جميل أن يتحرق أبناء بغداد لرؤيتها متألقة في سماء الحضارة والتمدن والجمال كما عهدوها … وجميل أن يتربصوا أي فرصة تتيح لهم أن يأخذوا بيدها لكي تنهض من سباتها الطويل نافضة عن حلتها غبار الزمن القاسي … وجميل أن يفرشوا لها الأرض ورودا وأزاهير وهي عائدة تختال بين أروقة التاريخ الذي دان لها رغما وطوعا … وجميل أن أهلها لم يغب عن أذهانهم أن حاضرتهم قد كانت قبضة القوة التي حكمت العالم وعروسه التي خطفت العيون والقلوب سحرا ورقّة ودلالا وأتحفت العقول لأنها معقل العلم والعطاء والإبداع على وجه المعمورة … جميل وجميل وجميل كل هذا الشوق والوفاء والأمل ولكن …..
المقدمة التي سقتها لاأراها إلا إنسجاما مع تفاصيل الرسالة التي أزجاها الأستاذ حسن العلوي الى محافظ بغداد الجديد وهو يشبهه بمن سبقوه ممن تولوا أمر هذه المدينة فأعطوها كل مالديهم لكي تكون كما أرادوا لها من المكانة والمقام والجمال كمدحت باشا والملك فيصل وغيرهم من الذين تعاملوا معها كما ذكر الأستاذ بما يشكل إمتدادا لما سمعوا أو قرأوا عنها في محاضر التاريخ الذي فاض بمناقبها وألوانها وعطرها وقيمها وصورها التي لايمكن أن تغيب عن مخيلة وضمير الدنيا بأسرها في يوم من الأيام ، إلاّ أنني أقول له ربما قد عرفت شيئا ياأستاذ وغابت عنك أشياء كثيرة وهذا مادفعني الى توضيح ماخفي عليك وعلى الكثيرين لكي لاتطلب من الرجل ما لايملك ولاتحمّله من الأمر ما لا يطيق …
ولكي أشرك القاريء الكريم في حقيقة الأمر فلابد أن أنقل إليه بعضا مما قاله الأستاذ حسن العلوي الى المحافظ الجديد في رسالته وهو يوصيه ببغداد ظنا منه أن الأخ المحافظ قادر على فعل ما أراد منه
((اقول لك وانت في غمرة النشوة ان اعادة بغداد الى سنواتها القريبة ليست
بالمعجزة وانت سليل تيار تقوده ارادة وطنية تتمنى ان تستعيد بغداد
كبرياءها وقد اذلت حتى صح فيها قولنا انها ارملة ابي جعفر المنصور بعد
اهمال كان شديدا عليها حتى اوشك الناس ان يظنوا السوء فيعتقدوا ان ما
يصيب عاصمة الرشيد هو شيء قريب من النكاية والانتقام من مؤسسها وحفيده
صاحب العصر الذهبي وهي ظنة لا ارى قائلها الا محبا لمجد بغداد او طاعنا
باهل الدولة القائمين عليها منذ 2003 وانت من تتعلق عليه المصاديق بأن
تعيد الشباب الى هذه الارملة الشريفة العفيفة التي جاستها خيول الغرباء
فلم تترك حوافرها بصمة غير بصمتها العريقة.
خذ أيها التميمي من مدحت باشا مثالا لك وقد جاء الى بغداد في عام 1869
بعد ان اذلها الباب العالي وجعلها مكبا لنفايات الاداريين واللصوص الذين
ضاقت بهم اسطنبول فدفعت بهم ولاة الى بغداد وكانوا شركاء اللصوص فلم يجد
مدحت باشا مبنى للولاية فبنى مبنى ولم يعرف البغداديون اسم الجريدة فأصدر
جريدة الزوراء في مثل هذا الشهر من ذلك العام وجلب مطبعة واسس كلية
عسكرية وشرع نظاما اداريا مازال مؤخوذا به فاشاد مدينة من تحت الصفر في
ثلاث سنوات. وخربت بغداد بعده فجاء الملك فيصل الأول واعاد بغداد مدينة
يزهو بها البغداديون والعراقيون والعرب فهل ادركت خطورة موقعك وانت في
موقع مدحت باشا وموقع المؤسسين الاوائل للدولة العراقية الذين بدأوا
ببغداد اولا، ان الناس تنتظر عودة الزوارق الى دجلة بعد انقطاع نصف قرن
وتنتظر اسهارهم على شواطئها الآمنة وكانت مضيئة قبل ان يولد الكهرباء بما
وفر لها من مصابيح، كانت بغداد قبل خمسين عاما مركزا للتأليف والنشر
ومدينة تقرأ ما تفيض عليها به مطابع القاهرة وبيروت وانت تعلم من الذي
اودى بها الى هذا المآل ))…
