحربية من الهكسوس وانهم اسقطوا اهم القوى المنافسة في المنطقة , فكان على بني اسرائيل ( يعقوب ) ان يدفعوا ثمن علاقتهم بالهكسوس , فاستعبدهم الفراعنة واذلوهم . وتوفرت في بني اسرائيل صفتان مهمتان يحبهما الشيطان هما : ( الانا ) و ( امراض الاستعباد النفسية ) , فتأثروا كثيرا بشريعة الكابلا المصرية , ووجدوا فيها ضالتهم ,وكذلك وجد الشيطان جنودا ورجالا كان يبحث بجهد عن مثلهم . وهذا ما يراد تطبيقه اليوم في المنطقة الإسلامية .
لقد خرج موسى من ذلك العالم الفرعوني المظلم بعد ان : ( وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) ( القصص 20 ) . لكنه لم يجد جوهر ما يبحث عنه عقله بعد , (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( القصص 21 ) . فاخلص وجهه للخالق الحق والرب الحقيقي , (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ) ( القصص 22 ) . فكان عند هذه المرحلة بحاجة الى موجه ناصح , من الارض التي لازالت تحت تأثير التوحيد الابراهيمي , فكان : (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) ( القصص 23 – 28 ) .
بعد هذه المرحلة الاجتماعية الابراهيمية اصبح موسى جاهزا لدخول عالم النور : (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) ( القصص 29 ) , فنودي : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ ) ( القصص 30 ) , لكن موسى كان بحاجة ليميز مفهوم ( الله ) , لما رآه من تلاعب فرعوني في الآيات التكوينية , فجاءه النداء المعرّف ( رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( القصص 30 ) .
( وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ) ( القصص 31 ) , ان هذا المشهد كان مألوفا لدى موسى , حيث يظهر الجن للفراعنة , من خلال طقوسهم . ان التعبير القرآني : ( رآها تهتز كأنها جان ) , كان دقيقا جدا , ومتعمداً لتوصيف حقيقة الجن المعتمدة على ظاهرة الموجات وتردداتها الاهتزازية , فهي رسالة لنا , اي للمستقبل , وهنا جوهر لعبة الطاقة الشيطانية القائمة اليوم , وهي اساس وجود مستقبلات الطاقة كالاهرامات والمسلات وغيرها في عدة حضارات وثنية .
خشي موسى في نفسه ربما ان يكون داخل العالم الفرعوني حتى الآن , فكان بحاجة الى الطمأنينة الربانية : ( يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ) ( القصص 31 ) , ( يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ( 10 ) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ( 11 ) ) ( النمل ).
وفي مرحلة لاحقة في طريق الهجرة سأل موسى آخر اسئلته التنويرية الكبرى واتاه الجواب : { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } ( الأعراف143) , فاصبح جاهزا الان لتلقي شريعة الرب , وان يعلمها قومه في مرحلة لاحقة :{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } ( الأعراف145) .
ان فرعون مثل أولئك السحرة بدأ يشك بالله الخاص به , وصار يتأثر بصورة الله التي طرحها موسى , لكنه اختار الطريق الخاطئ للتأكد من ( الله ) الحقيقي , حيث قال : ( فاوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلّي اطّلع الى اله موسى ) ( القصص 38 ) , ( يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي ابلغ الأسباب ) ( غافر 36 ) , اذ سلك نفس طرق الكبالا الفيزيائية والكونية للوصول للخالق , والتي خدع بها الشيطان ابائه . وفرعون لم يكن ذلك الساذج الذي تصوره بعض الكتابات , بل كان يريد المعرفة , لكنه استكبر ان ينزل الى طريق موسى الذي جاء من وسط العبيد , فاصرّ على سلوك طريق ابائه في المعرفة , وهو رغم كونه طريقاً علمياً ضخماً جدا , الا انه ببساطة هالة ضخمة من الخداع .
ان مقدار المعرفة الذي يمتلكه فرعون كان كبيرا جدا بكل المقاييس البشرية , فالله تعالى يقول : ( وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ) ( طه 56 ) , ومن رأى الآيات كلها – وهي خارقة للطبيعة المنظورة – كان بالتأكيد يعرف الكثير , لكن العقلية التي نشأ عليها فرعو ن جعلته يظن ان ما يراه هو ذاته ما يمكن ان تحققه له الشياطين , والتي ارته سابقا الكثير من الآيات الكونية , وراح يعتقد ان ما جاء به موسى هو جزء من ذات العالم الذي يتواصل معه الفرعون , فتوجه الى موسى: ( قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى . فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ) ( طه 57 – 58 ) .
من هنا تكون القيادة محور النجاة في كل معضلة , على ان تكون قيادة متحركة , مبدعة , تنتقل بالدواء الى أبنائها . ولو ترك موسى بني وإسرائيل وما هم عليه لما نجا منهم احد .
لقد كان ليوشع بن نون الاثر الكبير في انتقال بني اسرائيل من عصر التيه الى عصر معرفة الرب , ويبدو جليا ان موسى النبي كان يدرك ان وظيفته تقتصر على نقل بني اسرائيل من عصر الاستعباد والانخداع الى عصر التيه , والتيه كان ضروريا كفترة زمنية يتم خلالها سحق الصور الانحرافية التي جاء بها العقل الاسرائيلي من الممارسات الفرعونية . لذلك قام موسى بامر الله على تهيئة وصيه يوشع بن نون , الذي تمتع بالصفات المناسبة للقيادة , والتي تم صقلها , فادّى يوشع مهمته الربانية احسن الاداء , وهزم الاقوام الوثنية من العماليق والكنعانيين , وقسم الارض بين اسباط بني اسرائيل , ونظم مجتمعهم ووضع اسس قيام الدولة التوحيدية الاولى . جاء في الكتاب المقدس : ( قضاة 2: 7 وعبد الشعب الرب كل أيام يشوع وكل أيام الشيوخ الذين طالت أيامهم بعد يشوع الذين رؤوا كل عمل الرب العظيم الذي عمل لإسرائيل ) . وهناك رأي آخر يقول بان دخول الاسرائيليين ارض كنعان كان على فترات زمنية متباعدة نسبيا , وان دور يوشع كان يقوم على اعادة هيكلة المجتمع الاسرائيلي فقط , وبالتالي كان سبب استيطان ارض كنعان هي الهجرة القبلية والازاحة السكانية .
وكان دور علي بن ابي طالب قريباً من ذلك , وكانت الحوزة العلمية الدينية الوارثة لعلي تلعب نفس الدور التأسيسي في صيانة عقيدة الامة ووقاية مبادئها وتقديس دمائها .
بعد خروج اليهود من فلسطين ظهر فيهم مفهوم جديد , هو ( الثنائية الاعتقادية والاجتماعية ) . فقسم منهم التزم شريعة موسى وآبائه , وآمن بالرب الذي وصفه موسى لهم من خلال شريعته , والقسم الآخر ظلت ترتكز في ذهنه صورة الرب المصري المادي ( الخفي ) . من هنا نشب الصراع بين الكهنة والانبياء , وكلاهما كانت له شعبيته ونفوذه . وقد استمرت هذه الثنائية في المجتمع الاسرائيلي حتى توسع الانقسام وانفصل المجتمعان . واليوم فمصطلح اليهود يشير الى المجتمع الاسرائيلي الذي اتبع الكهنة , والذي يعتقد بالاله المصري . اما المجتمعات اليهودية التي احتفظت ببعض العقائد النقية فقد انعزلت في تجمعات خاصة في الشرق الاوسط .
وهذه الثنائية هي التي تفسر لنا ما عاناه الانبياء ( ارميا و اشعيا ودانيال ) داخل المجتمع الاسرائيلي , حيث تم سجن ونبذ الآخر , فيما كان اليهود السبب الرئيس في قضية صلب المسيح عيسى عليه السلام . ولكن كان يهود السبي في ( آشور ) من اول المؤمنين بالمسيح , في القرن الاول الميلادي , وساهموا في قيام المسيحية النسطورية , التي تعتبر احدى انقى الفرق المسيحية تاريخيا من ناحية الاعتقاد .
وهذا ما مر على الامة الإسلامية نتيجة دنيوية الخلفاء والولاة , ثم الاحتلال الأجنبي لأراضي المسلمين . وانتشر الجهل , فكان لزاماً على الحوزة العلمية الدينية مواجهة الأثر المادي الناشئ عن الجهل والسياسة السلطانية , والشبهات المادية التي صنعها الفكر الغربي الفرعوني الأصل .
ان بني اسرائيل زاد فيهم الانحراف وعانى بينهم الانبياء ,وقد صاروا بابا للفساد بعد ان كانوا بابا للإيمان , ولعل الاعتقادات التي نشأت في مجتمعهم بشكل مغلوط ناتجة عن الترسبات الفرعونية في العقلية الاسرائيلية , فمثلا { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }( القرآن الكريم ، المائدة، 64 ) , لا يمكن ان نتصور ان تعاليم ابراهيم او موسى تضمنت هذه المغالطة في عزل القدرة الالهية عن التصرف في الخلق , لكننا لو تأملنا المعتقدات الفرعونية والكبالية سوف نجد اصلا لمثل هذه المعتقدات التي تتجلى اليوم في العقيدة ( الماسونية ) التي تشبه ما كان يجريه المصريون وهي عين ما يعلّمه العبرانيون وما يجرونه , فكان من الضروري ان يبعث الله فيهم نبيا قويا يقوم بسلب الراية الايمانية من ايديهم قبل تمزيقها , ويسلمها الى مجتمع نقي قادر على حملها ,ولان الله تعالى الرحيم الحكيم والرؤوف بخلقه فقد اعد مجتمعا اخر في شبه الجزيرة العربية بعيدا عن تأثير سموم بني اسرائيل الشيطانية المخلوطة والمغطاة بالدين ,هو المجتمع السبأي ( مملكة سبأ ) ومنهم قبيلة ( جرهم ) احفاد نبي الله هود عليه السلام , وهو مجتمع يتضمن خصلة فريدة واساسية : ( الاخلاق ) , والتي يأتي الدين ليتممها , كما عبر الرسول صلى الله عليه واله .
ولاداء هذه الوظيفة كان لابد ان يكون هذا النبي حاكما ملكيا , لماذا ؟ , لان بني اسرائيل لم يعودوا روحانيين بل ماديين , جل ما يبهرهم النفوذ والقوة . كما ان مهمة هذا النبي لن تكون سهلة , لماذا ؟ لان بني اسرائيل فتحو طرق الارض امام عبور الشياطين ( وَأَقْتَرِبُ إِلَيْكُمْ لِلْحُكْمِ، وَأَكُونُ شَاهِدًا سَرِيعًا عَلَى السَّحَرَةِ وَعَلَى الْفَاسِقِينَ وَعَلَى الْحَالِفِينَ زُورًا وَعَلَى السَّالِبِينَ أُجْرَةَ الأَجِيرِ : الأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ، وَمَنْ يَصُدُّ الْغَرِيبَ وَلاَ يَخْشَانِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُود ) , حتى صار ظهورها امرا مألوفا , بعد ان كانت حكرا على طقوس مغلقة لدى الفراعنة . من هنا لابد لهذا النبي الجديد من ملك وسلطة لا تنبغي لاحد غيره , يغلق بها منافذ اختراق الارض , فكان ( سليمان ) النبي عليه السلام ضرورة المرحلة الإسرائيلية والتوحيدية تلك . وقد مهد الله تعالى له الامر عندما ابهر اباه بني إسرائيل بقتل جالوت عملاق الجيش الفلسطيني المعادي لهم والذي جبنوا عن مواجهته , فقتل داوود جالوت , واختاره بنو اسرائيل ملكا , ( وورث سليمانُ داوودَ ) ( النمل 16 ) .
وحين فقدت ارض الحجاز قدرتها على مواجهة المد الصحراوي اختار الله ارض العراق منطلقاً بديلا , لما يتمتع به العراق من خصوصية توحيدية . فكان انتقال اهل البيت بولايتهم المعصومة اليه بداية الاذن بقيادة المنهج التوحيدي .
جاء عيسى عليه السلام وأحوال بني إسرائيل في غاية من الفساد والإفساد. فعقائدهم قد طمست، وأخلاقهم قد رَذُلَتْ، وسيطرت عليهم المادية، حتى إنهم اتخذوا من المعبد سوقاً للصيارفة والمرابين، وملهىً لسباق الحمام.
(21: 12 و دخل يسوع الى هيكل الله و اخرج جميع الذين كانوا يبيعون و يشترون في الهيكل و قلب موائد الصيارفة و كراسي باعة الحمام 21: 13 و قال لهم مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى و انتم جعلتموه مغارة لصوص ) متى .
فأخبرهم بأن العقوبة الثانية قادمة إليهم على إفسادهم الثاني : ( يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوَذاَ بيتكم يترك لكم خراباً ) .
توجه المسيح عيسى عليه السلام الى الهيكل , وهو رمز بني اسرائيل في اورشليم , ليعلن ذلك الاعلان الاخير في بني اسرائيل ، هنا حانت اللحظة , واعلن المسيح عليه السلام ذلك ( الاعلان العالمي ) :(21: 43 لذلك اقول لكم ان ملكوت الله ينزع منكم و يعطى لامة تعمل اثماره ) متى ، نعم تم نزع ملكوت الله منهم , وتم نقله الى امة تعمل من اجل ثمرة التوحيد النقية الطيبة .
والأمة التي اختارها سليمان كانت هي الامة السبئية , فيما اختار عيسى الامة العراقية , ليكونا هما وريثا التشيع , ولتكون الحوزة العلمية الدينية فيهما حقا .
( عن مجالد عن أبي الوداك قال: قال أبو سعيد: هل تقر الخوارج بالدجال؟ قال: قلت: لا. فقال: قال رسول الله : إني خاتم ألف نبي أو أكثر، وما بعث الله نبيا يتبع إلا وحذر أمته منه، وإني قد بين لي فيه ما لم يبين لأحد منهم، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخامة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تدخن ) .
جاء في الروايات الاسلامية ما مضمونه : ( ليس ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة أمر أكبر من الدجال ) . ولمعرفة ورثة الدجال في عصرنا الراهن والمتعبدين بشريعته يكفينا ان ندرس الصفات التي ذكرتها الاديان حوله : ( تطوى له الأرض ) , ( تسير معه الشمس ) , ( يخوض البحار ) , ( أعور العين ) , ( لم تكن فتنة في الأرض أعظم من فتنة الدجال ) , ( أكثر عسكره أصحاب التيجان او اليهود وأولاد الزنا ) , ( يأمر السماء أن تمطر فتمطر, ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت ) , ( مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ) , ( يجيء معه مثل الجنة والنار ) . ورأيي انه من السذاجة ان نرى تلك الاوصاف غير رموز تناسب عصر صدورها لظواهر اجتماعية عالمية كافرة، في الحضارة المادية الغربية الراهنة , والتي تقودها عوائل البنوك من آل روتشيلد و آل روكفلر , ابرز اعضاء محافل الماسونية الوارثة لشريعة الفراعنة الشيطانية . لذلك كان من اخطر أدوار الحوزة العلمية الدينية مواجهة المد الشيطاني المادي .
لقد قرر سليمان النبي انْ يختار المجتمع السبئي وريثاً رسالياً لما له من عادات واخلاق إنسانية راقية , بغض النظر عن العقيدة المؤقتة التي يكون عليها هذا الشعب , فهو يرجع في نسبه الى ( هود ) النبي , كما انه يمتد من جنوب العراق حتى اليمن وبذلك هو يرث ايضاً العقل السومري , ويسيطر على جزء كبير من التجارة الدولية التي تعطيه فرص اكبر للحركة التبليغية , كما انه يتمتع بمساحة حريات كبيرة دلّ عليها النص القرآني الذي تناول هذه القصة , بالإضافة الى تمتعهم ببأس شديد فردياً وجماعيا , الامر الذي يوفّر الحماية اللازمة لعقيدة التوحيد بعد انهيار المجتمع الإسرائيلي .
وليست مملكة سبأ هي وحدها من تداخلت مع عالم الاراميين في الشمال في العراق وسوريا ، بل هناك ممالك هي أسفل منها ، وأحياناً تتبع لها مثل ( قتبان ) التي نظمت القوانين على شكل مسلة شبيهة بالمسلات القانونية العراقية وسكّت النقود بالخط الآرامي . حتى ان الحكام القتبانيين والسبئيين حملوا لقب مكرب طيلة قرون حكمهم ، لكن عند سقوط بابل على يد الفرس عام ( 539 ق م ) بدأ اللقب يتغير إلى ملك . ويرى الأستاذ طه باقر ان العرب الشماليين اخذوا خطهم من الأنباط ، والخط النبطي شكل من أشكال الخط الآرامي . وهو أصل الخط العربي الشمالي بجميع أطواره . وقد كان عمر بن الخطاب يظن ان اخر ارض العرب هي البصرة ثم تبتدأ ارض العجم ، وهم النبط ، لشدة اختلاط العرب بالنبط بعد ذلك .
كانت المنطقة التي ينتشر فيها السبئيون العرب ضمن إقليم سلالة القطر البحري العراقية . وسلالة القطر البحري نشئت في جنوب بلاد بابل على سواحل الخليج جنوب العراق ، وسميت بالقطر البحري لانها كانت مطلة على سواحل الخليج متداخلة في اهوار العراق . نشئت بعد ثورة في سومر قادها ايلوما ايلو وألذي كان أول ملوكها ضد سمسو إيلونا وألذي كان ابن حمورابي . وحكمت هذه السلالة من 1732-1460 ق م وظهرت أسماء هؤلاء الملوك في قائمة الملوك الآشورية بأسماء أكدية . وحين نزل خالد بن الوليد ارض الأنبار وجد أهلها عرباً يكتبون بخط أياد نزلوها ايّام بختنصر . وكما هو واضح فان ( برخيا ) اعترف انّ ما هم عليها من الأرض ( بلادهم ) , وليس من السهل ان يُقال مثل هذا في حضرة ملك عراقي , وهو الامر ذاته الذي يفسّر كيف اقام ( المناذرة ) وهم من الازد السبئيين مملكتهم في جنوب العراق لاحقاً دون ان يعتبر احد من العراقيين هذا الامر احتلالاً كما اعتبروا مملكة الفرس مثلاً . وحين نزل خالد بن الوليد ارض الأنبار وجد أهلها عرباً يكتبون بخط أياد نزلوها ايّام بختنصر . وكما هو واضح فان ( برخيا ) اعترف انّ ما هم عليها من الأرض ( بلادهم ) , وليس من السهل ان يُقال مثل هذا في حضرة ملك عراقي , وهو الامر ذاته الذي يفسّر كيف اقام ( المناذرة ) وهم من الازد السبئيين مملكتهم في جنوب العراق لاحقاً دون ان يعتبر احد من العراقيين هذا الامر احتلالاً كما اعتبروا مملكة الفرس مثلاً .
ولفهم هذه الخريطة السكانية بصورة أوضح نستعرض مناطق سكن ( الازد ) , وهم فرع من السبئيين كان لهم تالياً تاريخ مهم من التوحيد والايمان والرسالات الإلهية , فالازد هو ابن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان , حيث سكن ( ازد شنوءة ) بين تهامة واليمن , وسكن ( ازد غسان ) في بلاد الشام والجزيرة العربية , و ( ازد السراة ) في تلك الجبال , اما ( ازد عُمان ) فكانت مواطنهم هي عُمان ذاتها .
