17 نوفمبر، 2024 9:57 م
Search
Close this search box.

انتفاضة تشرين الاصيلة الشريفة نبراس للضمائر والانسانية والوطنية

انتفاضة تشرين الاصيلة الشريفة نبراس للضمائر والانسانية والوطنية

الانتفاضة العراقية الباسلة التي انطلقت في أول 1تشرين من العام المنصرم ولا تزال تقاوم، هي الواقع الأكثر جذرية في تاريخ العراق المعاصر، والتي رفعت شعارات تنادي بالاستقلال والسيادة على الأرض والثروة، إنها المصباح الذي أنار الطريق أمام الجماهير بعد سنوات ظلمة داجية! انتفاضة الأغلبية الشعبية الكادحة من الجنوب امتدت لتشمل جُلَّ المدن العراقية، والتي انفجرت تحت ضغط واقعها المعيشي الذي يتخطى في حدوده أكثر البلدان فقرًا، على الرغم من أن العراق يحتوي على ثروات طبيعية وبشرية تجعله من أغنى دول العالم!
فمثلاً عوائد قطاع النفط وحده، تزيد عن ستة مليارات دولار شهريًا؛ لذا فعندما تكون حياة المواطن العراقي مسحوقة تحت عجلات مشروع “بريمر” بكل مكوناته السياسية، ولا تتوفر أبسط مقومات الحياة من احتياجات أساسية وضروريات معيشية، وعندما تكون مؤسسات الخدمة العامة “تعليم وصحة وماء وكهرباء ومواصلات” في حالة انهيار كامل، وعندما تنزل بهذا المواطن المسحوق الشدائد وتعتصره إكراهات الواقع الاجتماعي، بشقيه “الاحتلال – الطائفية”، فنحن إذن أمام وضع اكتملت شروطه التاريخية للإسقاط: وطن محتل وصراعات طائفية وقومية، وحياة بؤس يعيشها الأغلبية الساحقة من المجتمع، ضد هذا الوضع، وضع المواطن العراقي الذي يوحي بأنه خارج التاريخ ــ بالرغم من تاريخيته ــ وضد كل مشاريع استعبادها واستغلالها ونهب ثرواتها، انتفضت الجماهير العراقية كانت آلام المواطن العراقي التي تفجرت في الميادين والساحات كأنها آلام ألف سنة تتفجر، وتجسدت في واقع تحركاته الثورية الجسورة، هي بوصلة المقاومة الحقيقية ضد مشاريع الاستغلال بكل تمظهراتها.
وفي الجملة، فإن انتفاضة تشرين كانت بمثابة هبة شعبية جارفة من الحماس والآمال العامة، مطبوعة ومدفوعة بروح “وطنية – طبقية” أصيلة، وتصوب نحو مركز المعضلات، وفي العمق، وفي الأسس التي انبنى عليها صرح الخراب الراهن للمجتمع العراقي والانتفاضة التي خلفت خلال مسيرتها منذ أكتوبر وحتى الآن مئات الشهداء وآلاف الجرحى، فكانت هي التجسيد العصري لملحمة جلجامش؛ فإن كان جلجامش الذي نهشه الخوف من مصير رفيق دربه “أنكيدو” قد خاض غمار ملحمته بحثًا عن نبتة الخلود، فإن الكادح العراقي الذي نهشه وسحقه الواقع الاجتماعي يخوض غمار ملحمته بحثا عن نبتة التحرر ,لم يخرج العراقيون أو يحركهم سفارات أو أجندات خارجية كما يروج مدمنو “التفسير البوليسي للتاريخ” بل خرج العراقيون ضد السفارات وضد كل الأجندات الخارجية، فرفعوا شعارات حددت في جوهرها الحاجات المباشرة للواقع العراقي، وهي إنهاء التواجد الأجنبي بكل أشكاله، والذي تسبب في تخريب وتدمير حياة الأغلبية من الشعب، فكان إرهاب السلطة والمليشيات، وفي الأخير إقدام الإدارة الأمريكية على تنفيذ عملية اغتيال قاسم سليماني ومعه نائب رئيس الحشد الشعبي، كانت كلها محاولات من أجل فك الحصار الذي ضربته الانتفاضة على كل شركاء العملية السياسية، مما تسبب في تسعير حدة التوترات بينهم تحت ضغط وتأثير الانتفاضة وليس العكس.
إن زلزال اغتيال الجنرال “قاسم سليماني” الذي هز منطقة الشرق الأوسط والعالم خلال الأيام القليلة الماضية، جراء العملية التي نفذتها القوات الأمريكية بالقرب من مطار بغداد، لم يخرج عن الإطار السابق ذكره، وهو الضغط والتأثير المباشر لحركة الانتفاضة. إن تحليل عملية الاغتيال طبقًا للمتداول إعلاميًا ربما يجلو بعض الحقائق التي غابت خلف ضباب الجيوستراتيجيا. لقد جعل اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني من التوترات التي ظلت في حدودها الدبلوماسية لفترات طويلة تنفلت إلي حيز الخيارات العسكرية والمواجهات المباشرة بين واشنطن وطهران، الوضع الذي تكدس على تخومه حشدًا من الاحتمالات والتكهنات المتداولة على منصات الإعلام المختلفة التي أعقبت عملية الاغتيال حول إمكانية أو عدم إمكانية اشتعال الوضع بين المعسكرين المتصارعين على الأراضي العراقية .ولكن شهدت أيام ما بعد الزلزال وبعد وصولنا إلى عتبة الأسبوع الثاني من تاريخ عملية اغتيال سليماني، وبعد الرد الإيراني محدود النطاق بقصف إحدى القواعد الأمريكية “قاعدة عين الأسد”، انحسار موجة التوترات إلى حدودها المعتادة بين الجانبين، الأمر الذي جعل بعض المتابعين عرضة لإغواء الساحرة الفاتنة “نظرية المؤامرة!”، باعتبار أن الضربة الإيرانية كانت باتفاق مع الأمريكان ــ أي كانت مجرد مسرحية ــ وبعض التعليقات غير المتأثرة بمفاتن ساحرتنا أشارت إلى أن العملية نتيجة لحماقة ترامب وتهوره، لكن دعونا نتناول الأمر خارج السياقات المطروحة؛ فقد كانت عملية مطار بغداد محسوبة بدقة من قبل الجانب الأمريكي، حيث كان بند التخلص من سليماني مدرجًا على قائمة أعمال السياسة الخارجية الأمريكية منذ العام 2007 بعد تصنيفه كتهديد دولي في زمن إدارة الرئيس بوش.