عجيب أمرك ياأستاذ حسن وأنت تطلب من المحافظ أن يكون كمدحت باشا او الملك فيصل الأول بما كان لهما من سلطة مطلقة وقدرة على التصرف وكأنما قد جُمعت بيد المحافظ كل أسباب التغيير وتوفرت له كل مقومات الإنجاز من صلاحيات وموارد وسلطة ممسكة بزمام الأمور كما كان لأولئك ، وفي الحقيقة أن الرجل لايملك من مساحة القرار ضمن الحدود البلدية لمدينة بغداد مايتيح له النهوض بواقعها الخدمي والعمراني بالشكل الذي يعتقده الكثيرون ولايملك من التصرف في أطرافها إلا بإعتباره جهة ساندة لعمل مديريات وزارة البلديات والأشغال العامة فليس له كجهة إدارة على مستوى الموارد والصلاحيات والمسؤوليات مايجعله قادرا على تحقيق ماأردت ، فهلاّ إطلعت على حقيقة الأمر قبل أن تحلّق في أجواء الأماني وتقذف بالرجل من إرتفاعاتك الشاهقة الى حظيظ الأرض على جذور رقبته ، كيف هذا وأنت نائب في البرلمان إذ يفترض أن تكون مطلعا على طبيعة النظم والصلاحيات لمختلف جهات الإدارة لأنك جزء من أدوات الرقابة على الأداء العام ولابد لك لكي تراقب وتحاسب أن تكون عارفا بطبيعة التكاليف وحدود المهام ونصوص القوانين ،
ولأجل البيان أردت أن أسلط الضوء على مايلي :
يجب أن يكون معلوما للجميع أن بغداد مقسمة إداريا الى قسمين فقسمها الأول مركز مدينة بغداد وقسمها الثاني أقضية أطراف بغداد فأما مركز مدينة بغداد فتعنى بشأنه خدميا وعمرانيا وبشكل مطلق أمانة بغداد ببلدياتها العشر تحديدا وهي كل من ( بلدية مركز الرصافة ، بلدية مركز الكرخ ، بلدية الأعظمية ، بلدية الكاظمية ، بلدية مدينة الصدر الأولى ، بلدية مدينة الصدر الثانية ، بلدية المنصور ، بلدية الرشيد ، بلدية 9 نيسان ، بلدية الكرادة ) .
كما يرتبط بأمانة بغداد قسم المقابر وقسم الطمر الصحي أيضا ، علما أن كل بلدية من البلديات المذكورة آنفا تتولى تنفيذ الخدمات وإعمار وتجميل المناطق التابعة لها ومنح الإجازات ورخص البناء وإستعمالات الأرض والتشييد ورصد المخالفات البلدية ومحاسبة المخالفين وتحصيل الإيرادات وصيانة الطرق والمباني وشبكات الماء والمجاري ومعالجة التخسفات وتشغيل محطات الضخ وإقامة المتنزهات وإدامتها وتطويرها كما أن أمانة بغداد مسؤولة عن تصميم مدينة بغداد وتطويرها عبر دائرة التصاميم التي تشكل قسما من أقسامها كما أنها مسؤولة عن تزيين المدينة بالنشرات الضوئية بما تراه منسجما مع تجميل مرافق المدينة وساحاتها ومتنزهاتها وطرقها وشواطئها ناهيك عن مسؤولية الأمانة من خلال بلدياتها عن نظافة المدينة ورفع النفايات منها ومعالجتها ، ومن الجدير بالذكر أن قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 581 لسنة 1981 الذي لايزال نافذا قد نص على تمليك أمانة العاصمة في حينه والتي سميت أمانة بغداد بعد ذلك الأراضي والبساتين الواقعة ضمن حدود الأمانة التي تقرر لها إستعمالات غير زراعية بموجب التصميم الأساسي لمدينة بغداد مشتملا كل الأراضي غير الزراعية الخالية غير المشيدة والتي تزيد مساحة كل منها على الدونمين وكذلك الأراضي الزراعية والبساتين كما سمح هذا القرار لأمانة بغداد طلب إطفاء حق التصرف في الأراضي المذكورة سلفا وإستملاك الأراضي والبساتين المملوكة ملكا صرفا أو الموقوفة وقفا صحيحا وفق قانون الإستملاك رقم 21 لسنة 1981 ومنع الى أن يتم إطفاء حق التصرف أوالإستملاك إجراء أي تصرفات قانونية أو تشييد الأبنية عليها أو إستغلالها بأي شكل من الأشكال إلاّ بموافقة أمانة العاصمة ، كما لم يجوّز هذا القرار طلب إطفاء الحقوق التصرفية أو الإستملاك للأراضي المشمولة بأحكامه من قبل الجهات الأخرى