ومن مؤيدات ان اصل السبئيين كان من جنوب العراق ما ورد في موضع قبر ابيهم ( هود ) النبي عليه السلام : ( عن خاتم العلماء نصير الدين ، عن والده ، عن السيد فضل الله الحسني الراوندي ، عن ذي الفقار بن معبد ، عن الطوسي عن المفيد عن محمد بن أحمد بن داود عن محمد بن بكار ، عن الحسن بن محمد الفزاري ، عن الحسن ابن علي النحاس ، عن جعفر الرماني ، عن يحيى الحماني ، عن محمد بن عبيد الطيالسي ، عن مختار التمار ، عن أبي مطر قال : لما ضرب ابن ملجم الفاسق لعنه الله أمير المؤمنين عليه السلام قال له الحسن عليه السلام : أقتله ؟ قال : لا ولكن احبسه فإذا مت فاقتلوه فإذا مت فادفنوني في هذا الظهر في قبر أخوي هود وصالح ) .
وبهذا الاسناد ( عن محمد بن أحمد بن داود ، عن محمد بن بكران ، عن علي بن يعقوب ، عن علي بن الحسن ، عن أخيه ، عن أحمد بن محمد ، عن عمر الجرجاني عن الحسن بن علي بن أبي طالب قال : سألت الحسن بن علي عليهما السلام أين دفنتم أمير المؤمنين عليه السلام ؟ قال : على شفير الجرف ، ومررنا به ليلا على مسجد الاشعث وقال : ادفنوني في قبر أخي هود ) . لذا يكون وجه تسمية السبئيين ب ( اليمانيين ) جهة سكنهم من العراق التاريخي باتجاه ارض اليمن , او ل ( تيامن ) العرب بهم لما سنعرف من دورهم الكبير في انشاء الامة الموحدة .
وقد تفرق السبئيون في مختلف البلدان كشعب كبير ذي بأس يجيد التجارة , كما انه ورث المدنية عن اصله العراقي , وبغض النظر عن مدعيات المؤرخين عن سبب انتشار السبئيين في الأرض ونسبها جميعاً لانهيار ( سد مأرب ) يبدو ان الأصل الحقيقي لذلك الانتشار كان يقوم على امرين : الأول الكثافة السكانية والحاجة الاقتصادية واعتبارهم ان جميع منطقة الجزيرة – ابتداءاً من جنوب العراق حتى اليمن – هي ارضهم الفعلية , والثاني الرؤية الدينية والبشارة النبوية . فنزلت طوائف منهم الحجاز وهم خزاعة اذ نزلوا ظاهر مكة , وفي المدينة النبوية يثرب التي سكنها منهم الاوس والخزرج , وفي الشام غسان وعاملة وبهراء ولخم وجذام , فيما توزعت تنوخ – التي احتسبت لهم – في العراق من مذحج والنخع وغيرهما من الازد وقبائل طي .
ان الرؤية الدينية للسبئيين التي جعلتهم يتحركون في مختلف البلدان يمكن قرائتها واضحة في الكثير من النصوص التاريخية التي تروي سيرتهم , فقد روي عن محمد بن إسحاق ان ( عمرو بن عامر ) – الذي تبعته الازد في حركته الإقليمية – كان ( كاهناً ) , وان امرأته ( طريفة بنت الخير ) كذلك , ولست أرى هذا ( الكهنوت ) سوى تلاعب من مؤرخي السلطة الاموية بمصطلح ( العبد الصالح ) كما تلاعبت أقلام المستشرقين بمصطلح ( المقدس ) السومري وجعلته وثنا . ففي قصة ( نصر بن ربيعة بن ابي حارثة بن عمرو بن عامر اللخمي ) مع ( شق ) و ( سطيح ) – اللذين ورثا ( الكهانة ) عن طريفة امرأة عمرو بن عامر – نبوءة بمبعث ( نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي , رسول مرسل يأتي بالحق والعدل من اهل الدين والفضل ) , وانه من ولد ( غالب بن فهر ) , و يكون ( الملك في قومه الى يوم الفصل ) . فيما كان من امر ( تبّع ابي كرب تبّان اسعد ) انه قدم المدينة بجيشه , اذ جاءه حبران من احبار اليهود من بني قريظة , عالمان راسخان , حين سمعا بما يريد من اهلاك المدينة وأهلها , فقالا له : أيها الملك لا تفعل , فانك ان ابيت الا ما تريد , حيل بينك وبينها , ولم نأمن عليك عاجل العقوبة . فقال لهما : ولمَ ذلك ؟ قالا : هي مُهاجَر نبي , يخرج من هذا الحرم , من قريش . ثم انه اعجب بهما ورافقاه , فدلاه على عظمة البيت الحرام الإلهية وانه بيت إبراهيم عليه السلام , فعظّمه وطاف به ونحر عنده . ثم انه دعا قومه للدخول في دين التوحيد على الشريعة اليهودية الموسوية , فابوا , فحاكمهم الى نارهم التي يحتكمون اليها , فاكلت اوثانهم , فانتصر دين التوحيد وغلب امره في من بقي من السبئيين خلف تُّبّع هذا . وحين وفدت عرب الحجاز على ( سيف بن ذي يزن ) يهنئونه بعود الملك اليه كان من جملة من وفد قريش , وفيهم ( عبد المطلب بن هاشم ) – جد رسول الله محمد عليه واله السلام – فبشّره ( سيف ) برسول الله واخبره بما يعلم من امره . اذ يبدو الامر جلياً ان ممالك سبأ ورثت هذه البشرى واختزنتها في ذاكرتها القومية , ليس لهاجس ديني صرف , بل لانها علمت ان لها اليد الطولى في حمل عبئ نصرة تلك الرسالة السماوية , وانه شرف لها ما بعده شرف , لكن مع تفاوت في الفكرة والاستيعاب من طرف الى طرف , لكنهم امنوا بمجيئ الإسلام في الجملة , ثم لاحقاً افترقوا فيمن يمثّله .
ان المصطلحين ( الآرامي ) و ( النبطي ) لم يكونا يعنيان الا مصداقاً واحداً على الأرض واقعاً , والمقصود كان الامة الآرامية بكل شعوبها العراقية الوارثة لحضارات سومر واكد وبابل الاولى والثانية , لذا نجد تطابقاً تاماً في الخصائص والأراضي والعمل والحضارة , يستحيل معه تفريقهما عن بعض .
فقد احتكر الآراميون التجارة كما احتكروا طرق المواصلات المؤدية الى آشور شرقاً والى المدن الفينيقية غرباً والى اسيا الوسطى شمالاً ومن هذه وتلك الى المدن المصرية , وامكن بفضل تدجين الجمل العربي تيسير القوافل تيسيراً كبيراً فاقيمت في اطراف البلاد مراكز للتجارة كانت اشهرها ( تدمر ) و ( الحضر ) , وقد كان للآراميين بطون في العراق وبطون أخرى في سيناء وفلسطين , وكان ( الاغريق ) على اتصال بهم في الموانئ الشرقية من اسيا الصغرى الى تخوم سيناء فنقلوا عنهم وسائل الحضارة والتجارة قبل ان يهتدي اليها أبناء القارة الاوربية بزمن طويل . وهذا بالضبط ما كان عليه ( النبط ) من واقع عملي .
وقد انتشرت مع التجارة الارامية اللغة الارامية انتشاراً واسعا , وقد أصبحت لغة اقطار الشام وتغلغلت في بلاد فارس وانتشرت بين الشعوب المجاورة لها . ثم امتدت الى وادي النيل واسيا الصغرى وشمال جزيرة العرب حتى حدود الحجاز , وبقيت دهوراً طوالاً اللغة الرسمية والتجارية للأمم الحية في القرون الأولى قبل الميلاد في بابل واشور وفارس ومصر وفلسطين , وكانت الارامية لغة السيد المسيح والحواريين وكتب بها الانجيل على ما يرجح , وان الكتابات الدينية لمختلف الكنائس الشرقية دونت بلهجات مشتقة من الارامية وباقلام مأخوذة من الابجدية الارامية , وقد حلت اللغة الارامية محل الكنعانية وظلت اللغة السائدة في البلاد الى الفتح العربي عندما اخذت اللغة العربية تحل محلها . وانقسمت اللغة الارامية بمرور الازمان الى عدة لهجات يمكن حصرها بفرعين : الفرع الشرقي في وادي الفرات وتمثله اللهجة المندائية والسريانية ولهجة الحضر , وتمثل الفرع الغربي ارامية التوراة والانجيل والترجوم ( التفسير والشرح ) واللهجات الارامية في مملكة سامال وفي حماة وتدمر وبلاد النبط .
ان تسمية ( آراميين ) صارت تشمل جميع القبائل الساكنة قديماً في البلاد الفسيحة الواسعة المحدودة ببلاد فارس شرقاً والبحر المتوسط غرباً وبلاد الأرمن وبلاد اليونان في اسيا الصغرى شمالاً وحدود جزيرة العرب جنوباً كانت قاطبة معروفة ببني ارام والاراميين مع ان بعض هذه القبائل كانت تسمى بأسماء خصوصية كتسمية اهل بابل وما يجاورها من قبائل بالكلدانيين وسكان مملكة اشور بالاشوريين وتسمية اهل الشام بالادوميين , ولكن تسمية الآراميين كانت تشملهم جميعا , وكانت كل هذه البلاد تتكلم بالارامية .
ومن السذاجة – بل من الجنون – الاعتقاد بوجود تأثيرات ساهمت في تنصّر الامة الآرامية سوى الاعتقاد الفطري والاستعداد الفكري والارث المعرفي التوحيدي , اذ كانت الدول الكبرى المحتلة للمنطقة وثنية , من الفرس والرومان , وقد قام الاخيرون بذبح آلاف المسيحيين على دينهم وفكرهم , وحين أعلنت الدولة الرومانية في عهد قسطنطين انها اعتنقت المسيحية البولصية في القرن الثالث بعد الميلاد كان مذهب الامة الارامية نسطورياً مخالفاً للمذهب الروماني المشوب بالوثنية , وقد عانى الآراميون بسبب اعتقادهم التوحيدي الكثير . كما انّ القراءة العقلانية للمسيحية البولصية الرومانية يمكنها ان تكشف اسرار هذا الإيمان الطارئ على المسيحية ، وكذلك يمكنها تفسير هذا الحلف الدموي بين الاباطرة والباباوات الكنسيين ، الذي يمكن مقارنته بالحلف الذي تمّ عقده في ( نجد ) بين ( ال سعود ) وبين ( محمد بن عبد الوهاب ) ومن ثمّ ذريته ، لإنشاء الديانة الوهابية الدموية .
وفيما كانت القبائل والممالك العربية والنبطية في العراق نسطورية المذهب ، لم يكن الاعتقاد الذي عليه عرب الغساسنة في الشام واضحاً . حيث تنقل بعض المصادر انّ ملكهم ( الحارث ) كان من أنصار الطبيعة الواحدة ، وكذللك ابنه ( المنذر ) وحفيده ( النعمان ) ، إِلَّا انّ علاقتهم بالرومان البيزنطيين لم تكن واضحة المعالم ، من اكرام ( ثيودورا ) لهم ، ومقاطعة ( يوستينوس ) ، وتذبذب ( تيباريوس ) ، وصلافة ( موريسيوس ) ، حيث اختلف كلّ هؤلاء الاباطرة في مستوى علاقتهم بالشرق المسيحي الموالي لروما ، الذي يبدو انّ قادته كانوا من اليعاقبة ( كنيسة الاسكندرية ) . وفي الوقت الذي أعاد فيه ( موريسيوس ) العلاقة مع ( النعمان ) لأسباب عسكرية واستراتيجية ، دعاه لاعتناق العقيدة الرومانية ، التي ترى انّ للمسيح طبيعتين ، إِلَّا انّ ( النعمان ) اخبره برفض قبائل ( طَي ) لهذه العقيدة ، الى الدرجة التي سيذبحونه لو حاول ثنيهم عنها . ولعلّ هذا الاختلاف المذهبي – حول عقيدة التوحيد والنظرة المختلفة لتأليه عيسى – هما ما يفسران الموقفين المتناقضين لمملكتي أبناء العمّ المسيحيتين ( المناذرة ) و ( الغساسنة ) تجاه الانتشار الاسلامي . حيث قام المسيحيون الذين كانوا يتبعون مملكة المناذرة – ومركزها الحيرة في العراق – بمقاتلة الفرس المحتلين ، قبل دخول الجيش الاسلامي حدود العراق ، فانتصروا عليهم في المعركة الشهيرة ( ذي قار ) ، وكذلك دخل ابرز قادتهم في الاسلام قبل وصول الحشود الحجازية ، حيث رفعوا اسم النبي ( محمد ) شعاراً لهم في تلك المعركة . بينما كان موقف الغساسنة مضاداً للتقدم الاسلامي ، وشارك الكثير منهم ضمن جيوش الروم لصدّ ذلك التقدم . وهذا الاختلاف في طبيعة التدين الفلسفي الفطري الذي تمتعت به مملكة الحيرة عن التدين السياسي الذي تمتعت به مملكة الشام هو ما يكشف أيضاً سرّ انفراد العراقيين في نشر المسيحية النصرانية شرقاً وجنوبا . من هنا كان ( ثيوفيلاكت سموكاتا ) يرى عدم إمكانية الاعتماد على العرب ، لأنهم برأيه ( متقلّبون وعقولهم غير ثابتة وأحكامهم لا تقوم على أساس صحيح من التعقّل ) ، فهو ربما كان يعكس خيبة أمل روما وبيزنطية في جذبهم الى حظيرة الوثنية المعقدة .
كانت النصرانية في البلاد الرافدينية ، والتي تعتنقها شعوبها العربية والنبطية والآشورية والفينيقية ، ملزمة بالاستعداد لحماية دينها التوحيدي امام المدّ المسيحي البولصي التأليهي ، ليس بالفكر هذه المرّة ، بل بقوة السلاح ايضا ، لذلك بدأت في التقوقع لحماية عقيدتها ، من المطرقة الزرادشتية في الشرق ، والسندان البولصي في الغرب .
وربما تكون كلمة ( الحارث بن كعب ) احد رجال الدين في قبيلة ( بلحارث ) النجرانية التي يوصي بها ابنائه ، شاهداً على مدى خطورة ما تعرّضت له النصرانية التوحيدية حينئذ ، حيث قال فيها (( يا بني قد أتت عليّ مائة وستون سنة ، ولا بقى على دين عيسى بن مريم من العرب غيري ، وغير تميم بن مرّ بن أسد ، فموتوا على شريعتي ، واحفظوا عليّ وصاتي ، وإلهكم فاتقوا ، يكفكم ما اهمكم ويصلح لكم حالكم واياكم ومعصيته )) . ورغم انّ هذه الكلمة قد اصطبغت بالمبالغة في تقدير انحسار النصرانية بين شخصين ، وذلك ما يخالف الحقيقة التاريخية ، إِلَّا انها توحي بخطورة ما تعرّضت له من طوق سياسي وغزو ثقافي . وَمِمَّا يُنسب لكعب هذا الأبيات :
وصرتُ الى عيسى بن مريم هاديا رشيداً فسمّاني المسيح حواريا
بني اتقوا الله الذي هو رَبُّكُم براكم له فيما برى وبرانيا
لنعبده سبحانه دون غيره ونستدفع البلوى به والدواهيا
ونؤمن بالإنجيل والصحف بها نهتدي من كان للوحي تاليا
وفي الحيرة برزت جماعة ( العبّاد ) ، الذين كانوا يأتلفون عقائدياً وسلوكياً من مختلف القبائل العربية وباقي التجمعات الديمغرافية العراقية ، في مؤازرة للحنيفية الموحدة في الجزيرة العربية . وفي كثير من البلدان داخل بلاد ما بين النهرين كان بإمكان الناس عرض عقائدها المسيحية الموحدة ، إِلَّا انّ ذلك كان ممتنعاً في الأقاليم الخاضعة للسلطة او النفوذ الروماني ، الذين يجوب قساوستهم مختلف الاصقاع مبشرين باسم ( الرَّبّ يسوع ) ، تحت ارهاب السيف الإمبراطوري ، وترغيب المال التجاري ، لذلك انزوى معظم الموحدين النصارى كعبّاد زاهدين متكتمين ، يعرضون دينهم لمن يستحق وحسب .
انّ الفكرة التي استند اليها النساطرة – حسب فهمي – في تناولهم لطبيعة السيد المسيح هي ذات الفكرة التي يعتمدها ( الشيعة الإمامية ) حول طبيعة الأئمة من أهل البيت ، حيث يَرَوْن انهم في تجسّدهم كانوا بشراً كما كان غيرهم ، لكنّهم خارج الجسد مصدراً للفيض الالهي ، بنحو الواسطة . وبذلك فعيسى والأئمة مخلوقون لله ، لكنّهم في منزلة اعلى وأعظم من أنْ تكون لبشر غيرهم ، وذلك ما يشبه قولنا بنحو ما عن وظيفة الملائكة .
وهذا هو ما جعل ( بابل ) ومحيطها حاضنة مستقبلية للعقيدة الاسلامية الشيعية الإمامية ، حيث دخلت قبائل ( شيبان ) و ( عجل ) و ( الازد ) ومجمل مملكة المناذرة في الاسلام قبل وصول الجيش العربي الى العراق . كما صار الكثير من مسيحيي الامس دعاة العلوية الاسلامية ، كعائلة ( ال اعين ) .
انّ بابل والمنطقة العربية لم تكن في عقائدها تخضع للأثر السياسي الراهن ، بل كانت تستند الى ارتكاز فلسفي عميق ، ناشئ عن الفيض المعرفي الإبراهيمي ، وهذا ما ميّزها عن الشعوب الوثنية في أوربا ، التي استقبلت البدعة البولصية ، لذلك لم تعتنق الشعوب الشرقية هذه الديانة الفارسية ، رغم عمق التأثير السياسي للفرس في المنطقة . وهذا الارتكاز التوحيدي المفقود هو الذي جعل كسرى إمبراطور الفرس يمزق كتاب رسول الله اليه دون باقي الملوك ، لانه خارج الدائرة الإيمانية التوحيدية التاريخية ، لا العصبية القومية للفرس كما يدعي القوميون العرب الْيَوْمَ . بينما تأتي قبائل كبرى مثل حضرموت عليها ملوك لتؤمن بالإسلام طوعا ، لما لها من ارتكاز عقلي عراقي بنحو ما .
لقد توج الإسلام معارف هذه الأجيال بعقيدة الامامة , ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) ( الفرقان ) , ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة 124 ) , ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) ( المائدة ) .
لكنّ الأحقاد البدرية والحنينية والخيبرية كانت فاصلاً في خيارات الناس ، وكانت مفصلاً في تاريخ الحضارات ، اذ انقسمت الأمة ، رغم وضوح النص في ولاية علي عليه السلام ، الى فرقتين كبيرتين ، احداهما الى جانبه ، واُخرى ضده ، وهي أوسع .
