ترجِعُ جذورُ الأطماعِ البريطانيةِ في الخليجِ العربي، وفي العراقِ بصورةٍ خاصة، إلى القَرنِ السابع عَشَر الميلادي. وهذه الأطماعُ بقِيتْ حبيسةُ الوضعِ القائم ، إلى أنْ جاءَ أوانُ تحقيقِها أبانَ ما عُرفَ بالحربِ العالميةِ الأولى ، في سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وأربعةِ عَشَر للميلاد ، حيثُ كانتْ الإمبراطوريةُ العجوزُ أي الدولةُ العثمانيةُ في اضعفِ حالاتِها.
زَحَفتْ القواتُ البريطانيةُ الغازية ، صوبَ العراقِ مستغلةً أجواءَ الحربِ العالمية ، وضَعفَ الدولةِ العثمانيةِ التي كانتْ إحدى دولِ المحورِ في تلك الحرب ، فدَقّتْ الدولةُ العثمانيةُ ناقوسَ الخطر ، وأعلنَتْ على لسانِ شيخِ الإسلامِخيري أفندي في اليومِ السابعِ من تشرينٍ الثاني سنةَ ألفٍ وتسعمئةٍ وأربعةَ عَشَر للميلادِ أعلنَتْ الجهادَ ضدَ القواتِ الغازية . ورُغمَ إنَّ الدولةَ العثمانيةِ حَكَمتْ الكثيرَ من البلادِ العربيةِ والإسلاميةِ ومنها العراق لقرونٍ طويلة ، ولم تُقدمْ لأهالي هذه المناطقِ إلا البؤسَ والفَقرَ والحرمان ، ورُغمَ السياسةُ الطائفيةُ المقيتةُ التي كانتْ تمارسُها ضدَ الشيعةِ في العراقِ وفي باقي المناطقِ العربية ، إلّا أنَّ ذلكَ لم يمنعْ علماءُ الحوزةِ العلميةِ في النجفِ الأشرفِ والكاظميةِ وكربلاءِ وسامراء ، مِنْ إعلانِ الحربِ على بريطانيا الغازية ، والاستجابةِ لنداءِ الجهاد ، ووقوفهِم جنباً إلى جنبْ مع الجيشِ العثماني ، الذي طالما كانتْ أسلحتَهُ تُشهر في وجوهِهم.
كانَ للحوزةِ العلميةِ برجالاتِها وتوجيهاتِها ، الدورَ الأساسي في مقاومةِ الغزوِ البريطاني ، فرُغمَ ضعفِ الإمكانيات ، وتخاذلِ الجيشِ العثماني ، وانتحارِ قائدِهِ الذي قادَ في النهايةِ إلى هزيمةِ المقاومة ، برَزَتْ أسماءٌ علمائيةٌ كثيرةٌ كانَ لها الدورَ الفاعلَ في التحشيدِ والمشاركةِ الفعلية ، كالسيد محمد سعيد الحبوبي ، والسيد مهدي الحيدري ، والشيخ مهدي الخالصي ، وشيخِ الشريعة الاصفهاني وآخرين .
بعدَ كرٍ وفَر ، وقعَ العراقُ تحتَ الاحتلالِ البريطاني في الحادي عَشر من آذار سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعةَ عَشَرَ للميلاد ، حيثُ دخلَتْ القواتُ الغازيةُ مدينةَ بغداد ، وأُكملَ لاحقاً احتلالُ ما تَبَقّى من المدنِ العراقية. أعلَنَ الجنرالُ مود قائدُ الجيوشِ البريطانيةِ في كلماتِهِ الشهيرة، أسبابَ دخولِ البريطانيين إلى العراق، مع كمٍ هائلٍ من الوعود، صارَ كما سنعِرفْ لاحقاً عَدَمُ تنفيذِ أيٍ منْها سبباً رئيسياً من أسبابِ الثورة.
في التاسعِ عَشَر من آذار سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانيةِ عَشَر للميلاد، وفي مدينةِ النجفِ الأشرفِ بالذات ، قادَ رجالاتُ الحوزةِ العلميةِ الصفحةَ الثانيةَ من صَفَحاتِ مقاومتِهم للغزاة ، وأولَ ثورةٍ فعليةٍ بعدَ الاحتلال ، وكانَ على رأسِ هؤلاءِ الرجالات ، الشيخ عبد الكريم الجزائري،والشيخ محمد جواد الجزائري، والسيد محمد علي بحر العلوم ، والشيخ محمد علي الدمشقي ، والسيد إبراهيم البهبهاني ، والشيخ عباس الخليلي الذين أسسوا ما عُرفَ بجمعيةِ النهضةِ الإسلامية، قُبَيلَ احتلالِ بغداد، والتي كانَتْ-أي الجمعية- المُخطط والمُنفذ لتلكَ الثورة ، والمؤسس الأول لفكرِ مقاومةِ المحتل.