إلاّ بعد موافقة أمانة العاصمة فضلا عن أن هذا القرار كان قد نص على تمليك الأراضي المملوكة للدولة والتي لاتتعلق بها حقوق تصرفية للغير الى أمانة بغداد بدون بدل كما أنه عندما إستثنى من أحكام هذا القرار الأراضي والبساتين التي تعتبر من المحرمات العسكرية والأثرية حسب قرار وزارة الدفاع والمؤسسة العامة للآثار والتراث والأراضي العائدة للقطاع العام إشترط أن لا يتعارض ذلك مع التصميم الأساس لمدينة بغداد فأطلق يد الأمانة في هذه الشؤون موافقة أو رفضا ، كما أن لأمين بغداد ترتيب حق المساطحة على العقارات المملوكة للأمانة ، وقد خول قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 64 لسنة 1990 أمانة بغداد والذي لايزال ساري المفعول حتى يومنا هذا إفراز قطع الأراضي وتخصيصها للإستعمال الصناعي بمختلف أصنافه وقد أجازها تأجير القطع المفرزة بموجب هذا القرار دون مزايدة ببدل إيجار منا وغير ذلك من الصلاحيات التي لاتعد ولاتحصى ومن الأملاك والتوابع وماينتج عنها من الإيرادات والمدخلات حيث لاتقل العقارات المملوكة للامانة عن 17 ألف عقار بإستعمالاتها المختلفة ناهيك عن الرسوم والغرامات وإيرادات المصالح والإستثمارات وغيرها ، وفي نهاية المطاف فإن أمين بغداد يعد حسب قانون أمانة بغداد رقم 16 لسنة 1995 المعدل النافذ الرئيس الأعلى للأمانة يتولى توجيه دوائرها والتنسيق بينها والتخطيط لنشاطها والذي تصدر بإسمه القرارات والبيانات والأوامر ، ولاضير بعد كل هذا أن تكون لهذه المؤسسة الخدمية الكبرى ولرئيسها كل تلك الصلاحيات والمسؤوليات على أن تكون تابعة للحكومة المحلية بإعتبار أن ماتنهض به من المهام ليس إلاّ شأنا محليا يوجب مرجعيتها إداريا وإشرافيا ورقابيا الى الحكومة المحلية بشقيها التنفيذي متمثلا بالمحافظة والتشريعي والرقابي متمثلا بمجلس المحافظة الذي تمتد مظلة رقابته وإشرافه على جميع المساحات التنفيذية سواء على مستوى المحافظة أوعلى مستوى الأمانة إلاّ أن مرجعية أمانة بغداد إداريا وتمويليا الى محافظة بغداد هو الذي يحقق وحدة الإدارة لشؤون هذه المدينة بشكل عام وهو الذي يتيح لمحافظها أن يظهر بصماته على واقعها وهي قد كانت كذلك سابقا قبل أن يقرر النظام السابق إلحاقها بمجلس الوزراء لأسباب سياسية وجعل أمينها بدرجة وزير حيث جرت الحكومات اللاحقة بعد سقوط النظام على هذا المنوال منتزعة تبعية الأمانة من الحكومة المحلية على ضوء التوجه المركزي للحكومات الإتحادية المتعاقبة مما حدى بمجلس محافظة بغداد للمطالبة منذ تأسيسة عام 2005 برفع يد الحكومة المركزية عن هذا المرفق والتخلي عن تبعيته لها دون مبرر منطقي ليتسنى للحكومة المحلية أن تمسك بزمام الشأن المحلي بشكل حقيقي فهي المعنية به جملة وتفصيلا وعلى عاتقها تقع تبعة النجاح أو الفشل في كل مايتعلق بشأن بغداد وأهلها الذين ذهبوا الى صناديق الإقتراع لإنتخاب حكومتهم المحلية على أساس تفويضها للنهوض بمسؤولية خدمتهم وخدمة مدينتهم فهم الذين منحوها هذه السلطة بإعتبار أن الشعب مصدر السلطات كما نص على ذلك الدستور ، وبهذا فقد تبين أن لاسلطة للمحافظ على القسم الأول من بغداد لامن قريب ولامن بعيد اللهم إلاّ بعض التنسيق بين الأمانة والمحافظة في صغائر الأمور ، أما القسم الثاني فهو أطراف بغداد متمثلة بأقضيتها الستة ( المحمودية ، المدائن ، الطارمية ، أبوغريب ، التاجي ، الإستقلال ) بما تشتمل عليه من نواحي فإن كل مافيها من البلديات ومديريات الماء والمجاري تابعة لوزارة البلديات والأشغال العامة بما تمتلكه من