سؤال لا بد انه خطر على بال كل عراقي يرى ما حولنا ومن حولنا ويحلم باليوم الذي نحقق فيه حلم كل انسان عاقل والغاية من وجودنا على الارض وهي ان نبني جنة ارضية بالعدل والاحسان والمساواة والاخوة الانسانية وطاعة الله تعالى كوسيلة وطريق الى الجنة السماوية وحياة الخلد في ما بعد الحياة الدنيا، وفي هذا المجال تتفاوت النظريات التي تطرح هنا وهناك في الكتب والمؤتمرات واللقاءات الشخصية وفي كل طبقات المجتمع بلا فرق حول الوسيلة التي يمكن من خلالها ان نصل الى ما نريد: بالدين؟ ام بالعلم؟ ام بكليهما؟ بالاطاريح الارضية شرقية وغربية؟ ام بالأطروحة السماوية بتقليد من حولنا ام باختيار نمط خاص بنا؟ ونمطنا الخاص من الماضي والتراث ام من الحاضر؟ بالديمقراطية الحديثة النشوء وما نشأ عنها من سلبيات ام بدكتاتورية مقننة بدستور قوي وشعب واعي؟ وهكذا تتعدد الطروحات والرؤى ونحاول هنا ان نسلط الضوء على اهم الطروحات ومدى مقبوليتها مبدئياً وواقعياً وشعبياً.
يعود اختلاف الرؤى الى تفاوت عقلي وفكري وعرقي وحضاري بين مكونات المجتمع الواحد! نعم المجتمع واحد ولكن مكوناته متنوعة بشكل غريب فمن نمط مدني تقليدي يسكن المدن منذ الازل ويمتلك من الثقافة والوعي المقدار الكافي لتمييز ما يصلح للعراق مما لا يصلح له الا ان هذا الصنف اخذ بالتناقص مع هجرة سكان الريف والبادية الى المدينة بعد ان فشلت الزراعة وجفت الاهوار وازدادت الفروق بين حياة المدينة والاهوار والبوادي والارياف وتعرضت مناطق العراق غير المدنية الى اهمال مسرف منذ عام 2003 بل وقبلها بكثير والى الان فظهرت طبقة جديدة من سكان المدن التي نشأت من القادمين من وراء الحدود والقادمين من الارياف والبوادي والاهوار فطغت عادات جديدة واختفت الكثير من عادات المجتمع القديمة واصبح لزاماً على الدارس للمجتمع العراقي ان يأخذ التنوع الجديد بعين الاعتبار وهنا نطرح ما يعتقد الناس انه يمكن ان يكون طريقنا الى المستقبل ومدى واقعيته للمجتمع العراقي وخصوصيته:
اوروبا: يرى البعض ان العراق الان يمر بمثل ما مرت به اوروبا بعد القرون الوسطى وانه كالجواد الذي تحرر من القيد واطلق سراحه بعد سجن طويل وان التنوع الفكري والثقافي الحالي او الممكن الحصول في قابل الايام يشابه ثورة الافكار التي حصلت في اوروبا بعد اسقاط سلطة الكنيسة وبعد الحرب العالمية الثانية واقول: العراق لن يصبح كأوروبا مهما حصل بعقليات ونفسيات البشر العراقيين الحاليين وحتى المستقبليين فثورة الدين وثورة الزندقة لدينا موجة لا تنتهي! ولن يظهر عندنا مارتن لوثر كينغ ولا بروتستانت ولن تصل لدينا المنظمة الدينية لما وصلت اليه كنيسة اوروبا في القرون الوسطى مهما حاول البعض ايهام البسطاء بذلك ومهما بلغ التعصب ببعض التجمعات والتوجهات فأنها لن تكون اغلبية حاكمة او وجهاً معبراً عن المجتمع. ربما يظهر لدينا هتلر من وقت لأخر ولكن لن يظهر لدينا اينشتاين او نيوتن او بيكاسو او جان جاك روسو وحتى لو ظهر فسيقتل او يهرب قبل ان يحقق ما حققوا!!
امريكا: يرى البعض ان اسلم طريق واقصر طريق للوصول الى الهدف هو تطبيق التجربة الامريكية التي تطغى على اغلب دول العالم اليوم في محاولة تقليد نمط الحياة الامريكية التي تعمل جاهدة لتوحيد شعوب الارض فكرياً بألتها الاعلامية الضخمة ليسهل بعدها توحيد النظام السياسي الدولي بقطبية مفردة لا تجابه ولا تضاد من اي دولة اخرى واقول : العراق لن يصبح كأمريكا لأن الكثير من ابناء هذا الشعب ينظر بنظرة الريبة والاحتقار لأمريكا وشعبها بسبب التراث الضخم من العداء والمؤامرات بيننا وبينهم ولدينا مقولات ضخمة لتساهم في ترسيخ العداء لأمريكا من قبيل (ان امريكا الشيطان الاكبر ولو حصلت حرب بين امريكا والشيطان فأنصروا الشيطان ضد امريكا) ولعمري انه لقول مختصر يختصر الكثير مما يشعر به كل عربي ومسلم غيور يستقرأ التاريخ بشكل صحيح، اضافة الى ان امريكا نفسها لا تريد ان تكون كما هي الان ونرى في كل فترة يظهر في المجتمع الامريكي من يحاولون ان يعبروا عن رفضهم لما هم عليه الا ان المد اعلى من ان يستطيع احد ان يقف بوجهه! ومهما حاولت امريكا ان تزرع من العملاء وتزين من صورتها فينا فأنها لن تصبغ شعبنا بصبغتها ولن تنجح في اقناع الناس بما عندها مهما حاول البعض تجميل صورتها والترويج لها.
