بيَّن الصِّدِّيق رضي الله عنه من خلال وصاياه ورسائله حقوق الجند، كاستعراضهم، وتفقُّد أحوالهم، والرِّفق بهم في السَّير، وأن يقيم عليهم العرفاء، والنُّقباء، واختيار مواضع نزولهم لمحاربة العدوِّ، وإِعداد ما يحتاج إِليه الجند من زادٍ، وعلوفةٍ، والتَّعرُّف على أخبار العدو بالجواسيس الثِّقات لسلامة الجند، وتحريضهم على الجهاد، وتذكيرهم بثواب الله، وفضل الشَّهادة، ومشاورة ذوي الرَّأي منهم، وأن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوقٍ، وأن ينهاهم عن الاشتغال عن الجهاد بتجارةٍ، وزراعةٍ، ونحوهما، وإِليك تفصيل بعض هذه النُّقاط:
(أ) استعراضهم، وتفقُّد أحوالهم:
فقد رأينا أبا بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ عندما طرق المرتدُّون المدينة المنوَّرة أخذ أهلها بحضور المسجد، وقال لهم: إِنَّ الأرض كافرةٌ، وقد رأى وفدُهم منكم قلَّةً، وإِنَّكم لا تدرون أليا تؤتون أم نهاراً، وأدناهم منكم على بريدٍ، وأخذ ـ رضي الله عنه ـ يعرض أصحابه ثمَّ يعيِّن منهم على أنقاب المدينة نفراً للحراسة، وعندما اجتمع جيش فتوح الشَّام؛ صعد أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ على دابَّته حتَّى أشرف على الجيش فنظر إِليهم، وقد ملوا الأرض، فتهلَّل وجهه، وأخذ يعرضهم قبل سيرهم، ويوصيهم، ويدعو لهم، وعقد لهم الألوية، ومشى معهم نحواً من ميلين.
(ب) الرِّفق بالجند في السَّير:
فقد أوصى أبو بكرٍ خالد بن الوليد في حروب الردَّة بالرِّفق بمن معه، وأن يتَّخذ الأدلاء في مسيره، وأوصى سائر أمراء الردَّة بذلك، وفي فتوح العراق عندما عقد خالد بن الوليد معاهدة الصُّلح مع أهل أُلَّيس، وغيرهم، كان من ضمن شروط المعاهدة أن يبرقوا المسلمين، ويكونوا أدلاء، وأعواناً لهم على الفرس؛ لأنَّهم أعرف، وأعلم بطرق بلادهم من غيرهم، وحين كلَّف أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ خالد بن الوليد بالتوجُّه من العراق إِلى الشَّام مدداً وعوناً لهم، دعا خالد الأدلاء، وتشاور معهم حول سيرهم في طريق المفازة إِلى الشَّام، لأنَّه أسرع الطُّرق، وأسرعها لنجدة إِخوانه، ثمَّ رافقه منهم رافع بن عميرة الطَّائيُّ دليلاً، وأوصى الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يزيد بن أبي سفيان عندما وجَّهه إِلى الشَّام بقوله: إِذا سرت؛ فلا تضيِّق على نفسك، ولا على أصحابك في مسيرك .
وعندما جدَّ الجند في السَّير ذكَّر أحدهم يزيد بوصية أبي بكرٍ له بالرِّفق بهم في السَّير، وأن يلتزم بها. كما أوصى الصِّدِّيق عمرو بن العاص عندما وجَّهه إِلى فلسطين بقوله له: وكن والداً لمن معك، وارفق بهم في السَّير فإِنَّ فيهم أهل ضعفٍ، وقد امتثل قادة الصِّدِّيق لأمره بالرِّفق بالجند في مسيرهم، وأصبحوا لا يسيرون إِلى قتال الأعداء إِلا ومعهم أدلاء يدلُّونهم على أسهل الطُّرق، وأوفرها ماءً، وعشباً، وحتى يتمكنوا من مواصلة سيرهم نحو العدو من غير إِهدارٍ لقوَّتهم، أو تحطيمٍ لمعنوياتهم.