وبتعيين حدود ما قبل العملية بالنسبة للجانب الإيراني سنجد أن تعقيدات الوضع الداخلي، بعد المظاهرات الحاشدة بأغلب المدن الإيرانية في أواخر عام 2019، التي خرجت تحت ضغط الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار المحروقات، وتم إخمادها بالقوة، لم يكن هذا الوضع يتحمل كلفة نفقات لحملة عسكرية في مواجهة غير مضمونة العواقب، والتي ربما كانت ستزيد “الطين بلة” داخليًا .وبالنسبة للجانب الأميركي فكان ضغط المعارضة الداخلية ضد ترامب وإدارته والذي تصاعدت وتيرته إلى حدود التصويت على إزاحة ترامب من منصبه، جعلت من رأس سليماني بالنسبة له في هذا “التوقيت” كرأس “يوحنا” بالنسبة لهيرودس، فكان الأخير يريد إثبات جدارته المثقوبة ــ بفعل سهام يوحنا ــ أمام رغبة امرأته اللعوب هيروديا، وأما ترامب فكان يريد إثبات جدارته المترنحة بفعل ضربات المعارضة الداخلية، والمشكوك فيها أمام ناخبيه وفي ظل هذا الوضع ربما يكمن سر توقيت عملية مطار بغداد بالنسبة للإدارة الأمريكية، وأيضًا تكمن الإجابة على محدودية الرد الإيراني المحكوم بالوضع المأزوم داخليًا.
ولكن ما يهم هنا هو تأثير الهزة العنيفة التي أحدثتها عملية مطار بغداد، والغبار الكثيف الذي غلف الأجواء المحيطة بالوضع بعد سقوط أحد أعمدة قلعة الحكم الإيراني، والذي جعل من هامش الوضع مركزًا، ومن المركز هامشًا، والمركز المتواري هامشًا هنا كان الانتفاضة، انتفاضة الاستقلال العراقية، والتي عادت إلى المركز مرة أخرى بالمظاهرات الحاشدة التي عمت أغلب المدن العراقية ومعها العاصمة يوم الجمعة 10 يناير، واستمرت أيضا بمظاهرات الجمعة 17 يناير لتؤكد على أن شعلة انتفاضة الاستقلال التي حملها ثوار تشرين لا تزال متقدة.
إذا كانت العملية النوعية التي نفذتها الإدارة الأمريكية فجر الجمعة 3 يناير، واستهدفت ‏كوادر من الصف الأول للدولة الإيرانية تشير إلى أي مدى وصلت حدة التوترات بين المعسكرين المتصارعين داخل الأراضي العراقية، فهذا الأمر لا يجعلنا نتغافل عن تأثير انتفاضة الشعب العراقي على بنية هذه التوترات، والتي ظلت ولمدة طويلة داخل حدودها الدبلوماسية ــ حرب إعلامية، تهديدات متبادلة، عقوبات وحصار اقتصادي من الجانب الأميركي.. إلخ، وكان على هامش هذه الحدود صراعات جيوسياسية لم ترتق إلى مواجهات مكشوفة على الأرض: في سورية والعراق واليمن -تحت غطاء محاربة الإرهاب- الإرهاب الذي هو في ذاته غطاء “لواقع هو منتجه ,إنه واقع حركة الرأسمال في طور الانحطاط، وهو الخلاصة المنطقية لحالة الهروب التاريخي لبرجوازيات عصر العولمة “المنحطة تاريخيًا” ــ وملحقاتها المحلية من برجوازيات العالم الثالث ــ من مطاردة استحقاق التاريخ ومنطقه ألا وهو “الثورة” على الوضع، والتي بدأت حلقاتها الأولى في العام 2011 إبان انتفاضات وثورات الشعوب العربية والتي تم سحقها على يد الثورة المضادة العالمية والمحلية وإغراقها في دوامة الحروب، التي كان الغرض الأساسي منها هو ترهيب الشعوب وعقابها، ولكن عادت الشعوب مرة أخرى إلى ساحة المعركة، في إفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، ترفع راية المقاومة ضد مشاريع الاستغلال الإمبريالي بنسخته المنحطة “الرأسمال المالي” وتدفع بالأجيال الجديدة المحملة بخبرات عصر التكنولوجيا إلى ساحات المعارك الطبقية في جوهرها فكانت انتفاضة الشعب العراقي وتضحيات شبابه الثوار من المعارك التي تخاض ضمن هذا الإطار، إنها معارك شعوب العالم الثالث التي تناضل من أجل تحررها، ضد مؤسسات الاستغلال العالمي، المعارك التي بدأت جولتها الثانية في السودان وانتقلت إلى لبنان والعراق ويخوض غمارها -في المواقع الأمامية- الطبقات الشعبية بأميركا اللاتينية وأن عائدات النفط العراقي شهريا ربما تفوق الثمانية مليارات شهريا فمعدل الموازنة العراقية سنويا يصل الى مائة مليار دولار وقد يفوقه في بعض السنوات، ونسبة العادئات النفطية منه أكثر من 90%

