التشييع في العراق ظهر وكأن نسبة يعتد بها من شيعة العراق ما زالت موالية لدولة ولاية الفقيه، وراضية بنفوذها أو هيمنتها على العراق، أو لنقل لاحتلالها واستعمارها له، دون أن أخوّن كل هؤلاء، مهما كانت نسبتهم، فالجهل معذور. وهذا إن صح فهو قد يكون خلاف ما تكوّن لدينا من انطباع عبر الانتفاضة إن أكثرية شيعة العراق ضد دولة ولاية الفقيه وسياستها الاستعمارية المضرة بالعراق، وضد الأحزاب الشيعسلاموية الموالية للنظام الإيراني، أو المنسقة معه، فنحن نعلم إن هناك من الطبقة السياسية من نسميهم بسنة إيران، وبكرد إيران، كما إن هناك تركمان تركيا، وسنة السعودية وقطر والإمارات وتركيا.
بكل تأكيد ليس كل الجماهير الحاشدة التي شاركت في التشييع في الجادرية والكاظمية وكربلاء والنجف، هم موالون لنظام ولاية الفقيه، وليسوا كلهم مؤيدين لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية. فدوافع المشاركة الحاشدة في التشييع مختلفة، منها العاطفة الشيعية، ومنها النظرة السائدة، بأن الذين قتلوا على يد الأمريكان هم أبطال تحرير العراق من عصابات تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش)، ومنهم من اهتموا بتشييع المهندس خصوصا، كونه قائدا حشديا عراقيا، وكان قائد الحشد الفعلي، وليس رئيس الحشد الرسمي فالح الفياض.
ولا أحد ينكر بطولة كل من القتيلين سليماني والمهندس، ودورهما في المعارك ضد داعش. فهما كانا مؤمنين إيمانا عميقا جدا بل بلا حدود، برسالتهما، وبعقيدتهما، وبولائهما للإسلام ولمذهب أهل البيت ولنظام الجمهورية الإسلامية، وللولي الفقيه، نائب الإمام المهدي، الذي كانا يعتبران الولاء له ولاءً لله ورسوله وأهل بيته. ونحن نعلم إن كل من يؤمن بعقيدة ما إيمانا مطلقا يكون مضحيا لها بكل بطولة وإقدام، ومستعدا بالتضحية بحياته من أجلها. فأيام كان كثير من العلمانيين وكثير من السنة معجبين ببطولة حزب الله اللبناني، ومواقف أمينه العام حسن نصر الله، فكنت أقول لهم إن المؤدلجين اليقينيين يكونون دائما أبطالا لا يهابون الموت قبال العدو، أو من يعتبرونه عدوا لهم، لكنهم إن حكموا شعوبهم، سيكونون طغاة قامعين للحريات، كما هم النازيون في ألمانيا أيام هتلر، والفاشيون في إيطاليا أيام موسوليني، والستالينيون في الاتحاد السوڤييتي، والبعثيون في العراق وسوريا، والولائيون في إيران، مع اختلاف في الدرجة والأساليب.
أما فضلهما في محاربة داعش، فإنهما حارباه بالدرجة الأولى لمصلحة الجمهورية الإسلامية التي يؤمنون بها باعتبارها الدولة الشرعية واجبة الطاعة وواجب الدفاع عنها وحمايتها وتقديم مصلحتها على أي مصلحة أخرى، علاوة على حمايتهما للعملية السياسية في العراق الضامنة للنفوذ الإيراني بإبقاء حكم الإسلاميين الشيعة.
بعدما كانت هيبة النظام الإيراني وهيبة الولي الفقيه نفسه، وهيبة الأحزاب العراقية الموالية لهما ورموزها، كقيس الخزعلي، وأبو مهدي المهندس نفسه، قد سقطت، ومزقت وأهينت صورهم، كما هو الحال مع صور المالكي والعامري والحكيم وغيرهم، بل شمل ذلك خامنئي وسليماني، ولأول مرة منذ 2003، أعاد ترامپ لكل من ذكروا هيبتهم، وجعل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وعلي خامنئي موضع التقديس مجددا.
