رغم الأضرار والدمار الذي ألحقه نظام صدام بالعراق على الصعيد المادي والذي تم تناوله بالكشف من قبل الكثيرين….إلا ان الدمار الذي لحق بالشخصية والنفسية العراقية على مدى ثلاثة عقود لم يأخذ حقه بالكشف والدراسة والتمحيص….ونحن نرى ان هذه الدراسات من ذوي الاختصاص ضرورية إذا ما أريد النهوض بالبلد بحركة تنموية بدءا بالطفل والأسرة والمدرسة……….
يقر الأستاذ مصطفى حجازي بكتابه (نفسية الإنسان المقهور ) ان الإنسان تحت ظل الدكتاتورية يتعرض الى الضغط والتسلط والاضطهاد…الرئيس يضغط على الوزير ، الوزير على المدير ، المدير على الموظف وصولا للإنسان البسيط الذي ربما لا يجد غير زوجته وأطفاله ليصب عليهم جام غضبه… سلسلة من القهر والاضطهاد والخداع والنفاق والكذب والتملق تمتد بمفاصل المجتمع وتصل حتى الى العلاقات والروابط الاجتماعية فيولد الشك بين الرجل وزوجته والحبيب وحبيبته والأب وأولاده…كل شيء مزور ومخيف ومرعب ،يعم مهرجان الكذب مفاصل الحياة فيصير كل شيء مشوهه.
قدمت زوجة المطرب صباح السهل تسجيلا صوتيا لحديث دار بينهما بغرفة النوم يثبت إساءته لعدي صدام… تم إعدامه على اثرها ، كان العراقيين لا يتحدثون بحضور أطفالهم بسوء عن نظام صدام خوفا من نقل الحديث الى المدرسة ، قام احد العراقيين في مدينة الصويرة بقتل ابنه لرفضه الذهاب الى الجيش أثناء الحرب العراقية الإيرانية …..
ان هذا الضغط المادي والنفسي على الإنسان ولفترة طويلة يحدث خللا بتوازنه الوجودي ويولد بداخله توترا نفسيا هائلا يتجاوز طاقة احتماله ، هذا الضغط يفقد الإنسان ثقته بنفسه وبالآخرين والكل يخضع لهذه المعادلة بغض النظر عن موقعه الاجتماعي مديرا عاملا…..
ولكن المرء يحتاج الى الاعتداد بذاته ، يحتاج الى الارتياح الأساسي الذي يرافق تحقيق الذات ، ولذلك عليه التفريغ والتخلص من هذا الضغط وهنا تسلك الناس عدة مسالك لإعادة التوازن النفسي….البعض ينكفئ على نفسه مبتعدا عن المتسلط ورموزه ويمشي جنب الحائط ، والبعض ينشد الأمان بالذوبان بالجماعة والعشيرة …كثير من السلوكيات الدفاعية مارسها العراقيون بشكل أو بأخر…ولكن أكثر ما شاع بين العراقيين كوسيلة دفاعية هو محاولة تقليد الطاغية تقليد صدام….
هنا يحاول الإنسان المقهور التهرب من ذاته والتنكر لها من خلال تقليد الطاغية بملبسه ، بحركاته ، طريقة حديثة….هنا يحاول ان يهرب من عالمه ليذوب بعالم الدكتاتور….العملية هنا أعمق من التقليد إنها عملية تماهي بالمتسلط….عملية التماهي تبدو واضحة عند الطلبة المعجبين بأستاذهم الذي يقلدون حركاته ومشيته…
هكذا شاعت سلوكيات ولهجة ومفردات صدام وحاشيته في المجتمع…طريقة وقوف شرطي المرور ، الضابط ومسكه للعصا ، طريقة جلوس الموظف وتعامله الفظ مع الموطنين……
لم يفلت من هذا التقليد حتى المعارضين ،إنهم يتماهون ويقلدون الطاغية الذي يلعنوه…من هنا تأتي الرمزية العالية لسكنهم قصور صدام بعد السقوط ،سياراتهم الفارهة ،بذخ أولادهم …حتى طرق تفكيرهم وحلولهم للمشاكل ونظرتهم للمختلفين معهم وحديثهم لا يتعدى كونه استمرار لسلوكيات الطاغية.
لماذا لم تختفي هذه السلوكيات بزوال نظام صدام ؟ باختصار لان الذين جاءوا بعده لم يقدموا نموذج أخلاقي مختلف يقتدي به الناس ، للتخلص من سلوكيات معينة يتطلب الأمر تعميم سلوكيات جديدة….الأمام الحسين وغاندي وجيفارا وغيرهم قدموا نموذجا سلوكيا جديدا يحتذى به ….وهذا ما فشلت به الطبقة الحاكمة منذ 2003 التي ظلت تجتر سلوكيات النظام السابق وتعالج مستجدات الأمور بأدوات قديمة كمن يريد انجاز حسابات فلكية بعد الأصابع.
اليوم….سلوك الشباب بساحة التحرير هو إعادة تشكيل وعي عراقي جديد ، نبذ الطائفية ،و الإصرار على رفع العلم العراقي فقط ، حملات التنظيف ، ابو التك تك الى جانب طالبة جامعية مشرقة….هذه السلوكيات وغيرها ستغير وجه العراق ، سلوكيات مصحوبه بروح تمرد على سلطة الاب وابن العم والعشيرة والدين والطبقة السياسية…مع رغبة عارمة للتخلص من الدونية واعادة الثقة بالنفس من خلال الذوبان والاندماج مع جموع الشباب بساحات التظاهر التي توفر الدفئ والاحساس بانك في مكانك الصحيح….
الكل يحاول اللحاق بهذه المظاهرات ،الكل يحلم ويحاول ان يكون قائدا لها…ولكنها مشت مسافة بعيدة وسبقت الكل…سيرفض المتظاهرون أي قيادة ، هي تقود نفسها وستفرز قيادتها من الشباب بوعي وطني مختلف تماما عن وعي الكتل التي افرزها النظام السابق…..قالت صحيفة واشنطن بوست في 10/12 ….
المتظاهرون العراقيون لم يغيروا نظام الحكم بعد ، لكنهم غيروا الإنسان العراقي وزرعوا الثقة بنفسه وجعلوه مؤمنا بقدرته.