في محاولة لرسم صورة واضحة لانتفاضة الشباب العراقي (انتفاضة تشرين)، لابد من قراءة لطبيعة الساحة التي تقف عليها تلك الانتفاضة العراقية الوطنية المتميزة في كل عناصرها، التي صيرتها حالة فريدة ومدهشة في تاريخ العراق الحديث، خاصة أنها قد جاءت بعد ما يقرب من ١٧ سنة من الاحتلال الأمريكي للعراق، وقد سعت فيها قوى الاحتلال (الخارجي والداخلي) إلى ترسيخ ترتيبات وسياسات تهدف في كل تفاصيلها إلى كسر إرادة العراقيين ونزع (جينات) المقاومة من الدماء التي تجري في عروقهم وتغذي حاضر وتراث حياتهم، ولاسيما أن هذه المقاومة كادت أن تطيح بقوى الاحتلال بعد أن عرضتهم لخسائر جسيمة (بشرية ومادية) جعلتهم يفكرون أكثر من مرة في التسليم وإعلان الهزيمة والانسحاب من العراق لكن تحالف قوى الاحتلال مع قوى غادرة (محلية وإقليمية) وتوافر ظروف عديدة صنعت بكلف كبيرة جدا، حالت دون تحقيق أهداف المقاومة كلها، وما التظاهرات والاعتصامات التي قام بها أهل العراق طوال سنوات الاحتلال العجاف هذه؛ إلا صورة من صور المقاومة والممانعة (المستمرة التي تحاكي مقاومة العراقيين انطلقت منذ أول يوم للاحتلال)، وقد عبرت هي الأخرى عن رفض العراقيين للاحتلال ولكل الترتيبات والسياسات والتوجهات التي تمثله وترعى مشروعه.