(ت) أن يجعل لكلِّ طائفةٍ شعاراً يتداعون به:
ففي بعثـه جيش أسـامة لقتـال الرُّوم كان شعـارهم: يا منصـور أمت! وفي حـروب الردَّة عند مسير خالد بن الوليـد نحو مسيلمـة الكذاب باليمـامة كان شعـارهم يومئذٍ: يا محمداه! يا محمداه! وشعار تنوخ في فتوح العراق: يا ال عباد الله! وفي فتوح الشَّام باليرموك نجد أنَّ لكلِّ قائدٍ وقبيلةٍ شعاراً مميَّزاً يميِّزها عن غيرها اتَّخذته؛ ليستدلَّ به عليها، وكانوا يجهرون به عند القتال ويتعارفون به، فكان شعار أبي عبيدة: أمت، أمت. وشعار خالد بن الوليد ومن معه: يا حزب الله! وشعار قبيلة عبس: يا لعبس! وشعار اليمن من أخلاط النَّاس: يا أنصار الله! وشعار حمير: الفتح. وشعار دارم، والسَّكاسك: الصَّبر، الصَّبر! وشعار بني مراد: يا نصر الله انزل! فهذه كانت أبرز الشِّعارات في معركة اليرموك .
(ث) أن يصفحهم عند مسيرهم:
ومن وصايا أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ لقوَّاده حين بعث بهم في حروب الردَّة: وأن يمنع أصحابه العجلة، والفساد، وألا يدخل فيهم حشواً حتَّى يعرفهم، ويعلم ما هم لئلاَّ يكونوا عيوناً، ولفئلا يؤتى المسلمون من قبلهم. كما أمر قادته بعدم الاستعانة بالمرتدِّين في جهاد العدوِّ، وذلك احتراساً، وحرصاً على سلامة جند المسلمين، كذلك أوصى الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ قادة فتوح الشَّام بالحذر، والحيطة، والتيقُّظ من رسل العدوِّ حتَّى لا يتعرَّفوا على ما بجيشهم من ثغرات، ومكامن ضعف، وأمرهم بأن لا يخالطوا العسكر، ولا يحدِّثوهم، فمن ذلك قوله ليزيد بن أبي سفيان: وإِذا قدمت عليك رسل عدوك؛ فأكرم منزلتهم، فإِنَّه أوَّل خبرك إِليهم، وأقلل حبسهم حتَّى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك، وامنع مَنْ قِبَلك من محادثتهم، وكن أنت الذي تلي كلامهم، ولا تجعل سرَّك مع عانيتك، فيمرج عملك.
(جـ) حراستهم من غرَّةٍ يظفر بها العدوُّ في مقامهم، ومسيرهم:
وظهر ذلك عندما وضع الصِّدِّيق الحرس على أنقاب المدينة؛ خشية أن تطرقها بعض القبائل المرتدَّة، وحين وجَّه رضي الله عنه خالد بن الوليد إِلى حرب أهل الردَّة حذَّره من البيات، والغرَّة، وقال له: واحترس من البيات، فإِنَّ في العرب غرةً، كما أوصى أمراء وقادة فتوح الشَّام بالاحتراس، ونشر الحرس على العسكر لحفظهم من الأعداء، وأن يقوموا بالتَّفتيش المفاجئ على الحرس حتَّى يتأكَّدوا من قيامهم بمهامهم المعدِّين لها، فمن ذلك ما قاله ليزيد بن أبي سفيان: وأكثر حرسك، وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك.
وقال لعمرو بن العاص: واؤمر أصحابك بالحرس، ولتكن أنت بعد ذلك مطَّلعاً عليهم، وأطل الجلوس باللَّيل على أصحابك، وأقم بينهم، واجلس معهم. وحذا قادة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ حذوه في اتِّخاذ الحرس على العسكر في مقامهم، وسيرهم.
