حين تلمَس بأصابعه القمحية ملامح حروفي أول مرة قلَب أوراقي التي سلمتها بيده على طاولته ورفع بصره بوجهي: أتمنى ان تكون هذه الحروف أنيقة كصاحبتها كي يقرأها الناس ويروا فيها صدق الكلمة، بقيت انظر ان يقلب أوراقي ويقرأ ما كتبته عن موضوع شغلني، وعادتي في بداية دخولي عالم الصحافة، حين اكتب موضوع صحفي أدسه في كف صحفي مقتدر ينبهني الى أخطائي، ويعلمني كيف اختار الطريق الصحيح، كي استظل بعرش الصحافة الثر، وكانت كف سجاد الغازي في هذا الموضوع قد التهمت حروفي بكرمها المعتاد واختارت ان تفرط ملح كلماتي وتعيد لي ثقتي بنفسي.
حينها توجست خيفة، وألتصق قوامي الهزيل على جدار مكتبه، وارتجفت كلتا يدي، أغمضت عيوني، خوفا من ان تلتقي عيناه، واهرب ولا أعود وانا عاشقة الصحافة وهاويتها حد الموت، لكنه حين رفع بصره مرة أخرى طمأنني من خوفي، ونزع عن وجهي علامات الفزع، بهدوئه المعهود وأبوته الصادقة، اعترف الآن إنني خفت وفزعت، لا لأنه شخص يعتريك الخوف والفزع منه، بل لهيبته ووقاره ولطفه وجميل كلامه، وحروفه المنتقاة، وحسن تعامله مع الشباب الطموح (طبعا حين كنت شابة طموحة) ليكون شيئا ما في عالم الصحافة المغري بالتواصل والاستمرار والشهرة، رغم عوادي الزمن وغدر الآخرين الذين يدخلون بأقنعة الأصحاب، وبعد ان تلمس شغفي بالصحافة وحماسي ان أكون ابنتها يوما ما، وعشقي للقراءة، توسم بي خيرا، وشجعني ان ادخل من الباب الحقيقي للصحافة، وهو باب الصدق والموضوعية والحقيقة، وبدأ يتلو لي بنصائح كانت قلادة تأبطها جيدي طوال مدة اشتغالي بالصحافة، ولم تفارق سمعي وبصري، فقد امتلئ فيها ضميري وخاطري وذمتي، كان ذلك عام 1984 حين بدأت ابحث عن مثوى كريم لأحلامي في صاحبة الجلالة.
قال لي حينها: عندما تكتبين انظري بعين الناس؟ وفكري بعقولهم؟ وتلمسي خطواتهم كي تصل أوردة حروفك إليهم مثل مسرى شرايين الدم في الجسد؟ وقولي لهم ما تتمنين ان يقال لك؟ واكتبي نبض قلوبهم؟ وشيدي جسر من الذهب حتى لو كان مخلوطا بالمرارة والوجع، كي يتمكنوا من الرجوع إليه، هذه هي رسالة الصحافة الإنسانية، اما غير ذلك فهو من فوضى الحياة، لا رسالة تحملها أكتاف البشر لتوصلها لبشر مثلهم، أحفري لنفسك تاريخا محترما من الإبداع، غايته الناس، وهدفه تحقيق أحلامهم ولو بالكلمات المتفائلة واحرصي على تحكيم العقل؟ واحترمي القارئ واحترمي المهنة، وقبلهما احترمي نفسك، لأنك لا تستطيعين فرض الاحترام بالصحافة، إلا من خلال احترام النفس، وتلك هي صبغة الحياة التي تصبغها الصحافة على عاشقيها ومحبيها وحاملي رسالتها بقناعة ودون وجل، فان من يحترم نفسه ومن ثم مهنته سيجيد العطاء بصدق، بالرغم من متاعبها، وما ألذ مهنة البحث عن المتاعب.