وإذا كانت المقاومة العراقية المسلحة للاحتلال قد تمت مواجهتها بكل ثقل قوى الاحتلال والتحالف (الداخلي والخارجي) الغادر؛ فان تظاهرات العراقيين واعتصاماتهم قد جوبهت بنفس القوى، التي كانت وما زالت تدرك أن مقاومة العراقيين قد اتخذت لها صورا متعددة لكن أهدافها واحدة تصب في استعادة العراق من خاطفيه وفك أسره وعلى أساس هذه التضاريس الواضحة لخارطة المقاومة والرفض العراقي التي لم تتوقف، يمكن تقديم قراءة لصورة انتفاضة شباب العراق (انتفاضة تشرين) على النحو التالي:

١. انتفاضة العراقيين (انتفاضة تشرين)، هي حالة مهمة وحلقة متميزة في سياق التظاهرات والانتفاضات والوثبات والثورات العراقية في العصر الحديث، وهي تعبر بحق عن رأي الشعب بعدم شرعية العملية السياسية، التي بدأت بعد الاحتلال الامريكي للعراق عام ٢٠٠٣، وقد بنيت على أساس المحاصصة الطائفية والإثنية وتقاسم المكاسب والامتيازات والمغانم، وأشاعت الفساد والطائفية واستهدفت هوية العراق الجامعة، واستبدلتها بهويات صغيرة- فرعية، ورهنت إرادة العراق لقوى خارحية إقليمية ودولية عديدة؛ حيث شكلت الانتفاضة أشبه ما يمكن أن يقال عنه استفتاء شعبي برفض العملية السياسية، وضرورة التخلص من كل مدخلاتها ومخرجاتها

٢. لم يعد ممكنا أبدًا إعادة عقارب الساعة إلى ماقبل بدء الانتفاضة في الأول من تشرين الأول، بمعنى أن حال العراق اليوم هو ليس حاله قبل انطلاق الانتفاضة، فلم يعد ممكنا ردم الهوة بين الشارع العراقي والعملية السياسية كإطار جامع للحكومة والأحزاب والقوى والشخصيات والميليشيات والمرجعيات المنتمية إليها والمدافعة عنها (فكرا وتوجها وأفعالًا ومخرجات).

٣. سقف المطالب للشباب المنتفض ارتفع سريعا ليثبت عند خط إسقاط العملية السياسية والتخلص من الأحزاب وتغيير الدستور وإلغاء قانون الانتخابات وحل الهيئات المستقلة (غير المستقلة أصلًا)، وإنهاء الفساد و محاسبة الفاسدين وتقديم من خاضوا في دماء العراقيين إلى القضاء وإطلاق سراح المعتقلين والمخطوفين من ساحات التظاهر أو بسببها، وتأمين كامل للخلاص من التبعية لإيران وإنهاء الميليشيات وأدوارها.. وغير ذلك من مطالب تتعلق باستقلال العراق وكرامة الوطن والمواطن.