الآليات والملاكات والميزانيات المخصصة من الميزانية العامة للدولة لتنفيذ الخدمات ، فالوزارة هي صاحبة الأمر والإشراف المباشر وهي جهة التوجيه لهذه الموارد والملاكات ولاتعتبر المحافظة إلاّ جهة ساندة لعمل مديريات وزارة البلديات من خلال ماتمتلكه من الآليات ومايرصد لها من المبالغ المالية المحدودة ضمن الميزانية العامة فالمحافظة وإن كانت أغلب صلاحياتها ونشاطاتها تتركز في أطراف بغداد إلاّ أنها تعد مصدرا ثانويا من مصادر الدعم المادي واللوجستي ليس إلاّ ولاتملك المحافظة أزاء بلديات الأقضية أي سلطة لتوجيه جهدها الميداني او تحريك مواردها بما تطمح تنفيذه من خطط الخدمات والإعمار فليس لها غير التنسيق مع هذه الدوائر ومراقبة عملها وإبداء ملاحظاتها الى الوزارة التي يرجع إليها كل ما يتعلق بالخدمات وحركة الموارد والمشاريع ، كما لاتمتلك المحافظة إلاّ مساحات قليلة من الأراضي في مناطق الأطراف وإنما ترجع أغلب المساحات والأراضي الى الوزارات التي تقاسمت هذه الأملاك والتي إمتنعت على طول الخط تحويل ملكيتها للمحافظة من أجل تنفيذ المشاريع مما حال دون تنفيذ العديد منها في تلك الأقضية .
أفبعد هذا كله ياأستاذ حسن العلوي تطلب من المحافظ الجديد أن يفعل في بغداد مافعله الآخرون ممن تولوا أمرها وهو لايملك أي سلطة رئاسية على الدوائر ورؤسائها وإمكانتها وملاكاتها وميزانياتها لاعلى مستوى مركز مدينة بغداد ولا على مستوى أطرافها قياسا بمن إستشهدت بهم من الماضين ممن كانوا يملكون أسباب الولاية بشكل حقيقي ، فكيف تريد منه أن يكون في موقع مدحت باشا وموقع المؤسسين الأوائل للدولة الذين بدأوا ببغداد أولا كما ذكرت دون أن يوفرالمعنيين بالأمر بعضا من المقدمات السليمة من قبيل النظم والسياقات الإدارية التي تأخذ دور المحافظ بعين الإعتبار أو التشريعات والقوانين التي من شأنها أن تفتح المسالك للحكومة المحلية لتمضي على طريق النهوض بمهمتها بإقتدار لكي نتوخى بعد ذلك سلامة الأداء وجميل النتائج ، رغم أني أستغرب تزاحم القوى السياسية وتدافعها للإستحواذ على هذا المنصب في بغداد تحديدا وهو مكبّل بكل هذه القيود التي تجعل منه فخاً للمتهافتين عليه لأن الغالبية من الجمهور تعتقد خطأً بأن في يد المحافظ كل مقاليد الأمور وعندما لاترى لفعله أثرا فإنها تنحى عليه باللائمة وتنهال عليه بالنقد حتى تخرجه من دائرة رضاها ولن يكون له أو لحزبه بعد إنتهاء الدورة الإنتخابية غير الخسران ، كما أني استغرب غفلة هذه القوى أو تغافلها عن مراجعة الأسس التنظيمية على مستوى السياقات الإدارية المتبعة والقوانين المعتمدة ومستلزمات الإختصاص المطلوبة لجعلها وسيلة فاعلة في ميادين الإنجاز بمعالجة ماإعتلَّ من تلك الأنظمة والقوانين وصولا الى توفير المقومات الفاعلة لجهات الإدارة لكي تقوم بما من شأنه تحقيق تطلعات الجمهور وإنجاز مايعمل على النهوض بالواقع ، كما أنحي باللائمة على الحكومات المحلية المتعاقبة في بغداد لفرط تباطؤها في إستحصال حقوقها من الصلاحيات بما يوفر لها مساحة أوسع ودورا أكثر فاعلية في ميادين الخدمة فقد يشكل هذا التباطؤ كل هذا الوقت مؤشرا لتدني إدراكها بما يجب عليها من توفير أسباب نجاحها في مهمتها الصعبة فهي الملامة في نهاية المطاف وليس سواها .
وفي الختام أقول لأستاذنا حسن العلوي رغم تفهمي لكل ماإكتنف جوانحه من المشاعر السامية تجاه مدينته المهضومة رفقا بالمحافظ فقد حملته من الأمر ما لايملك أو يطيق وهل آمنت بأن والي بغداد بلا ولاية أم أنك تعلم ما لانعلم ……
[email protected]