من الإفرازات السلبية لحماقة ترامپ، إظهار الأحزاب المتطرفة وعموم الأحزاب الشيعسلاموية، لاسيما الموالية لإيران، رؤوسهم، ورفع أصواتهم، بعدما كانت الانتفاضة قد جعلتهم يخنسون، وتخفت أصواتهم النشاز، بل عاد مقتدى الصدر إلى سيرته الأولى، داعيا إلى تأسيس المقاومة الدولية، ومصطفا مع من أسماهم بالميليشيات الوقحة، ليشاركهم وقاحتهم، بما عهد منه، قبل تحوله بالاصطفاف إلى التيار المدني، الذي لم يطمئن له الكثير منا. فها هو يعيد تشكيل جيش المهدي، بعدما كان قد حله، وجيش المهدي معروف بسمعته السيئة يوم كان يزاول القتل الطائفي اليومي، ويرعب كل من يخالفه في مناطق نفوذه حتى من الشيعة. واصطفت قوى (المقاومة والممانعة) من جديد، وحشدت وهيجت للخروج بقرار من مجلس النواب بإخراج القوات الأجنبية، بقطع النظر عما إذا كان هذا القرار قابلا للتنفيذ، لاسيما في الظرف الحالي، حيث لا نملك حكومة كاملة الصلاحيات. أما ترامپ، فرفض إخراج قواته إلا بطلب من الشعب العراقي، ولا نعرف كيف يريد أن يعرف موقف أكثرية الشعب العراقي. المهم لم يكن مجلس النواب يوم التصويت على هذا القرار برلمانا عراقيا، بل كان برلمانا شيعيا محضا، طبعا ليس نسبة إلى شيعة العراق، بل كون الحضور كان مقتصرا على الكتل والأحزاب الشيعسلاموية، التي تبرأت منهم انتفاضة تشرين، التي لم تكن انتفاضة شيعية، بل كان الأغلبية الساحقة من جمهورها من المناطق الشيعية أو ذات الأكثرية الشيعية. وقاطع كل من النواب الكرد، والأغلبية من النواب السنة هذه الجلسة. فهو إن كان قرار برلمانيا، وعلى فرض تمثيل مجلس النواب للشعب العراقي، فإنه كان يوم الأحد (مجلس النواب الشيعي)، وليس بالضرورة (مجلس نواب الشيعة)، والفرق واضح.
جاء قرار مجلس النواب العراقي هذا كعامل تصعيد خطير يضاف إلى التصعيدين الأحمقين من قبل أمريكا وإيران، هذا القرار الذي انطلق من تحقيق انتصار معنوي، يذكرنا بانتصارات صدام، ولم تحسب فيه أي حسابات للمصالح الوطنية العراقية، على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني، بالرغم من إن عملية ترامپ كانت انتهاكا صارخا للسيادة العراقية وتوريطا للعراق في إدخاله في أزمة هو في غنى عنها، وطعنة موجعة للانتفاضة كما مر، وإعاقة لعملية الإصلاح والتغيير السياسي في العراق. وصحيح إن قرار مجلس النواب غير ملزم، وغير قابل للتنفيذ حاليا، لأن العراق يفتقد حاليا إلى حكومة كاملة الصلاحيات، كون حكومة تصريف الأعمال لا تملك مثل هذه الصلاحية.
من أولى تبعات هذا القرار الأحمق والمتهور، وغير الآخذ بالحساب المصالح الوطنية، هو حزمة العقوبات التي أعلن عنها ترامپ ضد العراق، ومطالبته بدفع كلفة القاعدة الجوية، التي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، ورفع الاستثناء للعراق من العقوبات التي تشمل الدول التي تتعامل مع إيران اقتصاديا، وبالتالي منع العراق من استيراد الطاقة من إيران، وغيرها من العقوبات، التي هدد ترامپ أنها يمكن أن تكون أقسى من العقوبات على إيران.