رهفت الحروف والكلمات بين أصابعه وهي تنبأ عن لظى يعتمل في صدره وغاية تلتف حول أمسياته التي شغلها بالانجاز والعطاء، لا يرتد إليه قلمه، إذ تغفو الحروف والأحلام مطمئنة لأنفاسه وهو يحبسها بين طيات طليلسانه، مستجيرا بلوعة دواته، وغرام محبرة أبت إلا ان تنبئنا عما يجول بخاطره من أمنيات، وينتشل أوراقه من بياضها، ويغرس كلماته الماسية في رحمها، يغدوا كل صباح مغزلا للحقيقة وللصدق فوق مرايا وجوه القراء حين ينافس فطورهم وهم الجياع في مجمرة الحروف، تلك أسلاك شائكة تضيق بأردية بقاءهم تحت خط الوجع وجادة الحرمان، امسك أوردته وشرايينه، وقاد خلايا روحه لتستقر في دياجير ليل الدواة والمحبرة، عاش بين الدواة والمحبرة، أسأله كيف استطاع ان يعانق الحبر لنصف قرن دون ان يذوب عصاب قلبه؟ ولأنه يكتب حروف من لحم ودم، فقد أجابني دون ان يمضغ ريقه، وبنفس عميق: أحيانا اكتب أحلامي وانثرها بوجه الشمس من باب التحدي، اعرف ان الشمس تحرق من يقترب منها لكن شمس حروفي ما زالت تتلألأ في سماء الصحافة حتى حين يصفعها الوقت والسياسة، وحين تتجه نحو قلب الناس لتستقر في مكانها الحقيقي، تعقد العزم على التواصل، وهو يواصل: كانت أصابعنا لا تغمض عيونها، إلا تعرفين ان لأصابع الصحفي الحقيقي عيون، بياضها يصرخ وبؤبؤها يتحدى، وتتألم مثلما تتحرك وتشير وترفع بوجه الظلم، لكن أناملي لم تغمض يوما، غاصت في رحم الحروف، وتوجست خيفة من أنين الفقراء والمساكين، وانبتت ورود وقداحا مرة، وحجر ورماد مرات، لذا فان كل شغلنا في الصحافة يمسك بالتاريخ من أطرافه ويهزه كأنه شال صبية حالمة تلوكه الريح في عنوة منها دون ان تلتفت.
ثمة رجل قادم من أقصى أناقة الصحافة، دوَن بحبره ودواته أيام المحنة، لأنه ابن المحنة مثل الصحافة العراقية منذ ولدت، فهي ابنة المحنة والوجع، تصاهر بأفكاره مع الجميع حين غرس أنين الناس في نبض الشوارع وهو يحاكي الفواجع والقحط، الوجع، الأسلاك الشائكة، وأكياس الرمل، وعوارض الكونكريت، وغياب الخبز وقحط الفرص، الدخان، الرصاص، قتل العقول، صناعة الجهل، الحروب، أم كلثوم، وفيروز، وحيدة خليل، داخل حسن، جبار عكار وزهور حسين، فاطمة الربيعي وأمينة الرحال ونزيهة الدليمي، عبد المجيد لطفي وعبد الملك ألنوري، فيصل حسون، وزيد الحلي، حسن العاني، عكاب سالم الطاهر وسلام خياط وصادق الازدي، اليوسفان العاني والصائغ، بولينا حسون، الرصافي، الزهاوي، عبد الزهرة الكعبي، احمد الوائلي، أسماء وحرائق، مقاه ومدن، قمم ودم، العبوات الضالة، الأصدقاء الوشاة، السياسيون، والرياضيون، القتلة والرهبان، الأقلام المغتصبة وغربته، فلسطين والقتل والفقر، أرضه التي زرعها بمداد جوده ياسمينا ونرجسا، أضواء، ظلمة، مصابيح وفوانيس، قناديل وأجراس، كنائس وجوامع، حدائق وأطيار، طين وإسفلت، وحين تتحفز وتنطق أوردة الوقت، يشعر بالحنين الى دواته ومحبرته، بل يشعر إنها تناديه حتى حين دخل عقده الثامن أحالته، الى عالم راوده عن إبداعه فلم يدرك تحديه ولم يغرس راهنه لواقع يحتويه، عشقه للصحافة، يلتصق بوجيب قلبه، يشعر ان مئذنة روحه تتفجر دعاء، حين تتقدم خطاه خارج الحبر والدواة، فكيف بها وقد جرته خارج الوطن، بعد ان استباح الغرباء وطنه معا، كيف السبيل عندها لمحو أوردته من إدمان أصابعه وروحه حروف الأمل والصدق، أمل روحه وصدق نفسه.