اما لماذا كانت الثانية أوسع ؟ فهذا لسبب موضوعي ، ناشئ عن عدم استيعاب الجماعة القريبة لعاصمة الرسالة لمفهوم الإمامة ، وبالتالي هي كانت تنظر لعلي بن ابي طالب على انه شخصية فاضلة دينيا ، لكنها ليست مقدسة . وبالتالي يسع النفوس المتأججة عاطفياً ضده ان تتجاوزه لغيره . ولزهد علي الشديد تجاه المال ، فيما غيره اجتذب الناس بالمال . حتى قال زين العابدين ( ان علياً كان يقاتله معاوية بذهبه ) ، بعد ان فرّق بنو امية المال في اجتذاب الدهاة من الناس وشراء الذمم .
كما لعبت جماعات الضغط داخل المدينة ومكة دوراً هاماً في إزاحته عن مقعده ، من خلال استغلال مجموعات قبلية بدوية خارج المدينة ، ومجموعات ( مسلمة الفتح ) ، الذين لا زالوا على كفرهم الباطني ، داخل مكة ، والاعراب أشد كفراً ونفاقاً واجدر الا يعلموا حدود ما انزل الله . فكان البعيدون ينتظرون ما يجود به القريبون من عقائد ، سوى مجاميع قبلية التقت النبي وعلي وابا بكر بصورة مباشرة ، كعبد القيس وشيبان ، فتشكلت لديها صورة معرفية أثمرت تشيعاً عميقاً لعلي بن ابي طالب ، زاد فيه ارتكازهم المعرفي العراقي المسيحي .
اننا نواجه هنا مشكلة كبيرة هي التزوير والتلاعب بالتاريخ والروايات ، اذ تمت كتابة التاريخ الإسلامي في زمن تسلط من كانت افعالهم محلاً للسوء قبل استلامهم للسلطة اَي في عهد النبوة . فَلَو اخذنا رواية وموقف استشارة النبي لاصحابه في غزوة بدر سنجد روايتين ، احدهما قالت ان بعض المهاجرين اعترض على قتال النبي لقريش ، خوفاً او حمية ، والأخرى استبدلت هذا المقطع بان أبا بكر قام فقال فأحسن ، وان عمراً قام فقال فأحسن ، وأتمت ما في الرواية الأولى من قول وجهاد المقداد وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ . مما يعني – بعد جمع الروايتين – ان المعترضين في الحقيقة هم أبو بكر وعمر ، فتم إخفاء أسمائهم في مرحلة ، ثم تم إرجاع هذه الأسماء مع التحسينات في مرحلة أخرى .
وقد تميزت كتب المؤرخين والرواة القديمة بأمور ، منها : الحذف ، التحسين ، التعميم ، التعويم .
فمن الحذف : ( … فأتوا غطفان وسليم ففارقوهم على مثل ذلك وتجهزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب فكانوا أربعة آلاف وعقدوا اللواء في دار الندوة وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير وخرجوا يقودهم أبو سفيان ووافتهم بنو سليم بمر الظهران وهم سبعمائة يقودهم [ سفيان بن عبد شمس ] … ) ، لكن نجد في رواية أخرى ( … ثم خرجوا إلى غطفان ، فدعوهم ، فاستجابوا لهم ، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك ، فاستجاب لهم من استجاب ، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف ، ووافتهم بنو سليم بمر الظهران وخرجت بنو أسد وفزارة ) ، وقد تم حذف اسم ( سفيان بن عبد شمس ) في الكتاب الثاني ، لأنه والد ( أبي الأعور السلمي ) قائد جيش معاوية في صفين .
ومن التعويم : ( …ثم ارتحل رسول الله من ذفران حتى نزل قريبا من بدر، فركب هو [ وأبو بكر ] رضي الله عنه، أي وقيل بدل أبي بكر [ قتادة بن النعمان ] ، وقيل [ معاذ بن جبل ] … ) ، وهنا لأن الرواية الحقيقية تضمنت اسم رجل واحد معروف ، وأريد استبداله برجل آخر ليس له تاريخ واقعي عنوة ، ولم يكن ذلك مستساغاً .
ومن التعميم : ( واستشار أصحابه في ذلك، فقال المقداد بن الأسود أما والله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ولكنا نقول إنا معكم مقاتلون، … ، فلما سمع أصحاب رسول الله ذلك تابعوه، فأشرق عند ذلك وجه رسول الله والتعدد ممكن لكنه بعيد ثم قال أشيروا عليّ، فقال [ عمر ] يا رسول الله إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته واعدد لذلك عدته، … ) ، بينما في الرواية الثانية ( … واستشارهم فنهاه [ بعض المهاجرين ] عن المسير وقال إنها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت وقال المقداد والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكم مقاتلون … ) ، والأسباب واضحة .
ومن التحسين : ( واستشار أصحابه في ذلك، فقال المقداد بن الأسود أما والله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ولكنا نقول إنا معكم مقاتلون، … ، ثم قال أشيروا عليّ، فقال [ عمر ] يا رسول الله إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته واعدد لذلك عدته، … ) ، لكن في أخرى ( … فاستشار الناس ، وأخبرهم عن قريش فقام [ أبو بكر ] الصديق ، فقال وأحسن . ثم قام [ عمر بن الخطاب ] ، فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون … ) .
لهذا نجد من الصعوبة بمكان على غير الباحث المحقق إيجاد صورة تاريخية قريبة للحقيقة ، وقد منح هذا المستوى من التلاعب ضعاف المعرفة وعامة من لا يدقق فرصة التمسك بما يناسب عاطفته من المكتوب .
وهنا كان دور الحوزة العلمية ومحققيها , في إعادة قراءة النصوص وجلائها , ودراسة رجالاتها , وعرضها على الثوابت , لاعادة قراءة التاريخ والدين , بما يمنع تزويره .
فقد تميز المخالفون لعلي بن ابي طالب بمجموعة مشتركات ، منها ضعف البنية الأخلاقية ، وحب المال ، والعصبية القبلية إضافة للبداوة ، وقلة الروافد المعرفية ، وسطحية المنهج العقلي . ففي صحيح مسلم: أنّ عمر قال لنافع بن عبد الحارث الخزاعي: من استعملت على مكة؟ قال: عبد الرحمن بن أبزى. قال: استعملت عليهم مولى. قال: إنه قارئ لكتاب اللَّه، عالم بالفرائض. و أخرجه أبو يعلى من وجه آخر، و فيه: إني وجدته أقرأهم لكتاب اللَّه. و فيه: و أفقههم في دين اللَّه . ومن غريب التاريخ ان ينشغل اول خليفة للمسلمين وأفضلهم عند شق الامة الأكبر يوم الفتح الأعظم بطوق لأخته مفقود ، باحثاً عنه منشغلاً عن قضية الجيش الإسلامي ، وعن اسلام ابيه ذلك الْيَوْمَ ، اذ كان ابوه ( أبو قحافة ) من مسلمة الفتح اسلم يوم فتح مكة ، فأسرع ان جاء به عمر بن الخطاب الى النبي مبشراً باسلامه ، ولا نعلم وجه سرور عمر بإسلام هذا الرجل . لهذا كان ان قيض الله اهل العراق لهذا الدين .
وفي معركة حفظ القران بين عثمان وابن مسعود , يبدو ان أهل العراق كانوا الى جنب ابن مسعود وفِي صفه يثقون في رأيه وينتظرونه في امر المصحف ، عن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ( أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ أَنْ وَلِيَ زَيْدٌ نَسْخَ كِتَابِ الْمَصَاحِفِ ، وَقَالَ : ” أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَأُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابِ الْمَصَاحِفِ فَيُوَلاهَا رَجُلٌ ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ ” ، وَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : ” يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ غُلُّوا الْمَصَاحِفَ وَالْقَوَا اللَّهَ بِهَا فَإِنَّهُ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سورة آل عمران آية 161 ، فَالْقَوَا اللَّهَ بِالْمَصَاحِفِ ” ، قَالَ الزُّهْرِيُّ ” : قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : ” وَإِنِّي غَالٌّ مُصْحَفِي ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَغُلَّ مُصْحَفَهُ فَلْيَفْعَلْ ” ) . رغم ان رسول الله يقول ( وما اقرأكم عبد الله بن مسعود فاقرؤوه ) ، وقال كذلك – بحسب القوم ومروياتهم – ( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ) . وقد اغضب فعله هذا علي بن ابي طالب وابا ذرّ الغفاري ، ووصفه علي بأنه امر عظيم ، وتنبأ بأن يسلط الله عليه الحديد .
عن محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال لبعض أصحابه: ( يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أخبر أنا أولى الناس بالناس فتمالت علينا قريش حتى أخرجت الأمر من معدنه، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا، ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قتل فبويع الحسن ابنه وعوهد، ثم غدر به وأسلم ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه وانتهبت عسكره، وعولجت خلاليل أمهات أولاده فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق قليل، ثم بايع الحسين (عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدر به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم فقتلوه، ثم لم يزل أهل البيت تستذل وتستظام وتقتضي وتمتهن وتحرم وتقتل وتخاف ولاءنا من على دمائنا ودماء أولادنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله ولم نفعله ليبغضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن، فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من ذكر محبتنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمن عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام)، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة من تفضيل من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئا منها ولو كانت ولا وقعت، وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع ) .
قال المسعودي في مروج الذهب: كان ممن شهد صفين مع علي بن أبي طالب ع من أصحاب بدر سبعة وثمانون رجلا منهم سبعة عشر من المهاجرين وسبعون من الأنصار وشهد معه ممن بايع تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار ومن سائر الصحابة تسعمائة وكان جميع من شهد معه من الصحابة ألفين وثمانمائة اه‍ وفي السيرة الحلبية: قال بعضهم شهدنا صفين مع علي بن أبي طالب ثمانمائة من أهل بيعة الرضوان وقتل منهم ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر .
ولعل ابرز كتلة متشيعة لعلي كانت من الأنصار بقيادة قيس بن سعد بن عبادة ، ولابد انها كانت عن ابيه ، وان تعثرت لأسباب نبينها لاحقا ان شاء الله في مرحلة ما ، الا انهم هاجروا الى العراق في مرحلة أخرى متشيعين ، واليوم لهم إمارة ( تضم مجموعة قبائل كبيرة تتفرع عنها عشائر ) في العراق هي ( إمارة الاوس ) ، ولها مرجعية دينية كبيرة في النجف الأشرف المؤسسة الشيعية الدينية الأكبر متمثلة بالمرجع الديني الشيخ ( محمد موسى اليعقوبي الاوسي ) .
ولعل ابرز اهل العراق كانوا النخع , ويبدو ان النخع وال الأشتر كان لهم من الموالي النبط من حملوا عقيدتهم ، وبالتالي هي سرت عن طريقهم في غير العرب . فهذا ( فرّوخ ) مولى لبني الأشتر النخعي يحدّث : ( رأيت عليا في بني ديوار وأنا غلام فقال: أتعرفني؟ قلت نعم، أنت أمير المؤمنين . ثم أتى آخر فقال : أتعرفني؟ فقال: لا. فاشترى منه قميصا زابيّاً فلبسه فمد كمّ القميص فإذا هو مع أصابعه، فقال له: كفه فلما كفه لبسه وقال: الحمد لله الذي كسا علي أبي طالب ) . وقد جاء في الحديث – عن عبد الله – يعني ابن مسعود – قال‏:‏ شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا الحي من النخع، أو قال‏:‏ يثني عليهم حتى تمنيت أني رجل منهم‏.‏ رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجال أحمد ثقات‏.‏ وقد روي انه وفد على النبي من النخع ( رجلان بعثهما قومهما إليه ص وافدين باسلامهم فبايعاه على قومهما فاعجب رسول الله ص شأنهما وحسن هيئتهما فقال هل وراءكما من قومكما مثلكما قالا يا رسول الله قد خلفنا من قومنا سبعين رجلا كلهم أفضل منا فقال اللهم بارك في النخع ). وقد شهدوا مع رسول الله فتح مكة وكانت رايتهم مع ( ارطأة بن شراحيل بن كعب ) الذي شهد بذات الراية يوم القادسية فقتل وأخذ الراية اخوه ( دريد ) الذي قتل تحتها ايضاً . وهذا مما يغفله التاريخ عمدا لتشيعهم العلوي . ولا شك انهم عرفوا مكانة علي حين قدموا معه في حجة الوداع وخطب النبي وافهم الناس الا يشكوا علياً لانه خشن في ذات الله ، والاهم ان علياً كان والياً على اليمانية حتى حجة الوداع ، كانما أراد رسول الله ان يزدادوا بعلي معرفة وهو بهم ارتباطا . وقد جاء أنّ مالك الأشتر استقبله شباب من همدان، و كانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ، و كانوا صبروا في الميمنة، و منهم عبد اللّه، و بكر، بنو زيد ، فقتلوا جميعا في صفّين سنة 37 ه . وحين انتدب معاوية قطيع أهل الشام ( عك ) لقتال خير أهل العراق همدان اشترطت عك زيادة العطاء من المال والإقطاع من الأراضي كي تقاتل همدان ، فجعل لها معاوية ما اشترطت ، فكانت أشد اقداماً طمعاً ، ثم حمية وعصبية قبلية بعدئذ ، فصمدت لها ( همدان ) وقد اقسم أبناؤها انهم لن يرجعوا حتى تولي عك عن مقامها ، فكان هذا . وحين حزن امير المؤمنين من شخوص النفوس المريضة الى مال معاوية جاءت همدان تخبره انها تريد الآخرة ، فحمد فعلهم واثنى عليهم . وقد كان بعض همدان رسل علي الى الأقاليم وصد الغارات ، مثل ( مالك بن كعب الهمداني ) الذي بعثه الى دومة الجندل لصد غارات جند معاوية ودعوة أهلها الى الحق .
ان واضع شخصية ( عبد الله بن سبأ ) كان عالما بالتأريخ ومسار الاحداث التي رافقت نشوء الدولة الاسلامية , ومن هنا قرأ بصورة جيدة حقيقة الاقوام التي آوت الرسول محمد ونصرته , بعد ان خذلته قريش – سوى بني هاشم وبعض الافراد المتفرقين – , وكذلك درس بصورة ذكية واقع الاقوام التي نصرت وصيه علي بن ابي طالب , وجمع النتائج ليخرج بحقيقة مبهرة مفادها : ان محور الحركة الاسلامية ونشاطها كان يرتكز على جملة من القبائل كلها ترجع الى نسب واحد هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان , و في اهم تلك البطون تركز الانتماء للاسلام المحمدي ومن ثم التشيع لعلي بن ابي طالب , وهو بطن ( الازد ) , فمنه كان ( الاوس والخزرج ) الذين ناصروا محمدا و آووه , والذين اصر زعيمهم ( سعد بن عبادة ) الّا يبايع للخلافة الا علي بن ابي طالب , حتى تم اغتياله في الشام , ونسب قتله الى الجن , لكن اولئك الجن لم يستطيعوا ان يقتلوا ولده قيس بن سعد , الذي ظل مناصرا لعلي بن ابي طالب في كل معاركه , ومنهم كان النخع ومذحج وهمدان , الذين ناصروا عليا وشايعوه , و منهم كان قائد القوات المسلحة العلوية مالك الاشتر النخعي ,الذي قال فيه الامام علي ما مضمونه ( كان لي مالك كما كنت لرسول الله ) , وتبعه على الثورة ابنه ابراهيم بن مالك قائد جيوش المختار بن عبيد الثقفي , للاخذ بثأر الحسين بن علي , والنخعيون كانوا اهم اسباب الانتصار في معركتي اليرموك والقادسية , ومنهم هانئ بن عروة زعيم مذحج , الذي رفض ان يوالي بني امية حتى استشهد على يد اشر خلق الله عبيد الله بن زياد , ومنهم آل المهلب الذين تزعموا ثورات متتالية على الدولة الاموية في الاهواز وجنوب العراق , ومنهم حنظلة بن ابي عامر غسيل الملائكة صاحب ثورة المدينة على طواغيت بني امية , ومنهم عمرو بن الحمق الخزاعي , ومنهم … الخ . وقد كانت قبائل اليمن الازدية بين الديانات التوحيدية الابراهيمية واليهودية والمسيحية , اما في العراق فقد كانوا على المسيحية , وهذا مميز آخر , يجعلهم يفضلون على غيرهم لو تم القياس . وما ذكرناه لا يريد ان يلغي دور قبائل وانساب اخرى ناصرت علي بن ابي طالب , بل نحن نتكلم في محور حركة هذه النصرة , فهناك قبائل كثيرة لم تقل اقداما في نصرة الحق مع علي , حيث لا يفترقان حتى يردا على رسول الله الحوض . ان عمود الجيش والمتشيعين لعلي بن ابي طالب كان من قبائل الازد المنتسبين الى ( سبأ ) , لذلك شكلت هذه القبائل عقدة تأريخية لدى كل الطواغيت الذين اغتصبوا الخلافة وحولوها الى ملك عضوض , سيما مع ثوراتها التي لا تهدأ حتى يومنا هذا , حيث لازالت هذه القبائل تشكل المكون الاساس لجنوبي العراق , ومنها اليوم جملة من العوائل الدينية المهمة مثل ( آل كاشف الغطاء ) و ( آل شيخ راضي ) و ( آل اليعقوبي ) .
ومن سبأ جبل عامل أو جبل عاملة أو جبال عاملة في جنوب لبنان وهي قبيلة (عاملة ) بن سبا . هبط عاملة هذه الجبال وسكنها وبقيت ذريته فيها . ويسمى أيضا جبل الجليل وجبل الخيل. وهو اسم لصقع واسع يتراوح عرضه بين ستة فراسخ وثمانية أو أكثر وطوله نحو اثني عشر فرسخا مشتمل على عدة قرى ومدن وكله معمور ليس فيه خراب ويحده غربا البحر المتوسط وشرقا الحولة ووادي التيم والبقاع وبعض جبل لبنان وجنوبا فلسطين وإذا صح إن تشيع أهله من عهد أبي ذر صاحب رسول الله ص كما يدل عليه النقل المشهور المأخوذ يدا عن يد ووجود مساجد فيه تنسب إلى أبي ذر فأهله [ من ] أقدم الناس في التشيع لم يسبقهم إليه إلا بعض أهل المدينة [ وأهل العراق ] .
كذلك كان هناك ( الموالي ) من نبط العراق ، العراق التاريخي الممتد من أرمينيا حتى اليمن ومن أواسط الشام حتى العمق الإيراني ، وهم في الغالب يتحدثون السريانية ، التي كانت لغة العلوم حينذاك . لكنهم ابتلوا بأمرين اضاعا حقهم ، كره السلطة الرسمية لهم وبالتالي كتابها ، وجهل الكثير من المحدثين للغتهم ، وبالتالي نسبوا كل أعجمية للفرس وهو خلاف التحقيق ، فالسريانية كانت اغلب من الفارسية . ومصطلح الموالي يطلق حصراً على نصارى الامة الآرامية ، التي كانت مدنية ولم تكن تعرف العشائرية ، لهذا والوا القبائل العربية وصاروا موالي لها . من هنا لم يطلق هذا اللقب على ( الزط ) وهم قوم من الهند ، ولا على ( السبابجة ) وهم قوم من السند ، كانوا يسكنون البصرة ، وكانوا في طاعة علي ، حتى قتل منهم جيش عائشة العشرات غدراً في ليلة مظلمة ممطرة ذات ريح ، اذ كانوا يحرسون بيت مال البصرة عند قدوم جيش طلحة والزبير والقرشيين وأعرابهم .