بعدَ انتهاءِ ثورةِ النجف ، والتي كانَ من الممكنْ أنْ تقودَ إلى نتائجٍ أكبرْ لولا استعجال الجناحِ العسكري في الإعلانِ عن الثورة ، وبعدَ انتهائِها بدخولِ القواتِ البريطانيةِ المدينة ، والقبضُ على ابرزِ رجالاتِ الثورةِ وإعدامٌ أحدَ عَشَرَ عضواً من أعضاءِ الجناحِ العسكري، ونفي أكثرَ من مئةِ شخص. ظنَ البريطانيون إنَّ الضربةَ التي وجهوها للنجفِ مُتذرعينَ بالثورة، ستكونُ كفيلةٌ بالقضاءِ على أيِ تفكيرٍ بالمقاومةِ ولكنهم كانوا واهمينَ جداً.
بدايات الثورة:
حُزمةٌ من الوعودِ، قطعَتْها الحكومةُ البريطانيةُ على نفسِها في مناسباتٍ متعددةٍ، بخصوصِ نواياها تِجاهَ العراق.فمما جاءَ في كلمةِ الجنرالِ مود، قائدِ الجيوشِ البريطانيةِ التي دخلتْ بغداد “إنَّ جيوشَنا لم تدخلْ مدنَكم وأراضيكم بمنزلةِ قاهرينَ أو أعداء، بلْ بمنزلةِ محررين”.
ومما جاءَ في البلاغِ الانكليزي الفرنسي في السابعِ من تشرينٍ الثاني سنةَ ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانيةَ عَشَر للميلاد ، إنَّ الغايةَ التي ترمي إليها كلٌ من فرنسا وبريطانيا العظمى في خوضِ غمارِ الحربِ في الشرقِ من جَرّاءِ أطماعٍ ألمانية ، هي تحريرُ الشعوبِ التي طالما رَزَحتْ تحتَ أعباءِ استعبادِ الأتراكِ تحريراً تاماً نهائياً ، وتأسيسُ حكوماتٍ وإداراتٍ وطنيةٍ تسْتَمدُ سلطتَها من رغبةِ نفسِ السكانِ الوطنيينَ ومحضِ اختيارِهم.
ومما جاءَ أيضاً في كلمةِ الحاكمِ الملكي العامِ في العراقِ السّيْر آرنولد ويلسن عندَ زيارتِهِ للبصرةِ في كانونٍ الثاني من عامِ ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعةَ عَشَر للميلاد ، بعدَ تذكيرِ الحاضرينَ بكلامِ الجنرال مود عندَ دخولِ بغداد “وها أنا ذا أقفُ بينكم اليومَ لأقولَ لكم ، بعدَ أنْ أؤيدَ ما قالَهُ من سبقني من كبارِ الرجالِ : لقدْ آنَ أوانُ الوفاءِ بالوعد “
بدأ يَتَكشفُ تدريجياً للعراقيينَ وغيرِهِم من العربِ كِذْبُ هذهِ الوعود ، خاصةً بعدَ أنْ أعلَنَ البلاشفةُ بعدَ استيلائِهم على السلطةِ في روسيا ، أعلنوا عن بنودِ اتفاقيةِ سايكس بيكو السريةِ التي تُناقضُ ما جاءَ في الوعودِ البريطانيةِ والفرنسية ، حيثُ تقضي بتقسيمِ بلادِ الشامِ والعراقِ إلى مناطقِ نفوذٍ بينَ كلٍ من بريطانيا وفرنسا ، وبعدَ إعلانِ وعدِ بلفور القاضي بمنحِ فلسطين وطناً لليهود ، فضلاً عن ظهورِ الكثيرِ من الأخطاءِ في تعاملِ المحتلينَ البريطانيينَ مع أهالي البلادِ التي احتلوها وخاصةً في العراق ، إذ كانَ اغلبُ قادةِ الجيشِ من الشبابِ الذينَ يفتقرون للحكمةِ في التعامل ، ومنْهم منْ كانَ ينطلقُ في تعاملِهِ من منطلقِ نظريةِ سيادةِ الرجلِ الأبيض، وعلى رأسِهم الحاكمِ الملكي العامِ في العراقِ السّير آرنولد ويلسن ، فأُرتكبتْ جملةٌ من الأخطاءِ التي استفزتْ أبناءَ العشائرِ والمدنِ ، على شكلِ ممارساتٍ اتصفتْ بالرعونةِ والقسوة ، وعدمِ مراعاةِ أعرافِ البلدِ وتقاليده ، وعدمِ احترامِ أبناءِهِ وقياداتِه ، فضلاً عن الوحشيةِ في التعاطي مع الأحداثِ والمشاكل ، ولعلَ ما حدثَ بعدَ ثورةِ النجفِ من ابرزِ الشواهدِ على ذلك.