هو ينتمي لعراقيته، فعراقيته هي من يحرك أصابعه ليفتح طلسم دواته وحبره لتمده بالعافية ويستمر بالحلم، لأنه من امة علمت الإنسانية الحرف الأول؟ وعلمت الناس كيف يكتبون؟ وكيف يعشقون؟ وكيف يرسمون حروف الأمل على أروقة الممرات حين يوشمون حيطانهم بكتابة أحلامهم قبل ان ينطقون ويعملون ويسهرون ويحلمون، يرقصون بأهازيج لا تجدها إلا في أفواههم، هو ذو عميد الصحفيين العراقيين سجاد الغازي، من أعمدة الصحافة العراقية المعروفة، ومن روادها ومبدعيها، الذين عاصروا مختلف العهود في تاريخ العراق الحديث، وكانت لهم بصمات واضحة في مسيرة الصحافة العراقية على مدى أكثر من نصف قرن، ويكتنف حنجرتي غصة السؤال، هل أدار ظهره لدواته ومحبرته واتجه نحو الغربة؟ هل استراحت أصابعه أم تعطلت هناك؟ اعرف حين يغتصب الوطن لا تستريح الروح، فكيف بسجاد الغازي وروحه في دواته ومحبرته.
وطأت أقدام سجاد الغازي السجاد الأحمر والأزرق والأصفر والبرتقالي، مرت خطواته على كل تلك الألوان لكن قلمه بقي ذا لون واحد وهو الأبيض ففي البياض نرى كل شئ على حقيقته كما يردد الغازي، كما بقيت أوراقه تتغطى بالسواد من مختلف الأحبار، لكنه يعشق قلم الرصاص، اسأله لماذا: يبتسم ويجيبني وهو يهز برأسه ويشبك أصابعه العشرة: لأنه لا يعاندني، هو مطيع لي لا يخذلني أبدا حين يبدأ صراخ الكتابة في روحي، أشاكسه، لكنه يبقى يمارس عملية العدو والركض أمام أصابعي، كأنه طفلي الذي لا يكبر، هذا لا يعني ان (قلم الحبر) او (قلم الجاف) يشاكسني لكن اشعر بمتعة الكتابة حين امسك قلم الرصاص، لربما هو أول قلم امسكه، او أول حرف كتبته كان بقلم رصاص، او لأنه كريم وبخيل بالوقت نفسه لأنني في قلب الكتابة يتوقف نبضه ويجعلني استعين بمبراة للحاق بفكرتي، لكن في كل حال اعشق القلم كيفما يكون شكله او خطه او دواته، المهم يحقق لي نزعتي في الاستمرار بالكتابة والتواصل والعطاء، رغم ان التكنولوجيا زحفت على قيمة ومكانة ودور الأقلام والأوراق في الكتابة، وأصبح الناس يتعاطونها عبر قنوات الكترونية، ففقدنا نعمة ومتعة الكتابة والتصاهر مع القلم والأوراق، ويا لها من نعمة ومتعة لا تشبهها سوى متعة قراءة كتاب.
وما زاد من افتخاري بمعلمي الأول الغازي فأنني أينما حللت، وجدت الصحفيين العرب الكبار يسألون عنه، ويمطروني بالأسئلة عن صحته ووضعه، وأين هو الآن، ويثنون على دماثة خلقه، ونعومة تعامله مع الجميع بنفس القدر، حينما كان أمينا عاما لاتحاد الصحفيين العرب، وأول سفري الى القاهرة عام 2004 وجدتني أتوسل ذهني كي يلملم معي بعض معلومات عن معلمي خاصة وإننا لم نلتق منذ سنة، سأل عنه كبار الصحفيين المصريين بشغف حينما زرت نقابة الصحفيين المصريين حينذاك، مثلما سأل عنه الصحفيون الأردنيون حين كنت أقيم في عمان عام 1996، ومثلهم السوريون، واللبنانيون، على مدى أعوام النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وكلما أمطرني احد بأسئلته ألوذ بذاكرتي، لأفتش عن إجابة تليق بتلك القامة الكبيرة التي غذتنا بعلمها ومهنيتها وإنسانيتها، وشكلت مدرسة راسخة المبادئ وعلمتنا الدرس الأول في الصحافة.