ومنه نعلم لماذا استخدم علي بن ابي طالب لغة علمية عميقة في خطبه على منبر العراق , وهي لغة لم يستخدمها رسول الله في الحجاز , حيث كان وظيفة النبي عامة لجمع الشعوب والقبائل على دين الإسلام والتوحيد , فيما كانت وظيفة علي بن ابي طالب صناعة النوعية العلمية من خلال استغلال العمق الحضاري للعقل العراقي الذي باستطاعته تحمل هذه اللغة , والتي هي نبوية في أساسها . لذلك فالاعتراض على استخدام علي لمصطلحات اصولية ومنطقية في نهج البلاغة غير تام , لانه انما سرد ذلك في العراق الذي كان يعي ما يقول علي وبين الاراميين الذي اسسوا تلك العلوم وهو دليل على اختصاص العراقيين بعلم علي .

و عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : ” إِنَّمَا مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي فِيكُمْ كَمَثَلِ سَفِينَةِ نُوحٍ ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ ” . وورد عن النبي ( وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له ) .
حين نظر عمار بن ياسر إلى راية عمرو بن العاص يوم صفين قال : والله ان هذه الراية قد قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن ، ثم قال : نحن ضربناكم على تنزيله * فاليوم نضربكم على تأويله
وقال ( والذي نفسي بيده لنقاتلنهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله ) . وخرج عمار بن ياسر على الناس بصفين فقال : اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته . اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلته . وإني لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم عملا هو أرضى لك منه لفعلته . والله إني لأرى قوما ليضربنكم ضربا يرتاب منه المبطلون ، وايم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر ، لعلمت أنا على الحق ، وأنهم على الباطل . ثم قال : من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع إلى مال ولا ولد ؟ فأتاه عصابة ، فقال : اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان ، والله ما أرادوا الطلب بدمه ، ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبوها ، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها ، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم ، فخدعوا أتباعهم وإن قالوا : إمامنا قتل مظلوما ، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا ، فبلغوا ما ترون ، فلولا هذه ما تبعهم من الناس رجلان . اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم . ثم مضى ومعه تلك العصابة ، فكان لا يمر بواد من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، ثم جاء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وهو المرقال ، وكان صاحب راية علي ، وكان أعور ، فقال : يا هاشم أعورا وجبنا ؟ لا خير في أعور لا ( يغشى البأس ) ، اركب يا هاشم ، فركب ومضى معه وهو يقول :
أعور يبغي أهله محلا قد عالج الحياة حتى ملا
( لا بد أن يفل أو يفلا يتلهم بذي الكعوب تلا )
وعمار يقول : تقدم يا هاشم ، الجنة تحت ظلال السيوف ، والموت تحت أطراف الأسل ، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين . اليوم ألقى الأحبة ، محمدا وحزبه . وتقدم حتى دنا من عمرو بن العاص فقال له : يا عمرو بعت دينك بمصر ، تبا لك ! فقال له : لا ، ولكن أطلب بدم عثمان . قال : أنا أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله ، ( وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا ) ، فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما نيتك ، لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وهذه الرابعة ما هي بأبر وأتقى . ثم قاتل عمار فلم يرجع وقتل .
وقال حبة بن جوين العرني : قلت لحذيفة بن اليمان : حدثنا فإنا نخاف الفتن . فقال : عليكم بالفئة التي فيها ابن سمية ، فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق ، وإن آخر رزقه ضياح من لبن ” – وهو الممزوج بالماء من اللبن – . قال حبة : فشهدته يوم قتل وهو يقول : ائتوني بآخر رزق لي في الدنيا ، فأتي بضياح من لبن ، في قدح أروح له حلقة حمراء ، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة ، فقال : اليوم ألقى الأحبه محمدا وحزبه …
لم يكن مفهوم الإمامة – بالمعنى العقائدي الشيعي الحديث – واضحاً في الاذهان الإسلامية عموما ، سوى بعض الصحابة الخواص عند النبي وعلي بن ابي طالب ، مثل سلمان الفارسي والمقداد . وفِي أحسن الأحوال كان النظر الى علي بن ابي طالب على انه من علماء الصحابة وخواص الرسالة . حتى ان الامام أبا جعفر محمد بن علي الباقر نفى ان يكون هناك خمسون من أصحابه أهل العراق الذين يقاتل الى جانبهم قد عرفوه حق معرفته ، اَي إمامته .
توزعت الشعوب في الشرق الأوسط القريب الى مركز الرسالة على شكل تجمعات ، كل تجمع كان يقترب من فهم علي بن ابي طالب بقدر اقترابه وفهمه السابق للإسلام . فكانت هناك ( ربيعة ) في العراق ، وهي من العرب العدنانية التي دخلت في الإسلام طوعاً مبكرا ، وصارت هي الأقرب لعلي بن ابي طالب . وكانت هناك ( مضر الحمراء = خندف ) في جنوب العراق ووسطه ، وكانت متذبذبة في اقترابها من الإسلام في بدء الدعوة ، وكذلك كانت علاقتها بعلي بن ابي طالب . وكانت هناك ( ازد العراق ) التي دخلت في الإسلام باكراً نتيجة علاقتها المباشرة بأزد المدينة من ( الأنصار ) ، وكذلك كانت علاقتها مباشرة ومبكرة بعلي بن ابي طالب . وهناك ايضاً ( مضر السوداء = قيس عيلان ) ، وهي قبائل أعرابية تقيم في إقليم نجد ، لم تدخل في الإسلام حتى بعد الفتح ، وقد كانت تروم القضاء على الدولة الإسلامية بالتعاون مع قريش ، لولا انتصار الرسول عليهم ، وقد صار جزء كبير منهم في جيش معاوية او خصوماً لعلي ، ومع هذا حاول علي واصحابه اختراقهم فكرياً لإكمال دعوة الإسلام فيهم . كما وجدت ايضاً ( ازد عمان واليمن ) ، وهم قبلوا الإسلام طوعاً وتخلوا عن ممالكهم دون قتال لكنّ بعدهم عن مركز الحضارة العراقية خلق فجوة معرفية بينهم وبين علي . ومثلهم ( ازد غسان ) في الشام ، اذ قبلوا الإسلام ، الا انهم تربّوا في حضن بني أمية بن عبد شمس الذي كان اول خلاف له مع هاشم جد الرسول خلافاً أخلاقياً ، حيث حسد أمية هاشماً ونبله ولم يستطع ان يأتي فعال الخير التي كان يأتيها هاشم ، رغم انه كان متمولاً ، الا انه كان من أهل الرياء الدنيوي . واختلطوا بمهاجرة اليمن ، وكانوا جميعاً يعرفون الإسلام القرشي المعروض من بني أمية ومن حالفهم على الدنيا من قريش او شذاذ الصحابة ، لذلك كانوا اعداءً لعلي ، وكانت المهمة الأصعب هي اختراقهم ، الا انها كانت مهمة مرسومة في ذهن العراقيين من اتباع ال البيت . هذا كله بالإضافة الى الكتل البشرية من الموالي والأنباط والأقباط في العراق والشام وفارس ومصر ، وهي كتل تختلف في رتبها المعرفية ، فكانت تقترب من الإسلام ومن ثم علي بمقدار ميراثها الحضاري الفردي والجماعي ، وكانت تتاثر بمن يجاورها من العرب المسلمين ، الا انها قبلت الإسلام في الجملة .
وكانت جميع هذه الشعوب مقسمة الى بُطُون وقبائل وتجمعات تخضع بصورة كبيرة لأمرائها وقادتها ، وتتأثر بتوجهاتهم السياسية ، كما لعب العامل الحضاري وطريقة العيش والبداوة والتمدن والعلاقات التاريخية والتحالفات والحروب دوراً بارزاً في تشكلها الفكري . مع الأخذ بنظر الاعتبار المنع السياسي لكتابة الحديث النبوي من قبل قوى الانقلاب ، فصار بالإمكان إخفاء الكثير من الحقائق ، وكذلك امضاء الكثير من القصص الملفقة ، والتأويلات غير المنطقية وغير الشرعية . وإسلام القبائل القيسية – قيس عيلان – مع قريش بعد الفتح خلق حالاً جديداً في الدولة الاسلامية ، اذ كانت قبل هذا تقوم على القبائل السبئية ذات الأصل الديني النصراني ، وذات المدنية النسبية ، فيما هي بعد الفتح تضمنت قريش ونفاقها ، وقيس عيلان وتراثها الوثني وبداوتها . لذلك كان من الضروري – وللمرة الأولى – استخلاف علي بن ابي طالب على راس هذه الدولة في المدينة ، عند خروج الرسول الى تبوك ، حفظاً لكيان الامة من الانقلاب القرشي القيسي المتوقع ، والذي حدث بصورة تدريجية فعلاً بعد وفاة الرسول . وهو الحال الذي وصف به الرسول علياً بأنه منه بمنزلة هارون من موسى . وقد هاجر قسم من أعراب قيس عيلان جنوباً باتجاه اليمامة في خلافة العباسيين بعد غلبة القبائل العراقية عند قيام الدعوة العباسية .
كانت القبائل القيسية مشكلة بعد الإسلام ، كما كانت قبله ، اذ يمنع حالها الأعرابي ان تفهم مطالب العقائد الإسلامية العالية ، فضلاً عن عقيدة الإمامة الدقيقة المعنى . لذلك حين سَرِّح معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري في غارة على تيماء انضم اليه الكثير من قومه ، ثم حين حصره المسيب بن نجبة الفزاري من طرف علي وهزمه نهب ذات الأعراب الفزاريون النجديون الإبل التي كانت معه ، لأنهم كانوا يقيسون الأشياء بمحضر الدنيا لا العقيدة . حتى ان المسيب بن نجبة ذاته مالئهم اثناء القتال وجعل لهم سبيلاً للهرب ، رغم انه من المخلصين لعلي ، لانه لم يكن بعمق فهم زعماء ربيعة او همدان مثلا . لكن وجود أمثال المسيب بن نجبة ذاته كان أمراً حسناً وبداية لاختراق عقائدي وحضاري لبعض هذه القبائل النجدية الأعرابية . فهذا احد أفراد القبائل النجدية القيسية ( شبيب بن بجرة الأشجعي ) رغم ان بداوته جعلته يترك علياً وينضم الى الخوارج معتقداً بهم ، الا انه حين كلّمه عبد الرحمن بن ملجم في قتل علي أرتعد وأبدى انزعاجه ، رغم قناعته بدين الخوارج ، وردّ على ابن ملجم بأن لعلي بن ابي طالب السابقة والفضل في الإسلام ، الا انه كتم نية ابن ملجم عن الناس ، لمحدودية فهمه .
ثم ان هذه القبائل على بداوتها أخذت الحديث عن أمثال عائشة ، التي كانت على استعداد لتوهين مقام رسول الله انطلاقاً من غيرتها وعاطفتها ، كما فعلت في نقلها قصة زواجه من جويرية بنت الحارث ، اذ أوهمت السامع ان النبي فتن بجمالها وحسب . وقد كرهتها عائشة ، حتى اشتكت جويرية هذا الامر الى رسول الله ، فهدأ روعها . فكيف هي مع خصم ابيها علي بن ابي طالب ، وكيف هي في عاطفتها تجاه ذرية خديجة ام المؤمنين التي احبها النبي . حتى انها كانت لا ترى لعلي بن ابي طالب استحقاق لقب امير المؤمنين ، وترى هذا اللقب انسب لعمر بن الخطاب ، وكانت تبغض الأرض التي عليها مجمل بني هاشم وتحب مفارقتها . وتوهين النبي صار بضاعة دولة بني امية كذلك ، التي انتظمت اليها الكثير من تلك القبائل القيسية . فقد نقلوا ان رسول كذّب زيد بن أرقم في سماعه عبد الله بن ابي بن سلول ، ثم كذّب القران النبي وصدّق زيدا .
لهذا رفض علي بن ابي طالب تسليم قتلة عثمان الى معاوية وحزبه ، لانه كان يراهم ثواراً ينطلقون من مبادئهم العراقية المتأصلة فيهم . ففي جوابه على احد كتب معاوية اليه يقول ( … واما ما ذكرت من أمر عثمان فإنه عمل ما بلغك فصنع الناس به ما قد رأيت واما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان فاني نظرت في هذا الأمر وضربت انفه وعينيه فلم أر دفعهم إليك ولا إلى غيرك ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك ولا يكلفونك ان تطلبهم في بر ولا بحر ولا جبل ولا سهل ) . اذ جاء في كتب الرجال : ((أَبو عَمْرو النَّخَعي.)). ((زُرارة بن قيس بن الحارث بن عِدْي بن الحارث بن عَوْف بن جُشَم بن كعب بن قيس بن سعد بن مالك بن النَّخَع من مَذْحِج.)) الطبقات الكبير. ((زُرَارة بن قَيْس بن الحَارِث بن عِدْي بن الحَارِث بن عَوْف بن جُشَم بن كعب بن قيس بن سعد بن مالك بن النخع النَّخَعِي. قال الطبري والكلبي وابن حبيب: قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في وفد النخع، وهم مائتا رجل فأسلموا. أخرجه أبو عمر مختصرًا، وأخرجه أبو موسى مطولًا. … أخبرنا هشام بن محمد، أخبرنا رجل من جَرْم يقال له: أبو جويل، من بني علقمة، عن رجل منهم قال: وفد رجل من النَّخَع يقال له: زرارة بن قيس بن الحارث بن عِديْ على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في نفر من قومه، وكان نصرانيًا، قال: رأيت في الطريق رؤيا فقدمت على النبي صَلَّى الله عليه وسلم فأسلمت، وقلت: يا رسول الله، إني رأيت في سفري هذا إليك رؤيا في الطريق، … قالوا: قدم وفد النخع عليهم زرارة بن عمرو، وهم مائتا رجل، فأسلموا، فقال زرارة: يا رسول الله، إني رأيت في طريقي رؤيا هالتني، … وزاد بعد قوله “فدعا له”: فمات. وأدركها ابنه عمرو بن زرارة، فكان أول الناس خلع عثمان بالكوفة وبايع عليًا. وروى عبد الرحمن بن عابس النخعى، عن أبيه، عن زرارة بن قيس بن عمرو: أنه وفد على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم وكتب له كتابًا ودعا له. أخرجه أبو موسى مطولًا…. وصاحب هذه الوفادة مشهور من النخَع، وأخرج أبو عمر هذا الحديث في زرارة بن عمرو، وأخرجه أبو موسى في زرارة بن قيس، وقد نسب الكلبي عمرو بن زرارة كما ذكرناه أولًا، وقال: هو أول خلق الله خلع عثمان وبايع عليًا، وأبوه زرارة الوافد على رسول الله، والله أعلم. وقد روى أبو موسى حديث عبد الرحمن بن عابس، ونسب زرارة فقال: زرارة بن قيس بن عمرو، ومن قاله زرارة بن عمرو فيكون قد نسبه إلى جده، ويفعلون ذلك كثيرًا، أو يكون قد اختلفوا في نسبه كما اختلفوا في نسب غيره.)) ((ذكره الغساني.)) أسد الغابة . ولما كان وفد النخع اخر وفد وفد على النبي من العرب نعلم لماذا كانت النخع اول من خلع عثمان وبايع عليا . فقد اخذوا خلاصة وصية رسول الله .
مع وجود رواسب أعرابية او ناصبية لم تكن تستوعب بعد إمامة علي بن ابي طالب ، وهي ربما تكون قبائل كبيرة في الصحراء ، او مجاميع فرعية من قبائل العراقين تخضع لزعماء عمريين ، مثل ابي موسى الأشعري ، الذي كان والي عمر على الكوفة ، والذي كان أيقونة اللاوعي فعليا ، التي ساهمت في إضعاف جبهة علي ، حتى كسر ضلع الحق في قضية الحكمين في صفين ، بسبب ميله لعبد الله بن عمر . حتى راح يثبط الناس عن نصرة علي بن ابي طالب ويرد على الحسن الامام المفترض الطاعة وعلى عمار بن ياسر جدلاً بغير وعي وحجة , وعلي خليفة المسلمين .
وهؤلاء الاعراب صاروا يأخذون دينهم وعقائدهم عن مثل ( الواقدي ) . فيما كان هذا الواقدي الراوي بحفظه لا يستطيع حفظ سورة الجمعة وحدها فضلاً عن كتاب الله . قال أبو بكر الخطيب : كان الواقدي مع ما ذكرناه من سعة علمه ، وكثرة حفظه لا يحفظ القرآن . فأنبأني الحسين بن محمد الرافقي حدثنا أحمد بن كامل القاضي ، حدثني محمد بن موسى البربري قال : قال المأمون للواقدي : أريد أن تصلي الجمعة غدا بالناس ، فامتنع ، قال : لا بد ، فقال : والله ما أحفظ سورة الجمعة ، قال : فأنا أحفظك ، فجعل المأمون يلقنه سورة الجمعة حتى بلغ النصف منها ، فإذا حفظه ، ابتدأ بالنصف الثاني ، فإذا حفظه ، نسي الأول ، فأتعب المأمون ، ونعس ، فقال لعلي بن صالح : حفظه أنت ، قال علي : ففعلت ، فبقي كلما حفظته شيئا ، نسي شيئا ، فاستيقظ المأمون ، فقال لي : ما فعلت ؟ فأخبرته ، فقال : هذا رجل يحفظ التأويل ، ولا يحفظ التنزيل ، اذهب فصل بهم ، واقرأ أي سورة شئت .
يقول الذهبي في خلاصة ترجمته للواقدي ( وقد تقرر أن الواقدي ضعيف ، يحتاج إليه في الغزوات ، والتاريخ ، ونورد آثاره من غير احتجاج ، أما في الفرائض ، فلا ينبغي أن يذكر ، فهذه الكتب الستة ، ومسند أحمد ، وعامة من جمع في الأحكام ، نراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء ، بل ومتروكين ، ومع هذا لا يخرجون لمحمد بن عمر شيئا ، مع أن وزنه عندي أنه مع ضعفه يكتب حديثه ، ويروى ، لأني لا أتهمه بالوضع ، وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه ، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه ، كيزيد ، وأبي عبيد ، والصاغاني ، والحربي ، ومعن ، وتمام عشرة محدثين ، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة ، وأن حديثه في عداد الواهي ) .