(ح) إِعداد ما يحتاج إِليه العسكر من زادٍ، وعلوفة:
فقد كان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يشتري الإِبل والخيل والسِّلاح، فيجعلها في سبيل الله، إِلى جانب ما يكسبه، ويغنمه العسكر من العدوِّ، وحينما كلَّف الصِّدِّيق خالد بن الوليد بمحاربة المرتدِّين، كان ممَّا أوصاه به إِذا دخل على أرض العدو أن لا يسير إِليهم إِلا وهو مستظهر بالزَّاد، وكان قادة الصِّدِّيق أثناء مصالحتهم للعدوِّ يشترطون عليهم أن يضيِّفوا من مرَّ بهم من المسلمين، بما يحلُّ من طعامهم، وشرابهم، وقد سمح أبو بكر لجند الشَّام أثناء ما أوصاهم بأنَّهم إِذا عقروا شاةً، أو بعيراً للعدوِّ لا يعقرونها إلا للأكل.
(خ) ترتيب الجند في مصافِّ الحرب:
استعمل قادة الصِّدِّيق في معاركهم الحربيَّة نظام الصَّفِّ والصُّفوف، تزيد، وتنقص، بحسب ما يقتديه الموقف ويراه القائد في ميدان القتال، إِلا أنَّ خالد ابن الوليد في معركة اليرموك أدخل نظام الفراديس في أعينهم، وذلك لأنَّ نظام الفراديس عبارةٌ عن مجموعةٍ من الجند تقف في صفوفٍ لا تكون منفصلةً عن الأخرى، بينها مسافات متباعدة ممَّا يسهِّل ذلك عليها عملية الحركة وزيادة الانتشار، فمن قول خالدٍ للجند لاستخدامه لنظام الفراديس: إِنَّ عدوَّكم قد كثر، وطغى، وليس من التعبئة تعبئة أكثر في رأي العين من الفراديس، فجعل القلب كرادي وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كرادي، وعليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كرادي، وعليها يزيد بن أبي سفيان، وهكذا خرج في ستةٍ وثلاثين كردوساً إِلى الأربعين، وخرج في تعبئةٍ لم تعبِّئها العرب قبل ذلك، ووزَّع المهامَّ الإِداريَّة بين القيادة، إِلا أنَّ نظام الصَّف ظلَّ قائماً ومعمولاً به في النِّظام الحربي الإِسلاميِّ بعد اليرموك.
(د) تحريضهم على القتال:
كان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يُحَرِّضُ المجاهدين على القتال، ويقوِّي نفوسهم بما يشعرهم من الظَّفر، ويذكر لهم أسباب النَّصر؛ ليقلَّ العدوُّ في أعينهم فيكونوا عليه أجرأ، وبالجرأة يسهل الظَّفر، فقد حرَّض، وحضَّ أبو بكر خالد بن الوليد على القتال بقوله: احرص على الموت؛ توهب لك الحياة. وعندما عقد الألوية لجيوش الشَّام أخذ يحرِّضهم، ويحضضهم على الجهاد في سبيل الله، ويوصيهم، ويدعو لهم بالنَّصر على الأعداء.
(ذ) أن يذكِّرهم بثواب الله، وفضل الشَّهادة:
فممَّا قاله أبو بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ في تلك الجيوش المتوجِّهة إِلى الشَّام قوله: ألا وإِنَّ في كتاب الله من الثَّواب على الجهاد في سبيل الله، لما ينبغي للمسلم أن يحبَّ أن يخصَّ به، هي التِّجارة الَّتي دلَّ عليها، ونجَّى بها من الخزي، وألحق بها الكرامة في الدُّنيا، والآخرة.