كان لقائي المطول الثاني بعميد الصحفيين الغازي، حينما بدأت بكتابة أطروحة الدكتوراه عام 2003 كانت عيناه مغرورقتان بفعل الحرب والاحتلال، بكى بغداد مثل أم ثكلى مثل كل عراقي فجع بوطنه يغتصب أمامه، لكن أسئلتي العلمية التي احتاج الإجابة عنها إحالتنا بالحديث الى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وجدته قد مد لي يد العون حين زرته في بيت الحكمة التي كان مدير تحرير مجلة الحكمة، وكانت يده الكريمة قد امتدت لفكرة البحث العلمي الذي كتبته عن الاختلال الإخباري بين وكالات الأنباء العربية والدولية، حينها كان عائدا للتو من أعمال منتدى الإعلام العربي في دبي الذي عقد للمدة من 7/10 لغاية 12/10/2003 وقد زودني بكل الأوراق النقاشية التي تناولها الحاضرون، ونشرتها ضمن الأطروحة، كما حدثني كيف ركز المنتدى على قضية التباين في تدفق الأخبار، في تغطية أخبار الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان من نفس العام.
وقال: اتفق الجميع -وهم شخصيات إعلامية عالمية وعربية مشهورة- على ان هناك تباين في رؤية الإعلاميين العرب ونظرائهم الغربيين، وحتى بين الغربيين أنفسهم بشأن مدى حيادية تغطية كل من وكالات الأنباء العربية ووكالات الأنباء الدولية، وبخاصة بشأن القضايا الرئيسية التي تشهدها المنطقة العربية، إذ حرص إعلاميون غربيون على التأكيد أن الموضوعية هي المحور الأساسي الذي تعتمد عليه وكالات الأنباء الدولية في تغطيتها للأحداث داخل منطقة الوطن العربي وخارجها، فقد شكك إعلاميون غربيون وعرب بحيادية وكالات الأنباء الدولية، مشيرين في هذا المجال إلى أسلوب تعاطي هذه الوكالات مع قضية احتلال العراق، وفي المقابل تعرضت وكالات الأنباء العربية لانتقادات تراوحت بين “الافتقاد للموضوعية” و”ممارسة التضليل الإعلامي” و”اللعب على وتر المشاعر الشعبية” كما وصفها سجاد الغازي حينها وتم تثبيتها في نصوص مناقشات المنتدى وتوصياته، كما فسر لي كيفية إدارة الإعلام في الأزمات، وتحدث عن اللجنة الدولية التي سميت حينها بلجنة مكبرايد هذه اللجنة الدولية التي كان فيها عضو فعال، إذ جرت محاولات عديدة للحد من ظاهرة الهيمنة الفاضحة لهذه الوكالات على الأخبار، الأمر الذي فتح المجال لانطلاق ما عرف لاحقاً بـ(اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الإعلام) والتي كلف بترؤسها الأيرلندي شون مكبرايد أحد وزراء الخارجية السابقين في ايرلندا، وهو سياسي وصحفي، وأحد مؤسسي منظمة العفو الدولية وحائز على جائزتي لينين ونوبل للسلام، والذي أصبح اسمه مرادفاً لأسم هذه اللجنة (لجنة مكبرايد)، وضمت ـإضافة إليه ـ نخبة من الخبراء والمتخصصين في مجالات الاتصال والإعلام من دول عديدة في العالم، وتركز عمل تلك اللجنة على مسألتين أساسيتين: الأولى ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 والذي أكد أن (لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا حرية اعتناق الآراء دون تدخل واستقصاء المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها من خلال أية وسائل وبغض النظر عن الحدود) والثانية قرار الأمم المتحدة المرقم (59) الصادر عام 1964 الذي أكد أن حرية الإعلام حق إنساني أساسي والمحك لجميع الحريات التي تكرس الأمم المتحدة نفسها له وتطلب امتيازاتها من دون إساءة استعمال وتتطلب كنظام أساسي الالتزام والسعي لخلق الحقائق من دون تحامل ونشر المعرفة من دون نوايا خبيثة.