فيما يرفض رواة ووعاظ السلاطين اخبار الثقات ، لا لشيء ، سوى تشيعهم لعلي بن ابي طالب ، الذي كان مع الحق وكان الحق معه حيث دار . فقد جعل القوم التشيع تهمة توجب ضعف الراوي وان كان صدوقاً في نفسه ، وانتقاد او ذم فعل الشيخين وعثمان وسائر من انحرفوا عن مسار الأنبياء تهمة أخرى اشنع وسموها ( سبّ الصحابة ) ، والمقام بين النقد والسب يدركه أهل العلم ، ويجهله أهل السياسة ، ومن ثم هم أرادوا اخراج كل نقلة الحقيقة من دائرة الرواية لدرء الفضائح وستر المعايب ، ما استطاعوا الى ذلك سبيلا . الا انهم عجزوا عن قمع الجميع ، فقد كان المصدر لفقه الامة هو علي وصحابته الذين شهدوا معه صفين ، وكان عظماء الرواية أهل الكوفة وشيعة علي . فعن ابن حجر في لسان الميزان قول ابن حبان في الثقات عن المحدّث ( مسلم بن عفان ) : لا أعتمد عليه و لا يعجبني الاحتجاج به للمذهب الردي يعني التشيع. و ذكر مثل ذلك في الذي بعده ( مسلم بن عمار ) ، و في ابن هرمي، و في مولى عليّ، قال: رووا كلهم عن عليّ رضي اللّه عنه . فيما قالوا في علي بن غراب الفزاري. أبو الحسن، ويقال: أبو الوليد، الكوفي القاضي، ويقال: هو علي بن عبد العزيز، وعلي بن أبي الوليد. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن علي بن غراب المحاربي، فقال: ليس لي به خبرة، سمعت منه مجلسا واحدا كان يدلس، ما أراه إلا كان صدوقا. وقال أبو بكر المروذي وسئل – يعني أحمد بن حنبل – عن علي بن غراب، فقال: كان حديثه حديث أهل الصدق. وقال مهنا بن يحيى سألت أحمد عن علي بن غراب، فقال: كوفي قد رأيته جاء إلى هشيم. قلت: جاء إلى هشيم يسمع منه؟ قال: لا، جاء يسلم عليه. قلت: كيف هو؟ قال: ليس له حلاوة . وقال عثمان بن سعيد الدارمي : وسألته – يعني يحيى بن معين – عن علي بن غراب كيف هو؟ قال: هو المسكين صدوق. وقال أحمد بن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول: لم يكن بعلي بن غراب بأس، ولكنه كان يتشيع. قال: وسمعت يحيى بن معين مرة أخرى يقول: علي بن غراب، ثقة . وقال علي بن الحسين بن الجنيد ، عن محمد بن عبد الله ابن نمير: كان علي بن غراب، يعرفونه بالسماع، وله أحاديث منكرة. وقال عبد الرحمان بن أبي حاتم : سألت أبي عن علي بن غراب، فقال: لا بأس به. ويحكى عن يحيى بن معين أنه قال: ظلمه الناس حين تكلموا فيه . وقال: سألت أبا زرعة عن علي بن غراب، فقال: حدثنا إبراهيم بن موسى عنه. وقال يحيى بن معين: هو صدوق. وقال أيضا : قلت لابي زرعة: علي بن غراب، أحب إليك أو علي بن عاصم، فقال علي بن غراب هو صدوق عندي، وأحب إلي من علي بن عاصم . وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود: ضعيف، ترك الناس حديثه. وقال في موضع آخر: أم غراب جدته. وقال عيسى بن يونس: كنا نسميه المسودي، وكان يطلب الحديث، وعليه قباء أسود، وهو ضعيف، وأنا لا أكتب حديثه، أبو داود يقوله. وقال النسائي : ليس به بأس، وكان يدلس. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : ساقط. قال الحافظ أبو بكر الخطيب : أظن إبراهيم طعن عليه لاجل مذهبه، فإنه كان يتشيع، وأما روايته، فقد وصفوه بالصدق . وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال ابن حبان : حدث بالأشياء الموضوعة، فبطل الاحتجاج به، وكان غاليا في التشيع . وقال أبو أحمد بن عدي : له غرائب، وأفراد، وهو ممن يكتب حديثه. قال ومحمد بن عبد الله الحضرمي : مات علي بن غراب، مولى الوليد بن صخر بن الوليد الفزاري أبو الحسن سنة أربع وثمانين ومئة بالكوفة .
لقد تنصّرت قبائل ( تنوخ ) و ( الازد = مذحج + النخع + الغساسنة + المناذرة ) ، وهي من القبائل السبأية ، وكذلك تنصرت قبائل ( تغلب ) و ( بكر بن وائل = شيبان + عجل ) و ( ربيعة ) و ( عبد القيس ) ، وهي من القبائل العدنانية ، وكذلك ( أياد ) و ( جذام ) . وكان ( أنباط ) العراق و ( الآراميون ) و ( الآشوريون ) نصارى ايضا . حتى اصبح العراق القديم ( بلاد الرافدين ) – وهو من ارمينيا حتى قطرايا = قطر , بل حتى عمان التي كانت من اعمال البصرة في زمن جلال الدولة البويهي – كله مسيحياً تقريبا ، يدين بالنسطورية ، التي ترى عيسى بن مريم إنساناً لا الها . وقد صارت ( الحيرة ) المركز الديني الأكبر والأشهر عالميا للمسيحية غير الرومانية .
إِلَّا انّ هذا الإيمان المسيحي كان يقلّ في عمقه العقائدي كلما ابتعد عن وهج النسطورية في العراق . فكان مسيحيو العراق أصلب من غيرهم في عقيدتهم ، لكنّهم دخلوا الاسلام قبل دخول خَيل الجيش الاسلامي بلادهم ، فصار ( المثنى بن حارثة الشيباني ) زعيماً لتلك الجموع المسلمة ، وفي جيشه – الذي زحف الى ذي قار – نحو أربعة آلاف من ( نبط العراق ) ، الذي اطلق عليهم العرب اسم ( الموالي ) ، لأنهم دخلوا في أحلاف موالاة مع القبائل العربية بعد ان كانوا أهل مدنية لا قبلية . والغريب ان العرب من ربيعة ومضر تخاصمت نتيجة حروب هؤلاء الموالي لاحقاً في العصر العباسي انتصاراً لاحد طرفي بني بويه غير العرب , حتى اصلح بينهم عضد الدولة ملك ال بويه .
ان الامر في ( العراق ) لم يكن كما في البلدان الاخرى ، ففيه كانت حوزة العلم النصرانية في الحيرة ، واهله قد استشيعوا لحقّ عليّ في الخلافة ، بعد أنْ عرفوا مكانته من رسول الله ، حين التقى النبي قادة ( شيبان ) و ( عجل ) قبل يوم ( ذي قار ) ، والذي قال بعده انهم به نصروا ، مما يثبت انهم كانوا يعتقدون بدينه ، وأنهم رفعوه شعاراً في معركتهم ، بعدما أوعدهم الخير . كذلك كان أهل العراق خليطاً من الانباط والعرب ، تجمعهم النصرانية والقربى ، وهو ما كان ينفر منه ( عمر بن الخطاب ) جرياً على عادة الجاهلية ، ففرّق بينهم في الموّدة ، كما فرّق بينهم في العطاء ، بعدما اصطلحوا على تسميتهم ب ( العجم ) ، لكونهم انباطاً وآراميين . لذلك كفر أهل العراق جملة بخلافة ابي بكر ، ومن خلفه عمر ، فكان الامر يزداد تعقيداً ، وعند الرواة كذباً وتشويها . وَمِمَّا زاد في سوء الامر انّ أبا بكر أرسل اليهم ( خالد بن الوليد ) ، ذلك الوثني سيّء الخلق . لذلك كان عمر بن الخطاب يطالب ( المثنى بن حارثة الشيباني ) بقوله ( اما بعد فاخرجوا من ظهري الأعاجم … ) ، ودفع الى ( احملوا العرب على الجد اذا جد العجم ) .
ويبدو ان أهل العراق حين رأوْا ان ليس باستطاعتهم عدم تنفيذ امر الخليفة عمر بتأمير سعد بن ابي وقاص عليهم رغم عيوبه ، ومن ثم ان أياً منهم لم يكن ليتقدم لقيادة الناس اذ سيشكوه سعد الى الخليفة ، اختاروا تقديم ابن أخيه ( هاشم بن عتبة بن ابي وقاص ) ، وهو المعروف ب ( المرقال ) احد اهم شيعة علي بن ابي طالب وحامل رايته يوم صفين ، فسعد لن يجرؤ على شكاية ابن أخيه . وقد كانت خطة ذكية جداً ، فقد كان المرقال جسوراً محنكاً ، لحق فلول الفرس الى جلولاء ، وتعاون مع الانباط السكان المحليين لمباغتة الفرس ، واقتحم فلولهم وحده بجيشه الخاص حين أحجم أمراء عمر وسعد ، فانتصر عليهم لا سيما في معركة جلولاء الفاصلة . وكل هذه البطولات من شيعة علي وأهل العراق وصلتنا رغم ما اخفته أقلام السلطة والعداوات القبلية والمذهبية ، فبعض الروايات لم تكن دقيقة لانها أخذت عن غير أهلها وممن لم يحضر تلك الوقائع ، كما في النقل عن عائشة وترك روايات أهل العراق الذين شهدوا تلك الأيام .
لهذا لم يجد عمر بن الخطاب بدّاً من تولية حُذيفة بن اليمان على أهل الكوفة حينئذ ، اَي منذ القادسية ، لتشيعه الواضح لعلي بن ابي طالب ، ولحاجة الخليفة لهذه القبائل الشيعية يومئذ وارتباكه تجاه طريقة التعامل معها . فقادة عمر الذي بعثهم من المدينة والأعراب أهاجوا أهل السواد بسلب أموالهم ومواشيهم وارهاب أهليهم . ومن الغريب ان تغير هذه القوات على قرى قبائل تغلب والنمر رغم مشاركة الأخيرتين في نصرة الجيش الإسلامي . وهنا يكمن الفرق في الأخلاق والدين بين الجيشين العراقي والأعرابي الذي خشي عمر تأثيره على قبائل العراق العربية فيقلبها ضده ، فاستعان بمثل حُذيفة لضبط الأمور . وقد ورّثت هذه الاخلاق في الأجيال التي تبعت عقيدة علي بن ابي طالب فقد رفض جلال الدين ملك باميان الشيعي في العصر العباسي وضع يده بيد الاتراك لخيانة ملكهم رغم اغراء المكاسب المحتملة حفاظاً على العهود .
لقد كان الصراع في بدء الدعوة الاسلامية قائماً بين ( قريش ) الوثنية وحلفائها وبين الاسلام الدين الناهض بالتوحيد ، لذلك لم يكن هناك ذكر للمواجهة مع القبائل النصرانية الكبرى ، رغم قوتها .
حين جاء وفد ( عبد القيس ) بقيادة ( الجارود ) الى رسول الله أراد الجارود التأكّد من شيء واحد فقط ، هو الّا يكون دين الاسلام دون مستوى النصرانية ، فأخبره الرسول انّ الاسلام خير مما يدين به ، فاسلم وأسلمت عبد القيس ، وكانوا أشدّ الناس في اعتقادهم ، حتى انهم كانوا في وجه الاسلام العمري الأموي بالسلاح . فقال رسول الله عنهم (( أتوني لا يسألون مالاً وهم خير أهل المشرق )) . فيما اسلم من ( عبد القيس ) – وهي من أجَلّ القبائل التي ناصرت عليّاً – ( المنذر بن ساوي العبدي ) ملك البحرين ، وكان نصرانيا ، واسلم معه قومه ، على زمن رسول الله ، بلا جند ولا فتح ، حيث أرسل الى النبي يخبره باسلامه ، ويسأله في امر غير المسلمين في بلاده .
فيما اسلم الكريم ( عدي بن حاتم الطائي ) سيد ( طَي ) ، وكان نصرانياً ، بعد ان أخبرته اخته ( سفانة ) بكرم خلق رسول الله ، الذي أطلقها ، وأطلق قومها كرامة لها ، بعد ان علم انها ابنة الكريم في العرب ( حاتم الطائي ) . وكانت ( كلب ) قد أرسلت وفداً ، اسلم ، وعاد اليها فأسلمت ، وكتب لهم رسول الله كتابا ولأهل ( دومة الجندل ) . ولا يمكن اغفال قصة الإسلام الطوعي لنصراني من نينوى اسمه ( عداس ) التقاه رسول الله في الطائف سريعاً لمجرد انه سمع كلام النبي فأحس بكينوته بفطرته التوحيدية . فيما كان أنصار عثمان بن عفان المحتملين عند ثورة الامة الإسلامية عليه هم الأعراب في البصرة ، وربما هم ذاتهم من شهدوا الجمل مع عائشة ، والبصرة كانت يومئذ تضم اكثر من نصف الخليج الحالي ، وأجناد الشام ، من القبائل اليمنية الجنوبية المهاجرة ، الذين تربوا في مدرسة بني أمية . وقد كانت بقية الامة بثورتها الإيمانية الشعبية قد استحقت قيادة رجل مثل علي بن ابي طالب حينئذ ، كما استحق أهل العراق بعد الانتفاضة الشعبانية على الطاغوت البعثي الصدامي قيادة رجل كبير مثل الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر . فيما لم يستحق أهل الشام سوى رجل مثل معاوية ، مخادع ، اذل ابناءهم وأحفادهم ، الامر الذي جعلهم يثورون على ورثته لاحقا . فهم كما وصفهم ( زيد بن حصين الطائي ) احد أصحاب البرانس المجتهدين ( ما ارتبنا طرفة عين فيمن يبتغون دمه فكيف باتباعه القاسية قلوبهم القليل في الإسلام حظهم أعوان الظلم ومسددي أساس الجور والعدوان ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين باحسان ) .
وقد كان جيش معاوية عموده قبيلة ( عك ) ، وهي حلف وثني كان يحج الى مكة في عصر عبادة الأصنام . وقد كانوا يقاتلون في صف معاوية على الدنيا . فحين برزت همدان من جيش علي لحرب أهل الشام ، ندب معاوية قبيلة عك لمواجهتهم ، ( فقال ابن مسروق العكي أمهلوني حتى آتي معاوية ، فاتاه ، فقال : اجعل لنا فريضة ألفي رجل في ألفين ألفين ومن هلك فابن عمه مكانه لتقر اليوم عينك . قال : ذلك لك . فرجع ابن مسروق إلى أصحابه فأخبرهم الخبر فقالت عك نحن لهمدان فتقدمت عك إلى همدان ) . وكذلك قبائل اليمن الجنوبية ( السكاسك ) و ( السكون ) و ( الأشعريون ) . وكانت عك والأشعريون قد ارتدت عن الإسلام فور سماعهم خبر وفاة النبي بحسب ما روى القوم ، فسماهم أبو بكر الاخابث .

لذلك كله كان من السهل خداع قائد دنيوي كبير لقسم كبير من العرب وهو ( ذو الكلاع الحميري ) من قبل معاوية ورجاله ، ومن ثم أفهامه ان علي بن ابي طالب واصحابه قد قتلوا رجلاً صالحاً اسمه ( عثمان بن عفان ) ، لتقوم كبرى حروب المسلمين الداخلية ( صفين ) بإصرار منه ، نتيجة سذاجته ، لا نتيجة بغضه عليا ، ودليل ذلك انه دخله الشك عندما سمع حديثاً عن الرسول مضمونه ان عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية ، وعمار كان في صف علي بن ابي طالب ، فكان أمراً جللاً على ذي الكلاع الذي هو أقوى من معاوية عمليا . حتى قتل خندف البكري ذا الكلاع الحميري، و تضعضعت أركان حمير، و ثبتت بعد ذي الكلاع تحارب مع عبيد اللّه بن عمر . وكانت هذه القبائل وفدت الى الشام من اليمن وما بين مكة واليمن في زمن ابي بكر بديلاً عن جيش رسول الله وقادته الذين كانوا على خلاف فكري مع ابي بكر حول موضوع الخلافة ، وكذلك بديلاً موضوعياً لقبائل العراق في الشمال العربي المهم التي كانت تعرف ما عليه كيان الانقلاب ، فكانت قبائل اليمن اول ما عرفت الإسلام عن طريق أمثال يزيد بن ابي سفيان احد اهم قادة ابي بكر الى الشام ، بالإضافة الى أخيه معاوية الذي أمده به أبو بكر في جند اخرين ، ليتم لكفار قريش قيادة الجيش الاسلامي . حتى ان هذه القبائل الجنوبية اليمنية ظلت الى جوار يزيد بن ابي سفيان حين فصل عمر بن الخطاب بين أهل العراق وأهل اليمن بعد فتح الشام ، اذ كانت هذه القبائل العراقية الشمالية واليمنية الجنوبية شوكة جيش المسلمين ، ولما كانت الشمالية موالية لعلي بن ابي طالب ، كان لابد من إعادة توجيه بوصلة الجنوبية ضده .
امّا العداء التاريخي للعراق ( السواد ) فقد نشأ – كما هو متوقع – عن كعب الأحبار أيضاً ، يعزّزه العقل الجدلي الذي تعامل من خلاله العراقيون مع بدع عمر وحزبه ، ورفضهم لسفك الدم المسلم ، على خلاف باقي الشعوب البدوية التي انساقت لحزب عمر . فعن ( تاريخ دمشق ) لابن عساكر : ( أَخْبَرَنَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ السَّمَرْقَنْدِيِّ ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ النَّقُّورِ ، أنا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُعَيْبٍ ، أَنْبَأَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، أَنْبَأَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ ، وَأَبِي حَارِثَةَ ، وَالرَّبِيعِ يَعْنِي ابْنَ النُّعْمَانِ الْبَصْرِيَّ بِإِسْنَادِهِمْ ، قَالُوا : قَالَ كَعْبٌ حِينَ اسْتَشَارَ يَعْنِي عُمَرَ النَّاسَ : بَأَيِّهَا تُرِيدُ أَنْ تَبْدَأَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : بِالْعِرَاقِ ، قَالَ : فَلا تَفْعَلْ فَإِنَّ الشَّرَّ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ وَالْخَيْرُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ ، فَجُزْءٌ مِنَ الْخَيْرِ بِالْمَشْرِقِ وَتِسْعَةٌ بِالْمَغْرِبِ ، وَإِنَّ جُزْءًا مِنَ الشَّرِّ بِالْمَغْرِبِ وَتِسْعَةً بِالْمَشْرِقِ ، وَبِهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ وَكُلُّ دَاءٍ عُضَالٍ ، فَعَزَمَ عَلَى الشَّامِ . ) . وكعب الأحبار يعلم جيداً انّ العراق لن يخضع لظلموت الحضارة الباطنية القابيلية التي يمثّلها هو وعمر . لكن أليس معيباً أنْ يستمع خليفة المسلمين لقول يهودي لم يسلم الّا قبل فترة وجيزة ، ويذر هذا الجهاد العظيم لأهل العراق ضد فارس والروم ، فضلاً عن احاديث النبي والصحابة في فضل العراق واهله ! .