نموذج اخر يرى البعض ان نقتدي به وهو دول شرق اسيا (الشعوب الصفراء) وهي بحق نموذج جميل للاحتذاء به وقد مروا بمثل ما نمر به الان في اعقاب الحرب العالمية الثانية واقول: ان العراق لن يصبح يابان او صين او كوريا لأنا ببساطة لا نمتلك الانضباط العلمي والعملي الذي يملكونه ولن نمتلكه يوماً بما لدينا من ماضي شائك وحاضر مظلم لا ينبأن بخير للمستقبل!
العراق لن يصبح الخليج فنحن لدينا من الطاقة الكلامية والفلسفية النظرية ما يمنعنا من الاعتراف الذي اطلقه حكام وشعوب الخليج ب(اننا لا نفهم ولا نعلم فخذوا نفطنا ونظفونا وفهمونا وعلمونا!) وسنبقى نفخر بذكائنا وقدراتنا المميزة وعقولنا الجبارة التي لم تنجح لحد الان الا في بث الفرقة تهديم الوطن الواحد والتراجع الى الخلف في كل المجالات وعدم التفكير او النجاح في التقدم او اللحاق بالأمم وفي كل المجالات!
العراق لن يصبح ايران او افغانستان او السعودية لأن التعددية العرقية والدينية فيه تمنع اقامة دولة دينية او طائفية مهما حاول البعض العمل لذلك او التخطيط له ولو على المدى البعيد فالوطنية الانسانية هي خير منهج لبناء وطن تعددي حر مستقل يكون فيه الدين محركاً لخير الناس وليس سلاحاً مشهوراً على اعناقهم وارزاقهم كما يحاول البعض تشويهه بهذه الصورة وتطبيقه.
العراق لن يصبح كأي دولة اخرى مهما حاولت قوى الجذب والطرد من التيارات المختلفة مادية ومعنوية ارضية او سماوية دينية او علمانية مهما حاولت ان تستنسخ تجارب الاخرين فيه لذا اظن انه حان الوقت لنعيد حسابتنا ونطبق مبدأ (العودة الى الذات) بمعنى ان نعود الى اساسياتنا المادية والمعنوية التاريخية والجغرافية والحضارية ونحاول بناء مفهوم جديد يخصنا لا يشابه اي منظومة اخرى قريبة او بعيدة، نعم يمكننا الاستفادة من تجارب الغير نسبياً وجزئياً الا ان اي تجربة كاملة اخرى لن تتطبق عندنا.
سيأتي السؤال هنا حول المطلوب من هذا المقال؟ واين تريد الوصول؟
فأجيب: ان العلم والعمل والعبادة والاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة والفن والرياضة وكل مفصل من مفاصل الحياة لم تعد مفاهيم عشوائية لأي احد القدرة على استيعابها بمجرد القراءة العشوائية بل انها علوم تدرس وتقضي الناس اعمارها في تتبعها واستقصاء حقائقها لذا اقترح ان نوظف المفهوم العملاق (منظمات المجتمع المدني) في تخصيص بعض منها لكل من هذه العلوم والفنون كهيأة استشارية لمناقشة كل مستجد وحتى الثابت القديم وبمشاركة المختصين في كل اختصاص لإعطاء الرأي الذي يجب ان نلزم به كل الناس بصفته صادر من مختص ولا نترك الامر تائه الى ما لا نهاية ولكل من هب ودب ان يصرح ويناقش كأنه يفهم كل شيء وعلى السادة السياسيين الحاليين واي شخص يفكر ان يكون سياسي مستقبلي ان يدرس السياسة كعلم واختصاص ويأخذ منها افضلها وهو قابلية حكم الناس بتنظيم حياتهم والتضحية في سبيلهم وليس التأمر عليهم لتحقيق مصالح ضيقة حزبية او فئوية او عشائرية او غيرها وان يستفيد من تجارب الماضي والحاضر لصنع غد منظم مشرق يناسب عراقيتنا وعروبيتنا ودياناتنا المتعددة تحت مظلة الوطن لواحد. وفي اليوم الذي نحظى فيه بسياسيين اكاديميين متخصصين متفانين في الواجب مضحين بالغالي والنفيس لخدمة مصالح الشعب ينطلقون من العراق وله فقط عندها سيتضح الطريق الى ما نريد كلنا وهو ان ندعمهم ونحميهم ليخدمونا بكل حكمة واخلاص عسى ان يكون ذلك قريباً!