يزيد الغازي سجاد: ربما تكون هذه المعادلة متلازمة في الإعلام، ولاسيما الإعلام الذي ينبني على طرفين غير متكافئين، فالاختلال والتدفق الإخباريان يأتيان من مصدر متمكن ومتلقٍ غير متمكن، ولا يوجد من ينكر حقيقة وجود اختلال في تدفق الأخبار دولياً، لأن هذه الحقيقة ماثلة للعيان بوصفها راسخة أمام الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية التي تواجه هذا الاختلال. وتمثل مشكلة الاختلال الإخباري في مستوياته المتعددة إحدى مشكلات الاتصال الأساسية، وتعد أحد مخرجات التفاوت في القدرات السياسية والاقتصادية والاتصالية عموما، وقد كان للوزير الفلبيني لوساذ، فضل السبق في طرح موضوع الاختلال الإخباري ضمن تقرير قدمه أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، كما اخبرني سجاد الغازي، وقد أشار في ذلك التقرير إلى وجود مناطق جغرافية محظوظة إعلامياً ومناطق أخرى أكثر أتساعاً تشكو النقص والعجز، كما ألح على انعدام العدل والأنصاف في ما يخص توزيع ذبذبات البث الإذاعي أو الطيف الكهرومغناطيسي، واستنتج من ذلك كله أن حرية الإعلام لا معنى لها في حالة انعدام التكافؤ من حيث الوسائل بين مختلف البلدان والمناطق الجغرافية، وتؤكد لجنة مكبرايد التي يكون سجاد الغازي احد أعضاؤها الفاعلين، بأن الاختلال في توزيع الأخبار ظاهرة معقدة ومتشعبة، فقد يكون الاختلال في الكم، وقد يكون في الكيف وقد يحدث على مستويات مختلفة ويتخذ أشكالاً معينة.
يتواصل معي بالمعلومات وينمي قلقي الذي شعر به في تناول موضوعة الاختلال وكرر على مسامعي وانا أنصت إليه: ميزة الصحفي الحقيقي كاتبا وباحثا، القلق المشروع تجاه ما يكتب للناس من خلال وهج الكتابة، ولذائد خصوصياتها ومواجعها، قال لي ذلك وهو الذي ما زال يرى في القلم والورقة وشيجة محبة وقرطاس حياة، من خلال ذاكرة حاضرة ومتوهجة، وما أصعب صراخ القلم والورقة حين يلتقط الصحفي كلماته مثل طير يلتقط الحب، هو الذي ذاق نعيم الصحافة، ونقمتها في آن معا، كان متمكنا من الحديث في شتى صنوف الصحافة، وكان هادئاً، متواضعاً، ذا هيبة ووقار كلما التقيته، ترجم لي ذاكرته المخزونة بالمعلومات والأحداث التي توقف عندها التاريخ او التي عبرت دون ان يلتفت إليها احد، وهو المحب للقلم والمحبرة ويفسر خلاصة كل ما كتب عنه ومشاهداته، وهو المدعوم بخبرة عقود في الصحافة بجلوها وما أكثره، وبمرها وما أحلاه، وبسعيرها الذي اكتوى به.
حين فتحت خزانة ذاكرته الملغومة بالوقائع والأحداث والأسماء والأحلام والأمنيات التي تحققت وتلك التي مرت بمرارة، كانت بغداد حاضرة في كل كلمة، والعراق في كل حرف، التقيته لأستشيره بفكرة أطروحة الدكتوراه عن الاختلال الإخباري وجدته يوسد فضولي الصحفي بتاريخ من اليقظة والحلم والتمني، وجدت سنوات عمله تتدحرج أمام عيوني، وغافلتني أصابعي بل واستغفلتني أوراقي وهي تدون ذاكرة الزمن الماضي الذي يكون فيه الغازي شاهد عصر الصحافة بحضوره وشروقه وتألقه، واقرأ معه ذاك التاريخ الحافل بالعطاء والترقب والسفر والصحبة والأوسمة والشارات تكريما ووفاء، يتلو على مسامعي سنوات أغبطه عليها وأتحسر لأنها سنوات الصحافة العراقية الحقيقية والصادقة بالعطاء، لم يهادن ولم يجامل ولم يتردد، بل وقف متحديا كل العواصف التي اجتاحت ساحة البلد، ورسخ مبادئ صحفية عجزت عن ترسيخها عروش وأمم.