لقد ترك كعب الأحبار عقائداً وافكاراً تناسب يهوديته ، اخذها فقهاء السلطان ونشروها . ومن ذلك قضية اي ولدي النبي ( ابراهيم ) كان الذبيح ، هل هو اسماعيل ام إسحاق ؟ . فروي عن ( كعب الأحبار ، ابي هُريرة ، عكرمة ، السدي ، الطبري ، البيهقي ، الجيلاني ، المخزومي القرشي ) نقلاً عن ( ابن عباس ) انّ الذبيح هو ( إسحاق ) . لكنّ الغريب انّ الروايات التي تروي انّ الذبيح هو ( اسماعيل ) – كما هو مشهور المسلمين – ترجع لابن عباس أيضاً ! . وقد نُقل ذلك عن ( مجاهد ، الشعبي ) ، وهما من تلامذة ابن عباس ، كما هو ايضاً ما نقله ( الشريف الرضي ) . ومن ذلك نعلم مدى التزوير الذي اصاب عقائد الاسلام بظهور ( الاسلام العمري ) .
ورغم انّ ( كعب الأحبار ) كان مهتماً بتزوير العقائد وحرفها ، لانها أساس العمل ، الّا انه لم يشأ إِلَّا ان يترك بصمة من التخريب في ( الفقه ) ايضا . ففي كتاب ( الاستذكار ) لابن عبد البر ( وأما قوله في حديث مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : ثم كما كانوا ببعض طريق مكة قرت بهم رجل من جراد ، فأفتاهم كعب أن يأخذوه فيأكلوه ، فلما قدموا على عمر بن الخطاب ذكروا له ذلك . فقال له : ما حملك على أن تفتيهم بهذا ؟ قال : هو من صيد البحر . قال : وما يدريك ؟ قال : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت ينثره في كل عام مرتين ) . ولا نعلم كيف قبل الخليفة منه ذلك ؟! .
وفي القرن الثاني ضعف ذكر ( كعب الأحبار ) – اسماً – لسببين : الاول لانتشار علوم المدرسة العلوية للإمام محمد بن علي الباقر ، ومن بعده الإمام جعفر بن محمد الصادق ، وكان تلامذتها اكثر من أربعة آلاف راوٍ وفقيه . والثاني لتطور العقلية الاسلامية من المنطقة البدوية الى المنطقة الحضرية ، فصار من السهل اكتشاف التلاعب السياسي الديني المزدوج للانقلابيين ، لذلك ارتأى سدنة التاريخ السلطوي الرسمي الإبقاء على روايات كعب وتورية اسمه ، ليهوديته .
لكنّ فقه ( كعب الأحبار ) صار ديناً يتبعه الناس . فهذا ابن اعين القرشي المصري ينقل في ( فتح مصر وأخبارها ) : ( حدثنا ابن عفير حدثنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة أن عمرا دعا خالد بن ثابت الفهمي جد ابن رفاعة ليجعله على المكس فاستعفاه منه . فقال له عمرو : ما تكره منه ؟ قال : ان كعبا قال ” لا تقرب المكس فان صاحبه في النار ” ) .
وقد اسلم الدين العمري قياده في قصصه الى اليهوديين ( كعب الأحبار ) و ( وهب بن منبه ) . فالأول كان المصدر الذي استقى منه ( الثعلبي ) القصصي المشهور عند القوم . والثاني استقى منه ( الطبري ) الراوي الأشهر . وقد كان لهما نظام خاص في ذلك ، حيث الاغماض عن الأسانيد ، والرواية المباشرة عنهما .
وَمِمَّا أورد الطبري في تاريخه من ضلالات ( كعب الأحبار ) الرواية ( حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: أَلا أُخْبِرُكَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّبِيِّ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
بَلَى، قَالَ كَعْبٌ: لَمَّا أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ ذَبْحَ إِسْحَاقَ، قَالَ الشَّيْطَانُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ أَفْتِنْ عِنْدَ هَذَا آلَ إِبْرَاهِيمَ لا أَفْتِنْ أَحَدًا مِنْهُمْ أَبَدًا، فَتَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ لَهُمْ رَجُلا يَعْرِفُونَهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْحَاقَ لِيَذْبَحَهُ دَخَلَ عَلَى سَارَّةَ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ أَصْبَحَ إِبْرَاهِيمُ غَادِيًا بِإِسْحَاقَ؟ قَالَتْ: غَدَا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لا وَاللَّهِ مَا لِذَلِكَ غَدَا بِهِ، قَالَتْ سَارَّةُ: فَلِمَ غَدَا بِهِ؟
قَالَ: غَدَا بِهِ لِيَذْبَحَهُ، قَالَتْ سَارَّةُ: لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، لَمْ يَكُنْ لِيَذْبَحَ ابْنَهُ، قَالَ الشَّيْطَانُ: بَلَى وَاللَّهِ، قَالَتْ سَارَّةُ: فَلِمَ يَذْبَحُهُ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَتْ ساره: فهذا حسن بِأَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ إِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ.
فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ عِنْدِ سَارَّةَ حَتَّى أَدْرَكَ إِسْحَاقَ وَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَثَرِ أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ أَصْبَحَ أَبُوكَ غَادِيًا بِكَ؟ قَالَ: غَدَا بِي لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لا وَاللَّهِ، مَا غَدَا بِكَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، وَلَكِنَّهُ غَدَا بِكَ لِيَذْبَحَكَ ، قَالَ إِسْحَاقُ: مَا كَانَ أَبِي لِيَذْبَحَنِي، قَالَ: بَلَى، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ امره بذلك، قال إسحاق: فو الله لِئَنْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَيُطِيعَنَّهُ، فَتَرَكَهُ الشَّيْطَانُ وَأَسْرَعَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: أَيْنَ أَصْبَحْتَ غَادِيًا بِابْنِكَ؟ قَالَ: غَدَوْتُ بِهِ لِبَعْضِ حَاجَتِي، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا غَدَوْتَ بِهِ إِلا لِتَذْبَحَهُ، قَالَ: لِمَ أَذْبَحُهُ؟
قَالَ: زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ أَمَرَكَ بذلك، قال: فو الله لِئَنْ كَانَ أَمَرَنِي رَبِّي لأَفْعَلَنَّ، قَالَ: فَلَمَّا أَخَذَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ لِيَذْبَحَهُ وَسَلَّمَ إِسْحَاقُ أَعْفَاهُ اللَّهُ، وَفَدَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لإِسْحَاقَ: قُمْ أَيْ بُنَيَّ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْفَاكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِسْحَاقَ: إِنِّي أُعْطِيكَ دَعْوَةً أَسْتَجِيبُ لَكَ فِيهَا، قَالَ إِسْحَاقُ: اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَدْعُوكَ أَنْ تَسْتَجِيبَ لِي: أَيُّمَا عَبْدٍ لَقِيَكَ من الأولين والآخرين لا يشرك بك شَيْئًا فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ ) .
ولم وجد كتبة السلطان انّ كعب الأحبار لم يعد كافياً لسدّ حاجة المجتمع الى المعرفة ، بعد ارتقاء العقل الاسلامي نحو المدنية اكثر ، صاروا بحاجة الى المزيد من الروايات والاحاديث والتفسيرات ، التي يمكنها ان تواجه ألكم المعلوماتي والخزين المعرفي للائمة الشرعيين من ( ال محمد ) ، والّا ستلجأ الأمة اليهم حتماً لسدّ حاجتها المعرفية . فابتدع القصّاصون وائمة الباطل قصصا واحاديثاً جديدة ، على منوال ونهج ( كعب الأحبار ) ومسلمة اليهود ، ارضاءً لجمهور وقادة الحزب العمري . فيجد الباحثون انّ الأحاديث التي تضمّنت وصف الأنبياء السابقين وأحوالهم تُنسب في ( صحيح مسلم ) لرسول الله ، لكنّها عند ( الثعلبي ) تُنسب الى ( كعب الأحبار ) ! . وفيما يورد ( ابن سعد ) قصة مرض الملك ( حزقيا ) على لسان كعب ، فالثعلبي يدمجها في قصة اكبر على لسان ( ابن إسحاق ) . وربما يكون من نتاج تفشي ثقافة روايات كعب الأحبار في المجتمع ان ينسب تغيير القبلة وفرض الصيام الى تأثر النبي بافعال اليهود ، وان الله انزل هذه الشرائع كردود أفعال منه تجاه أقوال واراء اليهود ، لا انها شرائع ربانية مستقلة لها حكمة خاصة بعيدة المدى ، لا سيما انهم وضعوا في بعض رواياتها صوم اليهود يوم عاشوراء وادخلوا في هذا الْيَوْمَ مناسبات دينية تاريخية ، ثم نسبوا انه اول فرض للصيام على المسلمين . تضييعاً منهم – رواة السلطة – لحق الحسين بن علي في هذا أليوم .
إذن رغم كل هذه الحروب والمنازعات ، كان هناك امر إيجابي حاسم في التاريخ الإيماني ، حيث خرج الكثير من النواصب وضعيفو الإيمان وأهل الدنيا عن العراق . اذ ان من بالكوفة والبصرة من العثمانية قد هربوا فنزلوا الجزيرة في سلطان معاوية . كما انتقل جزء كبير ممن كان قد شارك في الجمل ضد الإمام الشرعي علي بن ابي طالب الى صفه عند معركة صفين ، لا سيما من ازد البصرة تحت قيادة صبرة بن شيمان الازدي ، ومن تميم والرباب . الامر الذي سمح لهم بلقاء وجوه الصحابة والتابعين ، والاحتكاك بالفكر الكوفي ، كما سمح لهم بمعرفة علي بصورة مباشرة ، الامر الذي سيكون كفيلاً بتغيير القناعات والأفكار تجاه مفهوم الإمامة .
وهذا كله وفارس لم تعرف بعد علي بن ابي طالب ، فيما ينسب أهل الباطل من كتّاب السلاطين التشيع اليها . حتى انهم خرجوا على عامله سهل بن حنيف قبل عام ٤٠ هجرية ، وأخرجوه ، فوّلى عليهم احد الموالي الذي يعرف تدابيرهم وطريقة عيشهم ، وهو زياد بن ابيه ، الذي استلحقه معاوية بعد ذلك وقرّبه ، فأجاد إدارة إقليمهم الشائك .

ومن كل ما ذكر أعلاه نعلم ان الذين قاتلوا الى جانب علي بن ابي طالب هم وجوه الصحابة وصلحاؤهم وزعماء القبائل الكبرى من وجوه العرب ونبلاء الناس وذراريهم ، وان الذين نصروا الخلافة الانقلابية وبني امية هم مسلمة الفتح وزعماء الاعراب وذراريهم وورثة الكفار وأهل الضيعة من الناس .
ويمكننا ان نقارن حال ( سعيد بن جبير ) الأسدي الذي كان أمة في رجل ، وهو امر تكشفه همة السلطة في القبض عليه . وقد كان جبير (أبو سعيد) ابن هشام الأسدي محدّث. أخذ عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وسعيد بن جبير الشهيد كان من أصحاب الإمام زين العابدين (عليه السلام)، قتله الحجاج لسبب عقيدته و إيمانه و ثباته و جهاده، قال أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى 276 ه: و ذكروا أنّ مسلمة بن عبد الملك كان واليا على أهل مكة، فبينما هو يخطب على المنبر إذ أقبل خالد بن عبد اللّه القسري، من الشام واليا عليها، فدخل المسجد فلما قضى مسلمة خطبته، صعد خالد المنبر فلما ارتقى في الدرجة الثانية، تحت مسلمة أخرج طومارا مختوما ففضّه ثم قرأه على الناس فيه: ( بسم اللّه الرحمن الرحيم … من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى أهل مكة، أما بعد فإنّي وليت عليكم خالد بن عبد اللّه القسري، فاسمعوا له و أطيعوا و لا يجعلنّ امرؤ على نفسه سبيلا فإنّما هو القتل لا غير. و قد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير و السلام). ثم التفت إليهم خالد، و قال: و الذي نحلف به و نحج إليه لا أجده في دار أحد إلا قتلته، و هدمت داره، و دار كل من جاوره، و استبحت حرمته. و قد أجلت لكم فيه ثلاثة أيام ثم نزل. و دعا مسلمة برواحله و لحق بالشام . وسعيد بن جبير هو الناقل لأحاديث رزية يوم الخميس ومنع القوم رسول الله ان يوصي ، نقلها عن ابن عباس ، لهذا اضطهدوه سياسيا حتى قتلوه .
وحال المفتي ( عطاء بن ابي رباح ) , وقد جعله عتاة بني أمية على الإفتاء وهو مولى نوبي ولد في زمن عثمان . وفِي المدينة لازال خيار من الصحابة وأجلاء التابعين وصفوة ال محمد . وقد وضع له كتّاب السلطان الأحاديث في علمه وفهمه ، يناقض بعضها بعضا ، حتى جعلوه أفضل من كل رجالات عصره ، وفيهم الصحابة والتابعون وال محمد . بل ولم يسمحوا بان يفتي في الحجاز احد الا ابن ابي رباح . فهو احد الناقلين زوراً احاديث مرض النبي في فضل ابي بكر .
من هنا نجد ان الأنصار من الاوس والخزرج قد هاجروا فرادى وجماعات من المدينة الى الكوفة بمرور الزمن والاحداث والمواقف ، لتتشكل رؤى جديدة بامتزاج ماء الحجاز بماء العراق ، تحت رعاية وأبوية الأئمة المعصومين من ال محمد . وهي مرحلة تضمنت وأعقبت خروج النواصب من العراق نحو بلدان أخرى .
كما هاجر بعض ( همدان ) الى جرجان ، من أقاليم ايران الْيَوْمَ واليه ينتسب جملة من الفلاسفة نتيجة هذا المد المبارك ، ومنهم ( سعيد بن نمران الهمداني الناعطي ) المتوفى 70 ه. الذي أدرك من حياة النبي (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أعواما. و كان كاتبا لأمير المؤمنين (عليه السلام). و حدّث و روى عنه عامر بن سعيد. شهد اليرموك و سار إلى العراق مددا لأهل القادسية. و كان من أصحاب حجر بن عدي، و سيّره زياد بن أبيه، مع حجر إلى الشام فأراد معاوية قتله، فشفع فيه حمزة بن مالك الهمداني، فخلّى سبيله. مات حدود السبعين. و جاء في بعض المراجع سعد بن نمران. و لما ولي مصعب بن الزبير الكوفة استقضى سعيد بن نمران ثم‌ عزله، و هاجر سعيد إلى جرجان فسكنها و اختط بها .
كما بدأ أصحاب علي وتلاميذهم مشروعهم العلمي والتنويري داخل الامة . فهذا (أبو الأسود الدؤلي) ظالم ابن عمرو بن سفيان بن عمرو بن جندب بن يعمر بن حلس بن نفاثة بن عدي بن الدّؤل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة . التابعي البصري، و المؤسس لعلم النحو، و واضعه. كان من الطبقة الأولى من شعراء الإسلام، و قد وضع أساس النحو بإشارة من أمير المؤمنين‌ (عليه السلام) و ألّفه و هذّبه، و كان نازلا في بنى قشير، و كانوا يبغضونه لحبه عليا (عليه السلام) و يرمونه في الليل بالحجارة فإذا أصبح شكى ذلك، فقالوا: ما نحن نرميك، و لكن اللّه يرميك، فقال: كذبتم لو رماني اللّه ما أخطأني. مات 69 ه بالطاعون الجارف بالبصرة. و خلفه: أبو حرب، محدّث مشهور. كما كانت زوجته شاعرة فاضلة لها شعر في المعاجم. و كان أبو الأسود خطيبا عالما جمع شدة العقل، و صواب الرأي، و جودة اللسان، و قول الشعر و الظرف. و هو أول من نقط المصحف، و قيل: إنّ أول من نقط المصحف يحيى بن يعمر العدواني، تلميذ أبي الأسود .
وفِي بلاد المغرب من طنجة كان هناك ( عثمان – الأشج – ابن الخطاب بن عبد اللّه بن العوام البلوي المغربي ) المعروف بابن أبي الدنيا المتوفى 327 ه . محدّث. عاش دهرا طويلا، و قدم بغداد بعد سنة ثلاثمائة بعدة سنين. و روى عنه العلماء من أهل النقل. و هو من المغرب من بلدة تسمى (رندة) ولد في عهد أبي بكر، و توجه مع أبيه إلى الكوفة للقاء أمير المؤمنين‌ (عليه السلام) فاجتمع به و هو (عليه السلام) خارج إلى صفّين. و أخذ عنه أحاديث، و لم يزل يتتبع أثره في الأوقات و يلح عليه، و يأخذ منه حديثا بعد حديث، و حين دخل عثمان بغداد، و اجتمع الناس عليه في دار إسحاق، و أحدقوا به و ضايقوه قال: لا تؤذوني فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول، قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم): كل مؤذ في النار- . و كانوا يكنونه بأبي الحسن، و يسمونه عليا. و مات سنة سبع و عشرين و ثلاثمائة، و هو راجع إلى بلده. وهو كما هو واضح اشتهر بكونه متشيعاً لعلي بن ابي طالب بعقيدة راسخة ، وقد تسنى له بكل تأكيد خلال هذا العمر المديد ان يكون من أعمدة التشيع في بلدان المغرب العربي ، مع ما له من ذاكرة ضخمة واطلاع على الحقائق .
وفِي مصر لعب أمثال ( عبد الله بن زرير الغافقي ) دوراً كبيراً في نشر التشيع في مصر في صدر الإسلام . ورغم ان العامة من علماء السلطان وثقوه ، اذ قال أَحْمَد بْن عَبْد اللَّهِ العجلي : مصري ، تابعي ثقة . وقال مُحَمَّد بْن سَعْد : كَانَ ثقة ، ولَهُ أحاديث. وذكره ابْن حبان فِي كتاب الثقات . رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُد ، والنسائي ، وابن ماجه . الا انهم لم ينقلوا جلّ احاديثه ، لانه على ما يبدو كان مدرسة علوية اثرت في الإقليم المصري ، بدليل ان ( عَبْد الْمَلِك – بن مروان – قال – له – : مَا حملك عَلَى حب أَبِي تراب إلا إنك أعرابي جاف ، قال : فَقُلْتُ ، والله لَقَدْ قرأت الْقُرْآن قبل أَن يجتمع أبواك ) . ولا يمكن ان نتصور ان يكلمه الخليفة وهو عالم مغمور ولا نشاط له ، الا اذا كان بلغ من أمره في التشيع ونشره ما بلغ . مَاتَ فِي خلافة عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان سنة إحدى وثمانين . ويكفي في معرفة نشاطه ما رواه عن علي بن ابي طالب عن رسول الله ( تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فِتْنَةٌ يُحَصَّلُ فِيهَا النَّاسُ كَمَا يُحَصَّلُ الذَّهَبُ فِي الْمَعْدِنِ ، فَلا تَسُبُّوا أَهْلَ الشَّامِ ، وَلَكِنْ سُبُّوا شِرَارَهُمْ فَإِنَّ فِيهِمُ الأَبْدَالُ ، يُوشِكُ أَنْ يُرْسَلَ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ سَيْبٌ مِنَ السَّمَاءِ ، فَيُغْرِقُ جَمَاعَتَهُمْ حَتَّى لَوْ قَاتَلَتْهُمُ الثَّعَالِبُ لَغَلَبَتْهُمْ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ خَارِجٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فِي ثَلاثِ رَايَاتٍ ، الْمُكْثِرُ يَقُولُ : هُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا ، وَالْمُقِلُّ يَقُولُ : هُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا ، إِمَارَتُهُمْ : أَمِتْ أَمِتْ . يُلْقُونَ سَبْعَ رَايَاتٍ تَحْتَ كُلِّ رَايَةٍ مِنْهَا رَجُلٌ يَطْلُبُ الْمُلْكَ ، فَيَقْتُلُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ، وَرَدَّ اللَّهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَلْفِيَتَهُمْ ، وَنِعْمَتَهُمْ ، وَقَاصِيَهُمْ ، وَبَرَارِيَهُمْ ) . كذلك إرسال عبد العزيز بن مروان اليه وسؤاله إياه عن عثمان بن عفان ، فاعرض عنه . كان من شيعة علي والوافدين اليه من أهل مصر ، وقد شهد معه صفين ، رغم بعد الشقة .