(ر) أن يشاور ذوي الرأي منهم:
وهذا ما فعله الصِّدِّيق في حروب الردَّة، وفتوحات الشَّام، وكثيرٍ من القضايا الفقهيَّة، والمستجدَّات الَّتي تحدث في المجتمع المسلم، وقد طلب من القادة أن يتناصوا، ويتشاوروا. وقد كان الصِّدِّيق قدوةً في ذلك، ففي حروب الردَّة دعا عمرو بن العاص، وقال له: يا عمرو! إِنَّك ذو رأيٍ في قريشٍ، وقد تنبَّأ طليحة، فما ترى؟ واستشاره، ثمَّ سأله عن خالد بن الوليد عند اختياره لقيادة الجند، فأجابه: يسوس للحرب، يصبر للموت، له أناة القطاة، ووثوب الأسد، فعقد له، وسار خالد بن الوليد لما كُلِّف به، وأخذ يستشير من معه لإِعداد الخطَّة لمحاربة المرتدِّين ويخبر القيادة العليا بما استقرَّ عليه رأي الجند، وحين أراد أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أن يغزو الروم، ويعدَّ الجيوش لفتح بلاد الشَّام، شاور في ذلك جماعةً من أصحاب رسول الله، وبعد أن أخذ رأيهم، وما أجمعوا عليه، أمر الجند بالتَّجهيز للتوجُّه لما أمروا به، وكان ممَّا أوصى به الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ أمراء وقادة جند الشَّام بأن يعملوا بالمشورة، فمن ذلك ما قاله ليزيد بن أبي سفيان: هذا ربيعة بن عامر من ذوي العلاء، والمفاخر، قد علمت صولته، وقد ضمَمْتُه إِليك، وأمَّرْتُكَ عليه، فاجعله في مقدِّمتك، وشاوره في أمرك، ولا تخالفه، قال يزيد: حبّاً وكرامةً، وأضاف أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ قائلاً: إِذا سرت؛ فلا تضيِّق على نفسك، ولا على أصحابك في مسيرك، ولا تغضب على قومك ولا على أصحابك وشاورهم في الأمر، واستعمل العدل، كما قال ليزيد: وإِذا استشرت فاصدق الخبر تصدقْ لك المشورة، ولا تكتم المستشار، فتؤتى من قِبَل نفسِك.
إِلى غير ذلك ممَّا قاله ليزيد بن أبي سفيان حول مبدأ الشُّورى، والالتزام بها، وقد أوصى أمراء جند الشَّام بما لا يخرج عن ذلك، وامتثل قادة الصِّدِّيق بما أُمِروا به من إِجراء المشورة فيما بينهم، فقد قال أبو عبيدة بن الجرَّاح لعمرو بن العاص: يا عمرو! لربَّ يومٍ لك قد شهدته، فبورك فيه للمسلمين برأيك، ومحضرك، وإِنما أنا رجلٌ منكم، ولست ـ وإِن كنت الوالي عليكم ـ بقاطع أمراً دونكم، فأحضرني رأيك في كلِّ يومٍ بما ترى، فإِنَّه ليس بي عنك غِنى.
هذا بالإِضافة إِلى طلب القادة في أرض المعركة من القيادة العليا المركزية المشورة فيما أشكل عليهم من أمور الإِدارة العسكريَّة، لمرحلة وضع الخطط الحربيَّة، والتَّنفيذ، ومعاملة الأسرى.
(ز) أن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق:
فقد كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يوصي قادته بذلك، فحين بعث عمرو بن العاص إِلى أرض فلسطين؛ قال له: اتَّق الله في سرِّك، ولعانيتك، واستحيه في خلواتك، فإِنَّه يراك في عملك، وقد رأيت تقديمي لك على من هو أقدم منك سابقةً، وأقدم حرمةً، فكن من عمَّال الآخرة، وأرد بعملك وجه الله، وكن والداً لمن معك، والصَّلاةَ، ثمَّ الصَّلاةَ؛ أذِّن بها إِذا دخل وقتها، ولا تصلِّ صلاةً إِلا بأذان يسمعه أهل العسكر، واتَّق الله إِذا لقيت العدوَّ، وألزم أصحابك قراءة القران، وانههم عن ذكر الجاهليَّة وما كان منها، فإِن ذلك يورث العداوة بينهم، وأعرض عن زهرة الدُّنيا حتَّى تلتقي بمن مضى من سلفك، وكن من الأئمَّة الممدودين في القران؛ إِذ يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ *} [الأنبياء: 73].
مراجع البحث:
علي محمد محمد الصلابي ،الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424هـ 2003، ص (405:398)
أبو جعفر الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك،دار الفكر بيروت، الطَّبعة الأولى 1407هـ 1987م. (4/71، 72)
لأبو الحسن بن علي المسعودي، مروج الذَّهب، ومعادن الجواهر ، دار المعرفة، بيروت 1403هـ 1982م. (3/309).
محمَّد بن عمر الواقدي، فتوح الشَّام، ، دار ابن خلدون. (1/23)