أقرأ معه التاريخ لا لاستعرض فقط، بل لاستلهام الدرس والعبرة والتعلم من قامة لم تفقد بريقها حتى وهي تقترب من إكمال سنوات القرن، عاشت التاريخ الذي يقول ان سجاد الغازي، اعد عام 1944 جريدة جدارية بعنوان(اليقظة الفكرية) كانت تكتب باليد بالتعاون مع عدد من زملائه في متوسطة الاعظمية، وكان يخط عناوينها زميلهم رمزي إسماعيل الذي أصبح خطاطا مشهورا فيما بعد، وعندما عمل في جريدة اليقظة عام 1950 نقل نفس العنوان للصفحة الأدبية فيها، كما كتب عام 1945 في الجريدة الجدارية لإعدادية الاعظمية، وكان يرسل بعض ما يكتبه الى عدد من المجلات المصرية والعراقية، ومنها مجلة السينما والمسرح في بغداد(1947-1948) ومجلة الاستديو في القاهرة (1949) وجريدة الاتحاد وجريدة النبراس في بغداد (1948) وفي عام 1948 كانت بداية عمله الصحفي في الكتابة لجريدة لواء الاستقلال المعارضة (لسان حزب الاستقلال) ولكن خلال هذه الفترة ساهم في العمل في صحف الحزب الأخرى (اليقظة) الجريدة المسائية للحزب ويؤمن في بغداد أسبوعيا طبع جريدة (صوت الفرات) لسان فرع الحزب في بابل ويراسل جريدة (الناس) لسان فرع الحزب في البصرة، وبعد صدور مراسم إلغاء الصحف وحل الأحزاب عام 1954 عمل في صحف (الحرية) و(اليقظة) و(الأخبار)، وقد ساهم بالقاهرة بإصدار مجلة (الصناعي العربي)1983-1987 التي أسسها الصحفي المخضرم فيصل حسون ورئيس تحريرها عبد الكريم العلوجي، وكذلك ملحقها الرياضي (إستاد العرب) 1988-1996 مثلما فتح مكتبا في القاهرة لمجلة الصحفي العربي ومطبوعات اتحاد الصحفيين العرب 1987-1990، كما تولى سكرتارية وإدارة تحرير العديد من الصحف (جرائد ومجلات) نذكر منها الجمهورية والجماهير والنصر وصوت العرب والمواطن والبناء الحضاري وغيرها، وآخر موقع صحفي له قبل تفرغه لاتحاد الصحفيين العرب في عام 1978 كان نائب رئيس تحرير الجمهورية، حيث أحيل على التقاعد بقرار من مجلس قيادة الثورة ضمن الحملة على الصحفيين التي شملت العشرات لحرمانهم من مزاولة الصحافة وإبعادهم الى وظائف غير صحفية.
والمعروف عن سجاد الغزي انه كان يتولى تصميم وإخراج جميع الصحف والصفحات والمجلات التي يصدرها او يتولى إدارتها او الإشراف عليها، ولا يزال يمارس هواية الإشراف على الإخراج، ومن أشهر الأعمدة التي كتبها في الخمسينات والستينات:0في الصميم) و(من يوم الى يوم) و(خواطر عابر سبيل) و(ترانيم السحر) و(حديث الشاطئ) و(يوم جديد) و(منك واليك) في مجلة الحكمة، كما مارس هوايته للفن من خلال إصدار الصفحات الفنية الأسبوعية الى جانب عمله اليومي المعتاد في الصحف السياسية التي كان يعمل فيها كالحرية واليقظة والأخبار والجمهورية ولواء العروبة والثورة العربية…الخ والتي وثقت الحركة الفنية من 1954-1974.
يعده الفنان الناقد والمؤرخ التشكيلي شاكر حسن ال ياسين في كتابه المرجعي عن (تاريخ الحركة التشكيلية في العراق) ممن واكب جماعة الرواد منذ أول ظهورها عام 1950، واعد وقدم عام 1963 أطول برنامج إذاعي (صوت الفن) الذي استمر اكثر من 14 سنة متواصلة وهو البرنامج الذي يسلط الضوء على الفنان العراقي وكذلك الحركة الفنية في الوطن العربي، كما كتب الغازي بعض التمثيليات الإذاعية وسيناريو بعض الأفلام التوثيقية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، وحين كان مديرا للإعلام والنشر في وزارة الإصلاح الزراعي اشرف على إصدار مطبوعاتها من نشرات ووسائل إيضاح وكراريس وكتب برنامجها الإذاعي وإعداد وتقديم برنامج تلفزيوني أيضا وذلك عام 1962، كما قدم العديد من التعليقات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية السياسية والفنية والثقافية على مدى حوالي العشرين عاما من1962 وحتى نهاية السبعينيات, وكان أبرزها مجلة الهواء الأسبوعية الناطقة الذي استمر زهاء 14 عاما من 1962-1976 و(من قطر الى قطر) 1965-1966 و(تحقيقات إذاعية) 1977- 1979، وبعد استقالته من وزارة الإصلاح الزراعي عينته وزارة الإرشاد (الإعلام) مراقبا للبرامج الإذاعية (1964) واشرف على أقسام المنوعات والإنصات والتنظيم وأسس قسم الإنتاج الإذاعي, فضلا عن مساهمته في لجان الفحص والاختبار والانتقاء حتى استقالته وعودته الى عمله الصحفي سكرتيرا لتحرير جريدة الجمهورية، فضلا عن برامج سياسية وثقافية وفنية أخرى قام بإعدادها وتقديمها وإخراج بعضها، وهو أول من دعا لتأسيس اتحاد الفنانين العرب وفي عام 1965 تبنت مجلة (الكواكب) المصرية الدعوة من خلال حقل (رجل الشارع يقول) الذي كان يكتبه المرحوم صبري أبو المجد.
انتخب عام 1960م عضوا في مجلس نقابة الصحفيين العراقيين في تشكيلة ائتلافية بعد تأسيسها بعام واستمر انتخابه في كل مجلس لمدة 16 عاما لحين تفرغه لاتحاد الصحفيين العرب عام 1976م، وانتخب خلال هذه الفترة مرتين نائبا للنقيب 1967-1969، كما اختير أمينا للسر مرتين أخرها 1972، وتولى عضوية مجلس إدارة المؤسسة العامة للصحافة عند تأسيسها عام 1967، كما شارك في مشروع القانون العربي الموحد للصحافة الذي أعده اتحاد الصحفيين العرب، وهو الخبير الإعلامي الالكسو، والأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب منذ 1976، فضلا عن اختياره منذ عام1999 لعضوية اللجنة الدائمة للحريات في اتحاد الصحفيين العرب بعد إعادة تشكيلها من شخصية عامة في كل دولة عربية،
ويعد السيد سجاد الغازي من مؤسسي اتحاد الصحفيين العرب, إذ قدم مشروع تأسيس الاتحاد الى النقابة العراقية عام 1961م والتي دعت بدورها النقابات العربية القائمة آنذاك للالتقاء لتحقيق المشروع, وشارك في المباحثات التي جرت بشأنه عند قدوم سكرتير عام النقابة المصرية لبحث المشروع الذي تحقق عام 1964، وهو من مؤسسي اللجنة الدائمة للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية في الوطن العربي عام 1979م وانتخب أمينا عاما مساعدا لها في 1988، كما انتخب لسنوات عديدة في السبعينات عضوا في الهيئة الإدارية لجمعية حقوق الإنسان في العراق.
شارك في عضوية اللجنة التي تشكلت في الالكسو عام 1984، وكانت تجتمع سنويا للإشراف على إصدار الموسوعة الصحفية العربية، والتي وضعت البرنامج التنفيذي لمراحل تحقيق الموسوعة التي تولتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الالكسو) وصدر منها ستة أجزاء أخرها عام 1999، وهو عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في الجامعة العربية من 1980-1996م، اشرف على تنظيم معارض الكاريكاتير والفونغراف التي أقامها الاتحاد في الوطن العربي وأوربا طيلة ثلاثة عقود لدعم القضايا العربية، وزاد عدد هذه المعارض على الثلاثين، كما شارك بالمناقشة وتقديم البحوث لإيضاح ودعم قضايانا في عشرات المؤتمرات والندوات العربية والدولية السياسية والمهنية .
ساهم في مساعي تأسيس وجولات المركز العربي للدراسات الإعلامية عام 1974، وشارك في دوراته وعضويته وكذلك دورات الإعلام التنموي برعاية اليونسكو وصندوق الأنشطة السكانية في الأمم المتحدة، وساهم في الندوات والدورات التي إقامتها إدارة الشباب والرياضة في جامعة الدول العربية بالتعاون مع الاتحاد العربي للألعاب الرياضية والرابطة العربية للصحافة الرياضية، فضلا عن مشاركته في ندوات ودورات مدرسة التضامن التي أقامتها نقابة الصحفيين العراقيين بالتعاون مع منظمة الصحفيين العالمية في بغداد لتدريب صحفيي الدول النامية، وساهم في إعداد كوادر المكاتب الإعلامية التي انشاتها الدولة العراقية في وزاراتها ودوائرها ومؤسساتها بإقامة الدورات المتخصصة في الإعلام القانوني والإعلام التربوي والإعلام الصحي والإعلام النفطي والإعلام العلمي.