لم يجد الشيعة زماناً سهلاً يسيراً في تاريخهم ، بل هم من صنعوا التاريخ الخاص بهم بالجهد والعلم والدم التضحوي . حتى حين انفرط عقد بني امية وجاء بنو العباس الذين كانوا من بني هاشم وقامت دعوتهم على طلب الرضا من ال محمد ، اذ نكث العباسيون عهدهم وكانوا أشد زماناً على الشيعة بعد زمان معاوية والحجاج . فهذا خليفتهم أبو جعفر الدوانيقي اول من اشاع من العباسيين فكرة كفر ابي طالب ليرفع من مقام جدهم العباس بن عبد المطلب . بل ان بني العباس اول من استخدم الاحتجاج الفكري عملياً ضد الأئمة من أولاد فاطمة بنت محمد ، لما وصلوا الى السلطة واعتزوا بالملك ، وحقداً منهم على بني الحسن بن علي الذين كانوا دائمي الثورة ، وحسداً لمقام الأئمة من ولد الحسين بن علي بين المسلمين . وقد ابتدأت في عهدهم حمى الاحتجاج الفكري ، بعد ان اقتصر بنو امية قبلهم على الذبح . الا ان هذه الاحتجاجات لم تكن في صالح بني العباس مطلقا . وقد يظن من يقرأ تاريخ ما جرى من انقلاب بعد رسول الله محمد من قتل وتشريد وسلب وملاحقة وتجويع لذريته وشيعتهم دون ان يعرف ما جرى لاحقاً ان هذه الطائفة لم تقم لها قائمة . لكنّ الحقيقة ان الذي جرى معجزة رسالية اذ انتشر الشيعة بعلومهم في مختلف بقاع الأرض وغلبوا بعقيدتهم كل الماكنات الإعلامية للسلطة الغاصبة لحقوق ائمتهم ، حتى ظهور دولة السلاجقة .
لقد كان الشيعة يملكون من الاحتجاج ما عجز عنه خصومهم ، وكانت اغلب دولهم تنطلق بجهود شخص واخد من ال محمد . فهذا الشريف ادريس من ال الحسن يصل المغرب ويؤسس الدولة الإدريسية بجهود دعوية فردية ، حتى انضمت لها القبائل البربرية الكافرة التي لم تدخل في الإسلام من قبل ، بالإضافة لجموع من المسلمين . رغم كونه رجلاً هارباً من بطش سلطة الخلافة ، فكيف اذا تسنت لآل محمد حرية الدعوة . وقد ساعده على الوصول الى هناك صاحب بريد مصر للعباسيين المسكين مولى صالح بن منصور الذي كان شيعياً أيضا . اذ اجتمعت لإدريس – وهو فرد واحد ما معه سوى مولاه راشد – قبائل البربر زواغة ولواتة وسدراتة وغياثة ونفرة ومكناسة وغمارة ، يبايعونه على الطاعة طوعاً لا كرها ، وأسلمت على يديه قبائل كانت على اليهودية والنصرانية وباقي الأديان ، مثل قندلاوه وبهلوانة ومديونة ، وبذلت له أمراء قبائل يعرب ومغراوه وزناتة الطاعة . وكان كل ذلك طوعاً بالحجة واللسان ، وهو امر لم يجر الا على يد الشيعة غالباً . حتى ان الأغالبة حين سموا ادريس وقتلوا مولاه راشد غيلة نيابة عن العباسيين أصرت قبائل البرابرة على انتظار ولده ادريس وهو حمل حتى يكبر ليبايعوه رضيعاً ثم طفلاً ثم شابا ، وكذلك فعلوا . الامر الذي يكشف مستوى قناعتهم بدعوة هذه الاسرة رغم انتشار دعاة العباسيين وولاتهم في كل العالم . ولو كانت هذه الدعوة بالسيف لما استقام امرها يوماً واحدا . وقد استعان ادريس بمساعدين عرب من الازد والخزرج . وقد بنى المساجد ودور العلم وبنى المدن ونشر الأمان في عموم المغرب الإسلامي .
وفي شبه الجزيرة العربية كانت هناك دول شيعية قوية ، منها في اليمامة دولة بني الأخضر ، وهو محمد بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن ابي طالب . وفِي مكة دولة بني سليمان بن دَاوُدَ بن الحسن المثنى . ثم دولة الهواشم المنتسبة الى محمد بن جعفر بن ابي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله ابي الكرام بن موسى الجون . ثم دولة بني ابي قمي المنتسبة الى ابي عزيز قتادة بن ادريس مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجون . وفِي المدينة المنورة دولة لولد الهناء بن طاهر بن مسلم من ولد الحسن بن علي بن ابي طالب . ولقد قامت لبني الحسن دولة بني صالح في غانا عند حدود المحيط في افريقيا في زمن هروبهم من العباسيين وبطشهم ، وهم من ولد صالح بن موسى بن عبد الله الساقي بن موسى الجون .
وكان هذا الانتشار العالمي العظيم للتشيّع سبباً في ادعاء صاحب الزنج عند ثورته على العباسيين النسب الى العلويين ، رغم انه لم يكن منهم ، بل وكان في عقيدته خارجياً من الأزارقة يلعن طرفي الجمل وصفين . بدليل ان أهل البحرين الشيعة قد قاتلوه وطردوه ، فيما كانت بعض تميم في أطراف البصرة تؤويه . وبسبب انتشار التشيع بين القبائل العربية حينذاك اضطر العباسيون ان يستعينوا بالترك لقتال وردع صاحب الزنج الذي أسس جيشاً من العبيد وطالبي الغنائم من الاعراب . وقد استغل الزنج هذه الفجوة بين المؤسسة الرسمية التي كانت عقيدتها تخالف عقيدة أهل البيت وبين الجمهور الإسلامي العربي المحيط الذي ينتمي لعقيدة التشيع . فكان الزنج يعلمون ان العباسيين يخشون الاستعانة بالعرب ، وأنهم سوف يستعينون بالترك اللذين لا يعرفون هذه البلاد . وهو الامر الذي ساهم في استفحال الظاهرة التركية لاحقاً في بلاد العرب . وقد انهزم الترك فعلاً امام الزنج عدة مرات . كما انشغلت القبائل الشيعية العربية بمحاولة كبح جماح الترك اللذين سلطتهم الدولة العباسية على المدن العربية ، اذ لم يكن للترك حينها من مبادئ وعادات تناسب ما عليه الثقافة العربية الإسلامية ، بل كان جل همهم جمع المال والسلطة بأية وسيلة . أضف الى ذلك تذبذب القبائل والإمارات الكردية القريبة بحسب ميزان القوى ، اذ تهادن من يملك القوة حينها . ولهذا السبب العقائدي ايضاً استعان العباسيون بالترك لقتال العلويين في بلاد فارس . كما استعانوا بالموالي السامانيين في بلاد فارس بقيادة إسماعيل بن احمد الساماني الذين كانت تقوم سياستهم على التعذيب والحرق لقتال العلويين بقيادة محمد بن زيد احد بني الحسن بن علي بن ابي طالب الذين انضم اليهم الديلم ذوو الأصل السومري العراقي طوعا . حتى انه في ظاهرة فريدة كان رأس ليلى بن النعمان قائد الديلم من الرؤوس النادرة التي حملت من الشرق الى بغداد لارضاء بني العباس ولا يشبه ردود فعل الخلافة تجاه قادة الاتراك من السلاجقة المفسدين . وكان بنو سامان يستعينون بالسيء من الديلم لتثبيت نفوذهم في تلك البلاد ويتركون الصالحين , اذ استعانوا بشخص عسوف اسمه اسفار وحاربوا غيره , فثار شيعة الديلم من قادته عليه وقتلوه بالتعاون مع شيعة اذربيجان . ومما يؤكد عراقية شعب الديلم والجيل رفض الباحثين التاريخيين نسبة ال بويه منهم الى ملوك الفرس , وقولهم ان ذلك كان سيمنع رئاستهم في الديلم , فلو كان الفرس والديلم شعباً واحداً لما اقتضى الامر ذلك التمييز .
وقد اسلم الديلم قبل ذاك بدعوة الاطروش احد بني الحسين بن علي وهو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر ، قام وحده بالدعوة وهو في ضيق وادخل هؤلاء القوم في دين الإسلام بعد ثلاثة عشر سنة من الدعوة فيهم , ككل حركة دعوية للشيعة يومئذ , فبنى في بلادهم المساجد . ودخلوا في الاسلام طوعا وبلادهم بايديهم على يد العلويين . ومن ولد الحسين بن علي أيضا الحسين الكويكي الذي قام في الطالقان . ومسلم محمد بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى المحدّث بن الحسين بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين الأعرج الذي كان مدّبر دولة كافور الإخشيدي في مصر .
امام هذا الانتشار الواسع للتشيّع صار للعراق دور محوري في معادلات الفكر والسياسة في العالم الإسلامي . حتى ان امير الحاج العراقي كان فَقِيه الطالبيين ، الذي حين اعترضته بنو نبهان احد أعراب طيء كان من القوة والمنعة بحيث هزمهم وقتل أميرهم . وقد كانت إمارة الحاج حينذاك – نتيجة هذا الواقع الفكري – لنقيب الطالبيين بأمر بني العباس ، وكانت منتظمة في تعايش بين أهل السنة والشيعة للعقلانية التي عليها نقباء الطالبيين . حتى أنهاها المقتدي العباسي تحت ضغط الترك عليه ، فبعث ختلع التركي أميراً على الحاج العراقي لأول مرة ، فحدثت فتنة كبيرة على يده بين أهل السنة والشيعة ، ثم خلفه من الترك على امارتها خمارتكين ، فبغضهم العرب وطردوهم ، وانقطع الحاج من العراق بسبب اختلاف أمراء السلجوقية . حتى مهّد الطريق بعدئذ بنو مزيد الاسديون الشيعة ونظموا أمره ، فعاد أهل العراق للحج . يساعدهم في ذلك انتشار وتحكّم بني الحسن بن علي بن ابي طالب في الحجاز طيلة حكم العباسيين وما بعده . وقد تميّز حكمهم بالعدل والانصاف وامان الناس ، الامر الذي دفع العباسيين الى احترامهم في الغالب وتوقير أشرافهم . حتى قدوم الغز والترك الى الحجاز حيث اسقطوا بعض إمارات بني الحسن وبدأت الفتن والاضطرابات منذ ذلك الحين ، الامر الذي اغضب العباسيين في كثير من الأحيان ، الا ان تغلّب الترك عليهم وحاجتهم اليهم منعهم من معالجة احوالهم بجدية . وقد كان هذا التدخل التركي والغزي من جهات العراق والشام ومصر في مكة والمدينة وعموم الحجاز مدخلاً لصراع الإمارة بين الإشراف من بني الحسن ، حتى اتصل بعضهم بالدولة الأيوبية بمصر التي كانت دائمة التدخل في الحجاز ، فكان هذا الاتصال بداية تسنن الكثير منهم ، ففقدوا هويتهم ، ثم دولهم لاحقا .
وكان سبب غلبة بني هاشم على مكة والمدينة انقراض أهلهما من قريش والأنصار من الاوس والخزرج زمن الفتوحات وانتشارهم في مختلف بلدان العالم . ووجود بني حرب الزبيديين الشيعة في الحجاز حينذاك . ولهذا بقي حكم المدينة المنورة بيد الطالبيين من ولد الحسين حتى نهاية الدولة العباسية . ورغم ان أمراء المدينة كانوا شيعة إمامية اثني عشرية طيلة حكم العباسيين وما بعدهم وما بعد سنة ٧٠٠ هجرية ، الا ان أمراء دولة الترك في مصر صاحبة النفوذ على الحجاز حينها كانت مضطرة لاختيار الأمراء منهم ودعمهم ، رغم كونها دولة ناصبية عمليا ، لانها تعلم امتدادهم الحضاري والبشري والمالي الى العراق ، وتخشى استفزاز تلك المنطقة بمن لا تعرف ، فقد كانت قبيلة بني حرب الشيعية الزبيدية تجاور مكة والمدينة وبحر مصر ، وقد قدمت قبائل بني لام وريثة قبيلة طيء من العراق لنصرة أمراء المدينة في حروبهم مع أهل مكة . وقد جرّب الترك حكم الحجاز مباشرة وفشلوا ،لا سيما في تنظيم موسم الحج ، ونفرة العرب منهم .
وقد كان من حسن سيرة بني بويه ان بعض المدن كانت ترسل اليهم للقدوم وولايتها وطرد ولاة الخليفة , لنبلهم في العسكر والناس واستخدامهم لغة الحوار حتى كسبوا تعاطف قادة الجيوش الأخرى . وقد كان عماد الدولة بن بويه يحسن ويكرم اسراه حتى اطمأنوا اليه ورضيه الناس ومالوا اليه . فيما يصف ابن خلدون ركن الدولة بالحلم والكرم وسعة المعروف وحسن السياسة والعدل والمتحري من الظلم والعفة عن الدماء وبعد الهمة وعظمة الجد والسعادة والإحسان لذوي البيوتات والتعظيم والتفقد للمساجد والتفقد لاهل البيت بالبر والصلات وعظمة الهيبة ولين الجانب وتقريب العلماء والإحسان اليهم والاعتقاد للصلحاء والبر بهم ثم ترحّم عليه . فيما نجد ابن خلدون يصف عضد الدولة بصفات إيجابية خطيرة , أهمها انه محبّ للفضائل وأهلها كثير الصدقة والمعروف محبّ للعلم وأهله يجالسهم قد توسعت المؤلفات العلمية في زمانه قد قام بتوسعة البنى الخدمية وتنظيم التجارية . على خلاف ملوك الاتراك الذين نهبوا خزائن الخلافة العباسية وزرعوا الفتنة ولم يلتفتوا الى الأنظمة مطلقا . الا ان دولة ال بويه كانت ككل الدول الدنيوية حين تصيبها دعة الملك , فتنتهي الى الاستعانة بالكم دون النوع كما في الاستعانة بالاتراك الذين كان السلاجقة منهم من انهوها في انقراض طبيعي متوقع , والى تحكّم النساء واللعب بالملك كما لعبت ام مجد الدولة وشمس الدولة , والى الصراع على الملك , وهو بداية الانهيار . وقد تسبب تحكّم الخدم الى ذهاب عُمان من يدهم بعد ترافة الملك الى يد الخوار .
ورغم ان ال بويه – المؤسسين لبعض الحوزات العلمية – تميزوا عن العرب بالعاطفة المتسرعة تجاه النواصب , حتى انهم أرادوا لعن الصحابة الذين ظلموا ال محمد بالاسم , بينما رفض ذلك وزيرهم العربي المهلبي وطلب لعن الظالمين لال محمد بصورة عامة دون أسماء الا معاوية بن ابي سفيان فقط , وربما يكون هذا من دسائس الاتراك الذين في صفوفهم . الا ان الملفت في تأسيس دولة بني بويه انهم كانوا يكرهون المقاتلة على الملك حتى اضطرهم ولاة بني العباس الى ذلك . والملفت جداً ان لهم حادثة مشابهة لحادثة قريبة حدثت عند تأسيس الجمهورية الإسلامية في ايران , اذ حاصرتهم جيوش اعدائهم الكثيفة التي تستخدم شعلات القار , فارجعت الريح تلك الشعلات جيش الخصم , فانتصر جيش بني بويه , كما حدث لطائرات الولايات المتحدة الامريكية التي تصادمت بعضها البعض في صحراء طبس الإيرانية , وانهزم الامريكان دون جهد من الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودون علمها , فسبحان الله مقدّر الاقدار . وقد كانت هذه الحادثة سبباً في قيام ملك بني بويه ودولتهم . وقد لعبت الطبيعة دوراً مهماً الى جانبهم . كما لعب ترف الملك تالياً دوراً مهماً في انهيارهم حين استعان أقارب ام مجدِ الدولة علاءُ الدولة بالغز على الديلم من اقاربه . كذلك استعان احد أبنائه وهو أبو حرب على أخيه بالسلاجقة أيضا . وقد كان البويهيون سبباً في استفحال امر الغز بتفرقهم وجمعهم للغز الواحد ضد الآخر . حتى انهارت ممالكهم في فارس والري والجيل وانقلبوا خاسرين بما ضيّعوا في صراعهم على الملك واستعانتهم بغير المتحضرين من السلاجقة . اذ استعان فلاستون اخو الملك الرحيم بالسلاجقة على أخيه وارسل طاعته الى طغرلبك نكاية باخيه , وكذلك فعل اخوه الثاني أبو علي والي البصرة الذي هرب الى طغرلبك السلجوقي . فاستولى فلاستون على الاهواز وضعضع كيان الديلم وخطب لطغرلبك . ومن الواضح ان امارات العراق والاهواز كانت تخطب للسلاجقة منافسة وتحدي وبلا ادنى تهديد من السلاجقة , الامر الذي كانوا يجهلون عاقبته .
وحين انتهت دولة بني حمدان وصار الامر الى بني عقيل وصلح امرهم مع البويهيين صار اليهم العراق كله من الموصل والكوفة والقصر والجامعين ، بأمر الخليفة العباسي القادر بالله . ثم ان العراق صار خالصاً بين دولة بني عقيل الشيعية شمالاً ودولة بني مزيد الشيعية جنوبا . مع وجود دولة البويهيين المتحالفة معهم . الا ان اجتماع الفكر لا يمنع الصراع على الملك في غياب المعصوم . كما في الصراع بين ماكان بن كالي ووشمكير والحسن بن الفيرزان ومرداويج من الديلم والجيل , واستعانة الجيل والديلم ببني سامان مخالفيهم في العقيدة على بعضهم , وكانت ممالك الجيل تمتد حتى أرمينيا . وبلغ الامر ان وشمكير قائد الجيل أبناء عم الديلم استنكر على أخيه مرداويج لبس سواد بني العباس وممالئتهم من اجل الملك والمال والنفوذ وتركه مشايعة العلويين بطبرستان , وهو امر سيعيده كل من عضد الدولة وصمصام الدولة لاحقاً من اجل الملك من خلال حبسهم العلويين واموالهم حتى حررهم مشرف الدولة – والذي يشير دفنه في مشهد علي واعماله السابقة الى وجود عقيدة لديه بخلاف اخوته واهله من السياسيين – رغم ان عقيدة هؤلاء البويهيين اعمق من مرداويج لكنّه المُلك الذي غيّر بني العباس سابقاً عن علويتهم . اذ طغى مرداويج مستعيناً بالاتراك الذين قتلوه لاحقاً بعد ان اذلهم والتحقوا ببني العباس والغريب انهم صاروا في امرة الامراء مثل توزون وبجكم ومحمود الترجمان وابن بقراخان. وبجكم هو الذي قلده الخليفة الراضي امرة الامراء بغضاً لبني بويه . وبغض بني العباس لبني بويه هو الذي انقض تدبير البساسيري قائد البويهيين في حماية الدولتين العباسية والبويهية وجاء بالسلاجقة الى بغداد لتكون بداية النهاية لدولة بني العباس .