٤. المعركة الجارية الآن بين الشباب (الشعب) وبين الحكومة (العملية السياسية)؛ هي في الحقيقة معركة (كسر عظم) مثلما يقال، وقد دلت على ذلك منذ اليوم الأول لانبثاق الانتفاضة في الأول من تشرين الأول الماضي، كونها انتفاضة تتضارب تماما مع أفكار وتوجهات العملية السياسية وأربابها، وكونها وهو المهم انتفاضة عابرة للطائفية.

٥. ساحات الانتفاضة في بغداد والمحافظات المنتفضة، يوجد فيها الآن:

أولًا: الشباب الثائر (تتراوح أعمارهم بين ١٥-٣٠ عاما) إضافة إلى أجيال أكبر انضمت فيما بعد للانتفاضة؛ إيمانا منها بشرعية وعدالة مطالب الشباب ورفضًا للواقع البائس الذي يعيشه العراق منذ ما يقرب من ١٧ سنة؛ فانتفاضة الشباب تنطوي على متعلمين وخريجين وأصحاب شهادات عليا وتخصصات مختلفة ومتنوعة وغيرهم، وبينهم من يعملون، ومن هم عاطلون عن العمل.. وكثير منهم ممن يمتلكون المعارف والمهارات ولديهم قدر كبير من الاطلاع على ما يجري في العالم عبر تعاملهم المستمر عبر الإنترنيت مع وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ولديهم تجارب وفكر يسمح لهم ويؤهلهم لتطلع كبير للعيش الكريم في فضاء الحرية والتواصل الإنساني والحياة الآمنة والمحترمة، والقدرة المتاحة في التعبير عن الرأي والمساهمة في التأسيس والبناء للحاضر والمستقبل ولحياة تليق بهم وبمجتمعهم ووطنهم.

ثانيا. القوى المناهضة للاحتلال والعملية السياسية، وهي قوى لها خبرة عالية وإمكانات فكرية وقدرات عملية يمكن استعمالها إذا ماتوفرت الفرص لصالح العراق وشعبه، وهي قد أيدت مباشرة ومنذ اللحظة الأولى (انتفاضة العراقيين – انتفاضة تشرين) ووقفت إلى جانبها (مثلما وقفت إلى جانب المقاومة طوال سنواتها الرائعة)، كونها تمثل جزءا من مسيرتها الذاتية وتطلعاتها، فضلا عن ثقتها بأن الانتفاضة تعبر عن رؤيتها الوطنية والإنسانية والأخلاقية التي تشكل أساس أرضية قامت وتحركت عليها ولأجلها.

ثالثًا: العراقيون (المحايدون) أو حزب (القنفة) –إذا ما استعرنا تعبيرات الإخوة المصريين الذين يسمونم حزب الكنبة- هم من ينتقدون الوضع القائم ويتذمرون ويعبرون بينهم عن رفضهم لهذا الواقع، إلا أنهم في الحقيقة لايشاركون فعليا في التعبير عن ذلك بشكل علني، وهم ينتظرون الفرصة إما للبقاء على حالهم الأول أو الانضمام إلى الانتفاضة، وبدأت مجاميع منهم (ليست قليلة) تتحرك باتجاه الانضمام إلى الانتفاضة مع مرور الأيام، وسوف يزداد انضمامهم وتزداد أعدادهم مع استمرار التظاهرات والتفاعل مع وسائل الإعلام، التي تلعب دورًا مهمًا في هذا الجانب لصناعة رأي عام مؤيد للانتفاضة .

رابعًا: قوى حزبية وسياسية وإعلامية ودينية (شخصيات وتنظيمات)، لها ارتباطات مباشرة وغير مباشرة بالعملية السياسية، تريد ركوب الموجة (كما يقال) وفي مقدمتها التيار الصدري، والتي تريد تجيير التظاهرات لصالحها، وهي من (القوى الناعمة) التي تستعملها العملية السياسية وإيران من خلفها، في محاولاتها المستمرة لإنهاء الانتفاضة، ولعل محاولات التيار الصدري في هذا الصدد هي الأبرز والأوضح.

خامسًا: القوى الكردية (الحزبان الرئيسان + قوى حزبية ومجاميع إعلامية أخرى)، هؤلاء جميعا ليسو مع الانتفاضة، وخاصة بعد رفع المنتفضين منذ أول يوم شعار تغيير الدستور أو حتى تعديله، الأمر الذي جعل هذه القوى (التي تعيش في بحبوحة الإمكانات المادية التي وفرها تأييدهم لتولي عادل عبد المهدي رئاسة الحكومة في بغداد) تقف موقفا سلبيا من الانتفاضة (سواء بالصمت عن أفعال القتل والقمع التي جرت والتي كانوا شهودا عليها،أو بتجاهل الانتفاضة في أيامها الأولى أو حتى الإشارة إليها من بعيد وباستحياء فيما بعد)، فيما كان موقفهم بالتأييد المطلق لحكومة عادل عبد المهدي والدستور والعملية السياسية، معتبرين أن النظام القائم هو نظام ديمقراطي يحقق طموح العراقيين وهو نظام منتخب ويجب عدم المساس به.

والحقيقة أنهم يعبرون في ذلك عن رؤية مصلحية (براغماتية)، فهم يخشون على مكاسبهم (الذاتية) التي حصلوا عليها طوال ١٧ سنة ماضية بإسناد من الدستور الذي صمم لتلبية تلك المكاسب بغض النظر عن مكاسب العراق (الوطن)، في ظل حكومات بغداد المتعاقبة منذ عام ٢٠٠٣، التي انهمكت في الفساد وتحصيل المنافع الشخصية والحزبية.

سادسًا: قوى العملية السياسية التي تقف إيران خلفها بكل قوة، فضلا عن الداعمين الأخرين (داخليا وخارجيا)، رافضة تماما للانتفاضة وترى أنها من أعمال “الشغب”، وتصفها بأنها مؤامرة خارجية ومشبوهة ومدعومة خارجيًا من أطراف عدة إقليمية ودولية، ولابد من فضها بكل الطرق وما استعمال القوة والسلاح إلا الطريقة الأفضل والأقرب إلى نفوسهم وعقولهم، من دون الاهتمام إلى الانتهاكات المفضوحة لحقوق الإنسان التي ترتكبها أمام الجميع، وانكشاف كذبة إيمانها بالديمقراطية وحرية التعبير التي تدعيها.

سابعًا: القوى الدينية الطائفية، التي هي جزء من حراس العملية السياسية، وحريصة على استمرارها برغم كل مخرجاتها من الخراب ورفض الشعب لها والثورة ضدها، وفي مقدمتها (مرجعية النجف) التي تحاول أن تلعب دورها كقوة ناعمة لإنهاء الانتفاضة بشكل لا يؤدي إلى توسيع مساحة النفور منها، فهي تلعب لعبة (الموالاة والمعارضة) في نفس الوقت، فمرة نراها تؤيد التظاهرات على استحياء ومرات تنتقدها وتقف بالضد منها بطريقة ناعمة من دون التصريح المباشر، فمجرد عدم تأييدها وتبنيها لمطالب المتظاهرين ومطالبتها للطبقة السياسية الفاسدة للقيام بإصلاحات معينة، يؤكد قيامها بتلك اللعبة المكشوفة (لعبة الموالاة والمعارضة)، الأمر الذي سيدفع إلى توسع وتعمق مساحة النفور منها وبما يحسم الأمر في نفوس المتظاهرين وعقولهم بأنها جزء من القوى التي تعاديهم.

ثامنًا: القوى السنية (سنة العملية السياسية)، وهي قوى منخرطة تماما في العملية السياسية وحالها جزء من حال قوى العملية السياسية الأخرى بمختلف انتماءتها المذهبية والإثنية الرافضة للانتفاضة والعاملة على النيل منها بكل الطرق، وربما هذه القوى هي الأكثر استعدادا لمواجهة الانتفاضة بالرفض، تطبيقا لمقولة: (ملكيون أكثر من الملك).

تاسعًا: قوى شعبية واسعة تعرضت لكم هائل من الظلم والاستبداد والتنكيل، وهي مضغوط عليها بقوة لكنها مؤيدة ومنتمية للانتفاضة ( قلبا وقالبا)، وهي جماهير المدن السنية المدمرة والتي سيأتي دورها وتدخل الساحة لاحقا؛ فهي لديها معوقات وتواجه ضغوط كبيرة وحقيقية لكنها تتحين فرصتها وهي قادمة لا محال، ويشمل ذلك جانب الكرخ من بغداد ومناطق مهمة في جانب الرصافة.

عاشرًا: قوى العراقيين الشعبية في الخارج، وهي قوى مؤيدة تماما للانتفاضة ومنتمية لها، وتقوم بدور طيب ومهم في التأييد وكسب الرأي العام في المساحات الدولية التي تتواجد فيها، والتي تسمح لها بمثل هذا التحرك، وهي أيضا نشطة ومؤثرة في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واضح، لكسب مساحات من التأييد للانتفاضة وشرح حقيقة الوضع في العراق وحقيقة استبداد وفساد السلطة الحاكمة وما تقوم به من انتهاكات لحقوق العراقيين في الحياة.

٦. إن لغة الحكومة وكل أحزاب وقوى العملية السياسية، مازالت لغة تعبر عن التهديد والاستخفاف والتضليل وعدم الاكتراث حتى بالشهداء الذين سقطوا وبالدماء التي تسفكها وبالجرحى الذين تصيبهم، وقد تجاوز عدد الشهداء والجرحى اكثر من (عشرين الف) شهيد وجريح فضلا عن المعتقلين والمخطوفين والمغيبين، ولاتتردد في استعمال لغة السلاح القاتل في مواجهة المتظاهرين السلميين، والحديث عن دستور وايديولوجيات ومبادىء (هي في الأصل مجرد شعارات فقط)، وكلها لاقيمة لها إزاء الدماء التي سالت وتسيل يوميا من شباب العراق.

٧. إن شرعية الحكم هي شرعية الانجاز وقناعة الناس وقبولهم بهذا الانجاز، والحديث عن شرعية الانتخاب هي مجرد كذبة كبيرة، فهي بالإساس تجري وفقا للمحاصصة والتزوير والقياسات المعدة سلفا منذ أول انتخابات جرت عام ٢٠٠٥ وحتى اليوم، فضلا عن أن الانتخابات الأخيرة التي جرت في عام ٢٠١٨ قد تم مقاطعتها من قبل أكثر من ٨٢% ممن يحق لهم التصويت والنسبة الباقية التي شاركت بتلك الانتخابات التي لا تتعدى ١٨%، وارتُكبت فيها عمليات تزوير فاضحة اعترف بها القريب والبعيد، وصلت إلى حد حرق صناديق عديدة للاقتراع وغير ذلك الكثير، وبذلك فإنها حتى في هذا الجانب لايمكن أن تمنح قوى العملية السياسية القدرة على التشدق بالقول إنهم قوى منتخبة من قبل الشعب.

٨. بالنسبة لإيران والولايات المتحدة الأمريكية (القوى المتحكمة والمتخادمة في إدامة الوضع الكارثي في العراق) يمكن القول:

أولًا: إن إيران كطرف ساعي إلى إضعاف العراق، تجد في الوضع العراقي (الهش والضعيف) غاية وهدف يتم بهما تحقيق مشروعها في التمدد وفرض نفسها كقوة إقليمية متحكمة بالمنطقة ومعترف بها دوليا، لذلك لن تتراجع عن دعم الطبقة السياسية الحاكمة للعراق (بكل تفاصيلها: (أحزاب، مليشيات، شخصيات…)، ولن تتراجع عن دعم بقاء العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية التي تمنح (جماعاتها من العملاء) القدرة على التحكم بالعراق سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وبما يجعله قاعدة متقدمة لخدمة المشروع الإيراني وتنفيذه .

ثانيًا: إن الولايات المتحدة الأميركية وبعد ١٧ سنة من “علاقة التخادم” مع إيران في العراق، تجد نفسها في وضع قد يدفعها للتخلي عن تلك العلاقة “التي اعتقدت طهران أنها علاقة زواج كاثوليكي” لايمكن الانفصال فيها، فواشنطن تجد اليوم أن المشروع النووي الإيراني يشكل (خطًا أحمر) لايمكن تجاوزه بما يتيح استمرار (علاقة التخادم) في العراق وعلاقة التفاهم والحاجة لطبيعة وتصرفات النظام الإيراني في عموم المنطقة وبما يخدم سياسات الابتزاز الأمريكي التي تمارسها إدارة الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) على الكثير من دول المنطقة وخاصة الخليجية منها بحجة الحماية والشراكة الإستراتيجية. وأمام إصرار إيران على التشبث بمشروعها النووي، فإن أمريكا يمكن أن تتحول إلى قوة (مزعجة جدا) وربما (عدوة) للنظام الإيراني تبعا لاستمرار العناد الإيراني فيما يخص الملف النووي، وهو حتما عناد مستمر لن تتراجع عنه؛ لأن ذلك سيؤدي إلى أن تخسر إيران مشروعها في التمدد و فرصة فرض نفسها كقوة إقليمية لها حساباتها المحترمة عند كل الأطراف، باعتبارها عضوا في النادي النووي الدولي، (كحال الباكستان وكوريا الشمالية وغيرهما). وهنا ينبغي الحذر فقد تلتفت الإدارة الأمريكية للعراق وتظهر تعاطفها مع الانتفاضة فيها من باب موازنات مواقفها القديمة الجديدة وليس من باب الانحياز لخيار الشعبي العراقي.

٩. ويبقى السؤال المهم : ما مصير وحال الانتفاضة في ظل ما تقدم؟

انطلاقا من كل ماتقدم من ملامح صورة الانتفاضة العراقية، يمكن استشراف المآلات بالقراءة التالية:

أولا: الانتفاضة تواجه من يومها الأول أوضاعا معقدة وملتبسة، لكنها استطاعت تجاوز الكثير من معوقات هذه الأوضاع وهي اليوم تتمدد وتتعمق؛ فالانتفاضة (برؤية واقعية) تتوسع أفقيا وتتعمق، وهذا الحال يقوي من قدرتها على تنفيذ العصيان ومن ثم الإضراب العام، الأمر الذي سيستدعي حتما (العامل الدولي )وهو ماتحتاجه الانتفاضة حتما، رغم أنها تعتمد على نفسها في تحقيق أهدافها، وبالتالي ستكون الأمور قد انقلبت لصالح العراقيين بشكل كبير (قد لايتحقق الطموح مثلما هو مطلوب، لكن حال العراق بالتأكيد سينتقل إلى وضع جيد لا يمكن مقارنته مع الوضع الحالي، ويمكن التأسيس عليه لانطلاقات أخرى أكثر جودة وأكثر إشراقا).

ثانيًا: إن احتمال مواجه الانتفاضة لحال الانكسار، لايستدعي أبدا القول إن الانتفاضة قد فشلت،بل إن مجرد انبثاق هذه الانتفاضة كان علامة واضحة على أن العراق مازال بخير وأن الدماء الطيبة تتدفق في عروقه،وأن الانتصار صار ممكنا في ظل انكشاف ضعف قوى الحكم و خوارها وعدم ثقة الشعب بها بنحو ربما لايبقي على أحد ممن اشتركوا في قمعها.
ثالثًا: الانتفاضة عبرت عن حالة متطورة من جهاد العراقيين ونضالاتهم من أجل وطنهم وأنهم لايمكن أن يقبلوا بحكم الأخرين لهم، وأن القوة الناعمة والخشنة الإيرانية قد أُصيبت بمقتل في العراق وأن وجودها لم يعد ممكنا أو على الأقل لم يعد مقبولا ومرحبا به ويسيرا مثلما كان عليه الحال. وإن احتمال عدم تحقيق الانتفاضة لأهدافها بالتفاصيل التي أعلنت عنها، لايمنع من القول إن العراق سيشهد (بفضل الانتفاضة) تغيرات لابد أن تحصل في الخريطة السياسية، إذ إن التصدع في القوى الحاكمة سيزداد حدة وتأثيرا، وبما يدلل أكثر على ضعفها وخوارها وتراخي قبضتها، وإن الانتفاضة ستعود (إذا ما استطاعوا قمعها لا قدر الله) للانبثاق مرة أخرى كثورة عارمة لا تبقي على أحد ممن اشتركوا في دمار العراق وسلب حقوقهم وسرقة حياته وحياة شعبه

أحدث المقالات