وقد أغنى الغازي المكتبة العربية بمؤلفات عديدة، إذ صدر له عام 1995 في بغداد (الصحافة العربية تشريعا وتنظيما وتقنية) و(مراحل تطور الصحافة العراقية) عام 1968في القاهرة، وصدر عام 1973 في بغداد(نقابة الصحفيين في القطر العراقي (كتاب وثائقي) و(اتحاد الصحفيين العرب، تأسيسه, مؤتمراته، قراراته (بالاشتراك مع الدكتور صابر فلحوط), صدرت طبعته الأولى عام 1982 في بيروت وأعيد طبعه في الكويت وصدرت طبعته الثانية عام 1998 في القاهرة، و(لا للحرب, نعم للسلام)(بالعربية والانكليزية) عام 1986 في جنيف، و(ضحايا الحقيقة) عام 1987في براغ (إعداد الفصل الخاص بالوطن العربي بتكليف من الاجتماع الاستشاري السادس للمنظمات الصحفية الدولية والإقليمية برعاية اليونسكو)، و(الصحفيون والتكنولوجيا الحديثة) عام 1988في براغ, (إعداد الفصل الخاص بالوطن العربي بتكليف من الاجتماع الاستشاري السابع للمنظمات الصحفية والدولية والإقليمية برعاية اليونسكو)، و(حقوق ومسؤوليات الصحفيين) عام 1989 في براغ (إعداد الفصل الخاص بالوطن العربي بتكليف من الاجتماع الاستشاري الثامن للمنظمات الصحفية الدولية والإقليمية برعاية اليونسكو)، و(ناجي العلي وفن الكاريكاتير قضية وموقف) عام 1989 في القاهرة في الذكرى الثانية لاستشهاده، و(موسوعة الصحافة العربية) المشاركة في الجزء السادس الخاص بالرواد) صدر في تونس عام 1999، و(حرية الرأي والصحافة في الوطن العربي) عام 1980 في بغداد، و(التوازن في تدفق الأنباء) عام 1980 في بغداد، و(التعاون الإعلامي مع أفريقيا) عام 1981 في تونس، و(المراسل الحربي في الصحافة العربية والضمانات الدولية) عام 1981 في بغداد، و(ملامح مشتركة في التعاون العربي الأفريقي) عام 1984 في القاهرة.
منح الغازي عدة أوسمة لنشاطه الصحفي من اغلب دول العالم أبرزها وسام الشرف الصحفي العالمي (يوليوس فوجيك) في احتفال منظمة الصحفيين العالمية ببراغ عام 1986 بالذكرى الأربعين لتأسيسها، كما منح وسام الصحافة العربية، ووسام الر واد المبدعين، ومنح شارة اتحاد الصحفيين الألمان عام 1970، في الاحتفال باليوبيل الفضي للصحافة الألمانية في برلين، ومنح درع اتحاد الصحفيين الجيكوسلوفاكيين عام 1975 في براغ بمناسبة اليوبيل الفضي للاتحاد، ومنح شارة الاتحاد العربي للألعاب الرياضية عام 1977 في الرياض، فضلا عن عدة أوسمة وشارات من دول عديدة لدوره الكبير والمتميز في الصحافة.
يكتب محبيه: لقد وقف الرجل الصحفي البارز سجاد الغازي معارضاً منذ اليوم الأول لغزو الأمريكان للعراق، ولم يعطي كلمة واحدة عهدا ًمنه على ان لا يقول او يصرح في ظل الاحتلال، وكان يردد (تأبى عروبتي وعراقيتي ان انجر الى المصيدة التي وقع فيها الكثيرون)
تحية إجلال وتبجيل ووقار لشيخنا الجليل صاحب المحبرة التي لم تجف حتى في زمن الجفاف والعوز والحرمان والسياسة، التي أكلت خاصرة الوطن، وللدواة التي زرعت خطوط المطر على جبين الزمن، وغلفت خواطرنا بالتحدي.