و كان جيش الديلم متعدد القوميات من ديلم وعرب وترك واكراد . والذي أدى تالياً الى انقراض دولة بني بويه عمليا وذوبان هذه القيادات في قوى أخرى مخالفة وانتفاء فرصة نشر الفكر العلوي في كثير من الأراضي ببلاد ايران وما وراء النهر ورحيل الكثير من العقول القادرة على نشر الفكر العلوي . كما أدى الصراع على الملك الى انهيار دولة الترك الكاشغريين المتمدنة في مشهد مشابه .
كما انتقل النزاع الى حرب قومية على الملك والنفوذ بين العرب بقيادة بني عقيل وبني مزيد الاسديين وبين البويهيين الديلم ومن معهم من الأتراك ، فكانت الحرب بينهم سجال . حتى ان الاتراك انقلبوا على الديلم بسبب المال بقيادة سبكتكين . كما الصراع قائماً بين البويهيين والحمدانيين الذي استمر طويلا ومن مع البريدي من الشيعة . حتى ان الحمدانيين كانوا في ترقب دائم ينتظرون خروج معز الدولة للانقضاض على بغداد . حتى ان هذا الصراع الحمداني البويهي كان في صالح باد الكردي الذين كانوا على حدود ايران وبداية ضعف بلدات العرب في شمال العراق وجنوب تركيا . لكنّ البويهيين بعد انانيتهم في الموصل اضطروا امام ضغط الاكراد الى الاستعانة بالعرب لصدهم وهو ما جرى من بني عقيل وبني نمير الشيعة في الغالب . وكذلك صراع بني بويه وبني شاهين . والملفت ان عمران بن شاهين انحاز في تقاتل بني بويه الى نائب بغداد بختيار , ولم يتحيز لعضد الدولة صاحب السلطة الارفع والأكثر نضجا , لمصالح مادية ربما , حيث لم يكن ابن شاهين ملتفتاً للبعد الحضاري بعد , او لان عضد الدولة حبس بعض اشراف العلويين في فارس . وتقاتل البويهيين مع بني شيبان . وربما يظن البعض ان العراق كان متأثراً بالزخم الفكري البويهي , والحقيقة ان الامر عكس ذلك تماما , فنصيحة الوزير الصاحب بن عباد لبني بويه في فارس ان يدخلوا بغداد كانت ناشئة – حسب ابن خلدون – لما كان بها من الحضارة واستئثار الفضائل . واشتد الصراع بين العرب العقيليين والمزيديين وبين البويهيين والى جانبهم خفاجة في زمن بهاء الدولة .
وكان هذا الاختلاف في صالح الاتراك البدو أكيدا , وقد كان بعضهم يحكمون قبضتهم على بغداد في زمن مشرف الدولة , وكانت في زمنهم تنطلق عصابات العيارين الطائفية لتحرق الكرخ الشيعية من بغداد , والتي تستغل أي فوضى سياسية او امنية. والملفت ان الكرخ الشيعية قد اجارت السلاجقة حين ثارت عليهم العامة في الرصافة عند دخولهم بغداد , اذ ان الشيعة فقط من رعوا ذمام الخليفة في السلاجقة الداخلين بغداد ولم يشغبوا , الا ان قائد السلاجقة طغرلبك فرض عليهم الاذان بالصلاة خير من النوم عند الفجر بعد ان عاث جنوده فساداً في بغداد .
لقد قام الاتراك بانقلاب فعلي في بغداد في زمن جلال الدولة , بعد ان كثر عددهم فزادت مطالبتهم بالمال . وكل هذا بسبب السياسة الدنيوية لبعض ملوك بني بويه ومنافسته لاخوته . حتى ان الصراع والتنازع على النفوذ بين امراء البويهيين وامراء بني عقيل استفاد منه السلاجقة ولعبوا على وتره .
وربما كانت الامارات الشيعية مطمئنة لوجودها بحكم المجموع . وكذلك تقاتل أبناء عضد الدولة على الملك , فكان الاتراك في جانب وبنو اسد في جانب , وهذا ما اضعف الدولة البويهية كثيرا .
وكانت خفاجة قد علا نجمها في تلك الفترة الزمنية ، اذ انتشرت من الموصل الى جنوب العراق بعيداً عن بني عمومتها من بني عقيل ، وتبادر الى أمرائها السيطرة على أراضي مجرى الفرات ، فدخلوا في نزاع وصراع مع أمراء المنطقة الأقدمين من بني مزيد الاسديين . وقد كانت خفاجة رغم وجودها في دولة شيعية لم تعِ بعد جوهر التشيع كباقي قبائل الشيعة المدنية . وقد وقعت في ذات الخطأ الذي وقعت فيه بنو عقيل من قتلهم آخر ملوك بني حمدان أبا طاهر , فكانت خسارة شيعية وإسلامية كبيرة . وكانت سبباً في ضعف جبهة البساسيري وزير البويهيين وبني مزيد في دفاعهم عن العراق امام السلاجقة بعيثها فساداً واشغالها لامراء المزيديين , بعد ان انضم اغلب الاكراد الى جبهة السلاجقة وعاثوا فساداً تحت امرهم . والملفت ان السلاجقة كانوا اذا دخلوا قرية افسدوا فيها وخربوها حتى لا تقوم , وكان حلفاءهم اغلب الاكراد ومن الديلم الخائنون ومن العرب الاعراب , ولم تملك الخلافة مدافعتهم بعد ان اضعفت الجانب الحضاري من حلفائها . وقد لعب الاتراك دوراً خطيراً في تمزيق جبهة بغداد ونهبها وفتنتها حتى هرب الوزراء منهم .
ثم وصل الامر الى تقاتل البويهيين بينهم على الملك اذ نشبت الحرب بين عضد الدولة في فارس وبين بختيار في بغداد . ثم القتال بين مشرف الدولة وصمصام الدولة من بني بويه . ولو ان البويهيين استمعوا الى وزير كالصاحب بن عباد والذي اجتمعت اليه وجوه الدولة لحنكته لتجاوزوا الكثير من الفتن , لكنّ الصاحب كان في زمان غير زمانه ورجال غير رجاله اذ غدره القاضي المعتزلي الذي جعله هو على القضاء تسامحاً في المذاهب وحرّم الترحم عليه , رغم ان الصاحب بن عباد كان اوحد زمانه علماً وفضلاً ورياسة ورأياً وكرماً وعرفاً بانواع العلوم. وكذلك الصراع بين صمصام الدولة وبهاء الدولة , فالاول استعان بالديلم والثاني استعان بالاتراك . وهذه الاستعانة ليست غريبة اذ استعان أبو الفوارس على ابن أخيه ابي كاليجار بن سلطان الدولة بالاكراد . ثم الصراع بين بهاء الدولة وابني بختيار. حتى ان بهاء الدولة قتل وزيره الموفق بن إسماعيل . وهذا الصراع البويهي الداخلي افضى الى صراع دول الشيعة المختلفة على الملك في زمن ابي الفوارس وابي كاليجار لكن بحدود سياسية ضيقة , وصار بتأثيره العرب على شكل امارات مختلفة الولاءات البويهية .
وقد كان الغز تركاً من نواحي بخارى اكثروا الفساد في تلك البلاد فاجاز اليهم وحاربهم محمود بن سبكتكين امير تلك الأقاليم بعد هروب حاكم بخارى , فقتل منهم خلقاً كثيرا , وجاء بأميرهم أرسلان بن سلجوق وحبسه بالهند , فهربوا الى بلاد خراسان وعاثوا فيها فسادا , فارسل اليهم بن سبكتكين العساكر واجلاهم عن بلاد خراسان . فتفرقوا الى طوائف , الى خوارزم والى الري والى أذربيجان والى أصفهان والى الموصل وديار بكر , ينهبون ويقتلون بما لم يسبق له مثيل من عدم التحضر , لاسيما في نهبهم لقبائل الاكراد . وقد كان سنة الترك المتحضرين يجمعون بين التسنن وحب اهل البيت . فيما غيرهم يستخدمون الغدر والقتل وكل الذي يمكنهم من وسائل للسيطرة على ما يقع بايديهم . حتى انهم غدروا باخر امراء بني سامان إسماعيل بعد ان امنوه وقادهم فخاف منهم وهرب . وكأن هؤلاء السامانيين لا يتعظون , اذ اسقط دولتهم الاتراك فلجؤوا الى بدو الاتراك من الغز , ولا ندري كيف يصف ابن خلدون دولتهم بحسن السياسة !. بل ان الاتراك في جيش البويهيين ايضاً لعبوا نفس الدور لولا حسن سياسة وزيرهم ابن العميد .
واخيراً استغلوا خروج العرب من الموصل الى جنوب العراق للمشتى ودخلوها واعملوا السيف في أهلها وفرضوا عليهم ما فرضوا من المال حتى ثار الناس فجعلوا فيهم السيف وقتلوا الغز أينما وجدوهم في المدينة . لكن جاء مدد قبائل الغز قبل قدوم مدد العرب الى المدينة فقتلوا الناس حتى دفنوهم جماعات في الحفائر . ثم ارسل الامراء الى امير بلاد الترك طغرلبك يعاتبونه فيهم , فاجابهم انهم كانوا خدماً له اكثروا الفساد فطلبهم وهربوا . فخرج المزيديون وبنو عقيل ومن تحالف معهم من العرب الى الغز والتقوا قرب تل اعفر فاستمات العرب حتى هزموا الغز واجلوهم عن البلاد والعباد. وقد كان من أسباب ضعف العرب حينذاك سيرة الأمير قرواش بن المقلد العقيلي فيهم وخلقه للفتن على الملك والنفوذ حتى انه كان يوزع طاعته بين الدولتين الفاطمية والعباسية. الا انه كان هناك بعض القادة العرب مثل محمد بن محمد بن جهير كان يأبى طاعة سلطان الترك في قتال العرب , فيما يستمر زملاؤه من الترك في قتالهم حتى يتم اغراؤهم بالمال . فقد كان ابن جهير يحجم عن قتال العرب عصبة لهم وكان معه المزيديون .
وبلغ من قوة العرب الشيعة في عام 450 هجرية انهم يسقطون الخلافة عمليا , والخليفة يلجأ الى شيعة الموصل من بني عامر بن صعصعة الذين شغلتهم الدنيا ولم يكونوا بمستوى عقائد الجنوب , لانهم كانوا الاقرب للبداوة من شيعة الجنوب الأكثر تمدناً , فقاموا العقيليون الشيعة وحلفاؤهم من بني عامر بن صعصعة بحماية الخليفة ومن ثم اعادته الى الاتراك والى بغداد , بعد ان كان المزيديون وحلفاؤهم من النخع وقبائل الجنوب وشيبان والشماليون قد سيطروا رسمياً على بغداد والقصور االعباسية واذّنوا بحي على خير العمل في اعلان لملامح الدولة الجديدة . لتعود الخلافة بيد الاتراك , لان كل القبائل العربية في المنطقة كانت شيعية , على اختلاف في درجات وعيها . وبهذا تسببت البداوة في اجهاض المحاولة الجدية لاقامة تحالف قوي بين القوى الجديدة بقيادة البساسيري وبين الفاطميين . حتى ان مسلم بن قريش بن بدران امير العقيليين قاتل قبيلة بني كلاب – التي انتقلت في تحول فكري من نصب الاعراب الى التشيع – والتي كانت توالي الفاطميين , نيابة عن الاتراك الذين سيكونون سبباً في تشتت العقيليين ذاتهم بالحيلة والغدر . وبلغ من حروبهم ان اضعفوا جميع العرب حتى النميريين في حرّان شمالا . فسلّم السلطان التركي الذي قاتلوا من اجله بلادهم واموالهم الى ال جهير وزرائهم , وادخل قابئلهم في فتنة على الملك عن طريق عمة السلطان زوجة مسلم بن قريش العقيلي حتى نقل الملك الى ابنها دون غيره , بعد ان تقاتلت قبائل بني عقيل .
وكان الاتراك وراء كل فتنة بين السنة والشيعة في بغداد , اذ تحدث هذه الفتن كلما أراد الاتراك الضغط على البويهيين من اجل المال حتى نهبوا خزائن جلال الدولة وغيّروا الوزراء والهبوا بغداد بالفتن الطائفية أيام القائم العباسي . والاتراك قد اثاروا الفتنة بين السنة والشيعة ببغداد الى درجة الاعتداء على حرمة مرقد الكاظمين وذخائر بني العباس وبني بويه , وقد شهدت اللجنة التي شكّلها الخليفة من نقباء العلويين والعباسيين بالحق للشيعة . حتى قطع بنو مزيد خطبة الخليفة بسبب الفتنة وانتهاك حرم الشيعة , ثم اعادوها عند سكون الفتنة حين تم منع الاتراك من الدخول . لكن الاتراك هم من اسقطوا الدولة البويهية لاحقاً رغم محاولة بني مزيد والبساسيري حمايتها .
ان الأثر الذي تركه المزيديون عقائدياً كان عظيما , في الحلة التي بنوها على اثار حضارة بابل , او في المحيط القبلي والمدني القريب , ثم البعيد لاحقا . ففي حدود ال 600 ه نجد عالم العربية الكبير احمد بن علي بن معقل الازدي يأخذ عقائد التشيع عن جماعة في مدينة الحلة .
وراح جيش الخليفة العباسي المستنجد يسقط دولة المزيديين في خطوة ليست ذكية , أدت الى استقواء الأجانب وبداية انهيار دولة بني العباس . حيث كانت الدويلات الإسلامية غير العربية غنائمية في الغالب تميل مع كل ريح . وكان انهيار دولة المزيديين على يد جيوش عربية فيها بعض شيعة من المنتفق بين البطائح والبصرة وغيرهم , اغراهم الخليفة , فكانت خطوتهم ساذجة مركّبة , حيث اضعفت روح التشيع في المنطقة واضعفت دولة العباسيين , اذ كان المزيديون مرتكزاً للتشيع وللحكم العربي . الامر الذي أدى الى مقتل الالاف من بني اسد . وهي خطوة شبيهة بما فعلته بعض قبائل الشيعة في العصر الحديث حين انضمت الى جيوش الحكومة الطائفية في العراق الحديث في العهود الملكية والجمهورية , وكانت عامل ضعف للشيعة .
وكان من مصاب دول الشيعة تلك انها لم تسقط عسكرياً فقط , بل عمدت السلطات التي قامت على تأسيس الاتراك والغز الى اسقاطها معنويا . فنجد ابن خلدون في نفس الصفحة من كتاب تاريخه حين يستعرض خروج احد أبناء علي بن ابي طالب واحد أبناء عمر بن الخطاب على نفس الحاكم التركي بمصر وهو احمد بن طولون يلمح الى فساد العلوي وعيثه وتقوى العمري وصلاحه دون بيان التفاصيل .

لذلك كان ضرورياً انتقال الحوزات العلمية الدينية الإسلامية بعيداً عن المدن ذات الحراك السياسي , مع الاحتفاظ بالعمق الشيعي السكاني . لذلك كان الانتقال من الحلة الى النجف الاشرف .
وفي زمن العثمانيين كانت مدينة بعلبك في لبنان جل أهلها شيعة تحت حكم الامراء الحرافشة , لكنّ العثمانيين نفوا امراء هذه العائلة الى بلاد الترك لتتريك أبنائهم . وهذه السلطة الغاشمة هي التي افرغت جزين اللبنانية من الشيعة قبل ثلاثة قرون تقريباً بعد ان كانت منبعاً لاضخم العوائل العلمائية الشيعية . مثالها في ذلك مدينة صيدا التي كانت يغلب على أهلها التشيع حتى القرن الرابع الهجري , وهي اليوم لا يسكنها الا القليل منهم . فيما طرابلس الشام التي هي اليوم احد معاقل غير الشيعة المهمة في لبنان كان أهلها شيعة في زمن الشيخ الطوسي في القرن الرابع الهجري , وتولى قضاءها ابن البراج الشيعي عقود طويلة وحكمها ال عمار اشهر بيوتات الشيعة في لبنان , واليوم هي معقل لغيرهم بسبب السياسة العثمانية . بعد ان استلبوا مدناً تاريخية كان أهلها شيعة ومنهم البيوت العلمية الكبرى كحلب , التي منها ال شعبة الرواة وال زهرة العلويون , وكان في زمن العباسيين مدينة شيعية امامية حتى انتهك سكينتها العثمانيون في القرن العاشر وبدأوا يشجعون العوام والنواصب على الاضرار بالشيعة فانقرضوا تقريبا , الا في القرى . فيما مدينة مثل حمص كان أهلها من اشد النواصب في صفين ان تنتقل الى الى الغلو في التشيع كان امراً ملفتاً رغم الخلل في عقيدتهم العامة وهو خلل ناشئ عن تكوينهم الاجتماعي السابق , الا ان تشيعهم من معاجز انتشار الفكر الشيعي , حتى قام العثمانيون ومن والاهم بمضايقتهم ثم تهجير قسم كبير منهم واستبدالهم بالمهاجرين الشركس الروس . يشابه حالها في ذلك حال اهل دمشق عاصمة النصب والعداء لعلي بن ابي طالب التي انتقلت الى التشيع في الجملة في حدود القرن الرابع الهجري في العصر العباسي والفاطمي حتى اذنت بحي على خير العمل , ثم نتيجة لتكوينها الاجتماعي التاريخي أيضا ثم عاد النصب اليها في ظل التاثير التركي . فيما كانت مدينة مثل الرقة في الشام تتشكل تاريخياً في ظل مفهوم النصب , مثل الفلوجة في العراق التي اقطعها معاوية لضباطه – وبالتالي هاجر اليها مبغضو علي بن ابي طالب الذين كانوا عثمانيي الهوى شيئاً فشيئاً حتى اجتمعت وبنيت على نصب العداء له .
والتشيع كان ينتشر بطريقتين , الفكر , والاستقامة . وحين كان الشيعة سادة الفلاسفة , كان حالهم العام الاستقامة واحترام الطرف الاخر . لذلك نجد ان التشيع انتشر في بلاد التبت الاسيوية تأثراً بالاخلاق التي يصنعها التشيع .
ان الحلف القبلي العراقي المحتك بالمدنية السومرية كان الحضن الآمن لانتقال الحوزات العلمية الدينية داخل المنطقة الكوفية , وعلى أساسه اختار الشيخ محمد بن الحسن الطوسي في القرن الخامس الهجري منطقة الكوفة التاريخية ومدينة النجف مقراً للدراسة الدينية .

….

بمناسبة مرور الف عام على تأسيس حوزة النجف الاشرف

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب