قسطنطين ومعاوية، مؤسسا ديانتين وضعيتين كبريين، لاتزالان تحظيان بعدد هائل جداً من الكهنة والأتباع والفدائيين والأنظمة السياسية والمعابد والطقوس والتقاليد الإجتماعية. وتتستر هاتان الديانتان تحت المسميات الأصلية التي اختطفتاها، إمعاناً في الخديعة التاريخية الكبرى التي مارسها الإمبراطوران المؤسسان بحق أتباع الديانتين المسيحية والإسلامية.
الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول ( 272 ـ 337 م ) اختطف الديانة المسيحية، وقضى عليها تقريباً، واستحالت مدرسته العقدية الطقسية الممثل الرسمي الحصري لدين السيد المسيح. وربما يكون أتباع الديانة القسطنطينية الأرضية هم الأكبر عدداً اليوم بين الأديان على مستوى العالم، وإن كانوا لايعلمون أنّهم أتباع قسطنطين، ويعتقدون أنهم أتباع المسيح.
أما السلطان معاوية بن أبي سفيان ( 608ـ 680 م )، فقد عمل على اختطاف الديانة الإسلامية، و حاول القضاء عليها عبر فرض تعاليمه البديلة، لكنه – وإن لم ينجح بمستوى نجاح قسطنطين- إلّا أن ديانته الأرضية استحالت ديناً رسمياً حاكماً بديلاً للدين الإسلامي، منذ تأسبس الدولة الأموية وحتى الآن في بعض بلدان المسلمين. والمفارقة أيضاٌ أن أتباعها لا يعلمون – غالباً- أنهم أتباع دين معاوية، وليسوا أتباع دين محمد بن عبد الله.
وقد اقترنت الديانتان الأرضيتان القسطنطينية والأموية بظواهر ستراتيجية مشتركة كبرى، أهمها ظاهرة شن الحروب على الشعوب وإكراهها على اتباع الديانة الغازية، والاستيلاء على أراضيها وضمها الى إمبراطورية الديانة الغازية.
و يمكن القول، أن الإستعمار القسطنطيني هو الحركة التوسعية الإستعمارية التي بدأها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، بعد اعتناقه المسيحية، واختطاف تعاليمها، وتحويلها الى الركيزة العقدية لحركتة الإستعمارية. وقد أطلق قسطنطين على نفسه ألقاب القديس و الرسول وخادم المسيح، وهو في الوقت نفسه الإمبراطور الحاكم ورجل الدولة ومالك الأرض والناس. كل ذلك لتسويغ أهدافه في استعباد الشعوب و احتلال أراضيها وإكراهها على اعتناق المسيحية القسطنطينية بالقوة؛ لكي يشكل ذلك بيعة دينية للإمبراطور في أعناق الشعوب المحتلة والمستعبدة، وضماناً لاستمرار استعباد الشعوب بسلطة الدين.
و سار خلفاء قسطنطين على سيرته، وكانت وسيلتهم في تحقيق أهدافهم الإستعمارية، شن الحروب وذبح الناس واضطهادهم ومصادرة أموالهم و سبي نسائهم باسم المسيحية أو القسطنطينية بالمعنى الصحيح. حتى تمكنت الإمبراطورية الرومانية من إحتلال معظم أوروبا وكثير من شمال أفريقيا وغرب آسيا، تحت شعار نشر المسيحية. كما سار على نهج قسطنطين جميع أباطرة أوروبا والغرب وملوكها من بعده. وباتت الديانة المسيحية ديانة أوروبية سلطوية، وركيزة من ركائز الإستعمار الأوروبي. في الوقت الذي تتعارض ممارسات إستعباد الشعوب ومصادرة أراضيها تعارضاً تاماً مع تعاليم السيد المسيح وشريعته المتمثلة بالمحبة والأخوة والتسامح والسلام، ورفض العدوان وإراقة الدماء، و عدم التجاوز على أعراض الناس وممتلكاتهم.
أما الإستكبار الأموي، فهو الآخر استعار منهجية الرومان في أساليب الإستيلاء على أراضي الغير، واستعباد الشعوب، بحجة نشر الدين الإسلامي، وتحت عناوين الفتوحات أو وحدة الدولة الإسلامية. وهو ما لم يفعله الرسول محمد. بل أن المنهج الإستكباري الإستعبادي هذا يتعارض مع ما أوصى به النبي من مبادئ إحترام عقائد الأديان والعطف والرحمة تجاه جميع البشر، بل تجاه الحيوان والنبات.
وبعد أن حارب معاوية الإسلام طويلاً، ثم اعتنقه كيداً، تمكّن من الإطاحة بالشرعية الدينية السياسية، والإستيلاء على السلطة في دولة المسلمين. وحينها كرّس مشروع تحريف عقيدة الإسلام وشريعته وسلوكياته، وعمل على تحويل الإسلام الى دين تلفيقي، محمدي في ظاهره، و أموي في جوهره. كما أعطى لنفسه ألقاباً دينية، ككاتب الوحي وأمير المؤمنين وخليفة رسول الله، لتكتمل حلقات المؤامرة على الإسلام والعدوان على الشعوب الأخرى. كما فعل قسطنطين تماماً بديانة السيد المسيح.
وبات الدين الأموي هو الدين السلطوي الإستكباري للإمبراطورية الأموية، والشعار الذي ظل يرفعه الإستكبار الأموي و الإستكبارالعباسي و الإستكبار العثماني في حروبهم المستمرة ضد الآخرين، من أجل إكراه الناس على اعتناق الدين الاموي، و ذبح الأبرياء واستعبادهم ونهب ثرواتهم وسبي نسائهم ومصادرة أراضيهم وضمها لدولهم. وهو دين يختلف عن دين الرحمة والإنسانية ومكارم الأخلاق ورفض الإكراه الذي بشّر به رسول الله محمد، وتمسك به آل بيته من بعده.
وبعد الإمبراطور المؤسس معاوية بن أبي سفيان، سار على النهج نفسه ملوك الأمويين والعباسيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين والوهابيين.
إن النجاح الأساس الذي حققه الدين القسطنطيني هو أنه استطاع إقناع عموم المسيحيين بأنه هو الدين الرسمي المسيحي، وأنه يمثل عقيدة السيد المسيح وشريعته وتعاليمه، وأن الخروج عليه هو خروج على المسيحية. وبالتالي؛ بات الخروج على الملك وعلى الدولة والسلطة وعلى الإحتلال والإستعباد، هو خروج عن الدين. وهنا مربط الفرس.
بيد أن مشكلة الديانة الإسلامية أقل تعقيداً من مشكلة الديانة المسيحية في موضوع التحريف والإختطاف، لأن النبي محمداً وضع ضمانتين أساسيتين للحيلولة دون إختطاف الإسلام إختطافاً نهائياً، وهما القرآن الكريم وآل البيت، المعبِّران عن إسلام رسول الله. وهي خاصية لا تتوافر في الدين المسيحي.
وقد عملت نهضة الإمام الحسين بن علي وما أعقبها من ثورات علوية ضد الحكم الأموي، والجهود العلمية والدينية والتبليغية التي قام بها أئمة آل البيت، ثم انهيار السلطة الأموية، على تقويض كثير من معالم الدين الأموي.
كما استطاع كثير من فقهاء مدرسة الخلافة النأي بأنفسهم عن الدين الأموي، والتأسيس لمذاهب فقهية مستقلة عنه، وهو ما تمظهر بالمذاهب المالكية والحنفية والشافعية، برغم احتفاظ هذه المذاهب بمنظومة الفقه السياسي السلطاني الوراثي للدين الأموي. وفي المقابل، مارس ابن تيمية وتلامذته، وصولاً الى محمد بن عبد الوهاب، جهوداً استثنائية للحفاظ على الدين الأموي بكل تفاصيله، ونجحوا بشكل كبير خلال القرن التاسع عشر الميلادي وحتى اليوم من إعادة الدين الأموي الى سابق عصر ازدهاره خلال حكم معاوية ويزيد ومروان بن الحكم.
ولذلك ظل الصراع على أشده بين دين معاوية ودين النبي محمد، بل لايزال هناك صراع مستعر داخل أتباع دين معاوية أنفسهم، و تحديداً بين تيارات التمسك بدين معاوية الأموي وتيارات العودة الى دين محمد، والتي باتت تتكشّف لها في كل زمان ومكان الفروقات بين دين معاوية ودين محمد.