كلُ هذهِ العوامل، وعواملٌ أُخرى قادتْ إلى نموِ شعورٍ وطني لدى جملةٍ من أبناءِ الشعبِ العراقي، ورغبةٍ في الاستقلال، وعدمِ ثقةٍ بالمحتل الذي أُفتضحتْ مخططاتُهُ الواقعيةُ شيئاً فشيئاً.
في الثلاثينِ من تشرينٍ الثاني سنةً ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانيةَ عَشَر للميلاد ، قررتْ الحكومةُ البريطانيةُ إجراءَ استفتاءٍ في العراقِ كانَ يتضمنْ ثلاثةَ أسئلةٍ موجهةً إلى العراقيينَ وهي:
هل يُفضلونَ دولةً عربيةً واحدة ، تحتَ إرشادِ بريطانيا تمتدُ من حدودِ ولايةِ الموصلِ الشماليةِ إلى الخليج؟
وهل يرغبونَ في أنْ يَرأسَ هذهِ الدولةِ رجلٌ عربيٌ منْ أُولي الشرف؟
و منْ هوَ هذا الرئيسُ الذي يُريدونَه؟
رُغمَ إنَّ المؤرخينَ يذكرونَ إنَّ الحاكمَ الملكي العام في العراقِ السّير ويلسن تصرفَ مِن تِلقاءِ نفسِهِ ، في التأثيرِ على نتائجِ الاستفتاءِ لكي لا تتضمنُ المطالبةَ بالاستقلالِ وإنَّ الحكومةَ البريطانيةَ رفضتْ النتائجَ التي أعلَنَ عنها ويلسن ، إلا إنَّ مَنْ يعرفْ السياسةَ البريطانيةَ جيداً يستبعدُ حُسنَ النية ، خاصةً وأنَّ بريطانيا ضَربتْ كلَ وعودِها للعربِ والعراقيينَ بعَرضِ الجدار ، وأعلَنَتْ لاحقاً قَبولَ انتدابِها على العراقِ ، في الثالثِ من آيار سنةَ إلفٍ وتسعمئةٍ وعُشرونَ للميلاد ،والذي أُقرَّ في مؤتمرِسان ريمو في الخامسِ والعشرينَ من نيسان من السنةِ نفسِهاواعتبارِهِ أساساً لسياسَتِها النهائيةِ في العراق.
انتقلَ الميرزا محمد تقي الحائري الشيرازي ، من سامراء حيثُ كانَ يسكنُ إلى كربلاء ، في اليومِ الثالثِ والعشرينَ من شباط سنةَ ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانيةَ عَشَر للميلاد ، بطلبٍ من بعضِ الشخصياتِ الوطنية ، الذينَ وجدوا ضالتَهم فيهِ كقائدٍ للحراكِ الوطني المطالبِ بالاستقلال ، كما تنقلُ بعضُ المصادر.
فضلاً عن مواقفِهِ السابقة ، ومنها موقفُهُ من مواجهةِ المحتلِ البريطاني ومقاومتِه ، كانتْ أولى مواقفِ الميرزا الشيرازي السياسيةِ البارزةِ فتواهُ الشهيرةُ “ليسَ لأحدٍ من المسلمينَ أنْ ينتخبَ ويختارَ غيرَ المسلمِ للإمارةِ والسلطنةِ على المسلمين” ، هذهِ الفتوى يبدو إنها كانتْ متزامنةٌ مع الاستفتاءِ الذي أرادَ منْهُ ويلسن ومن خلفِهِ بريطانيا أنْ يكونَ صكُ موافقةٍ على حكمِ العراقِ من قِبَلِ حاكمٍ بريطاني بشكلٍ مباشر ، فكانَتْ النتيجةُ عكسَ ما أرادوا ، فاضطرَ ويلسن إلى استخدامِ الترغيبِ والترهيبِ والتزويرِ ، للوصولِ إلى النتيجةِ التي يرومَها ، فكانَ أنْ خرجَ بنتيجةٍ كاذبةٍ لم تُصدقْها حتى حكومةُ بريطانيا نفسَها.
وتَنقِلُ بعضُ المصادرِ إنَّ الفتوى كانَتْ بعدَ نهايةِ الاستفتاءِ وتأييداً للجمعيةِ الإسلاميةِ التي أُسستْ في كربلاء على يدِ ابنِ الميرزا الشيخ محمد رضا الشيرازي ، و ضمتْ في عضويتِها السيد هبة الدين الشهرستاني ، و السيد حسين القزويني ، وآخرينَ من العلماءِ والأدباءِ والوجهاء.
وقدْ أيدَ سبعةَ عَشَرَ منْ العلماءِ فتوى الميرزا الشيرازي ، ووضعوا أختامَهم عليها ثم أُرسلتْ نسخٌ منها إلى المدنِ والعشائر ، وقد عُدت هذه الفتوى عاملاً مهماً في تطويرِ الوعي السياسي في العراق ، فهي قد جعلتْ الدينَ والوطنيةَ في إطارٍ واحد ، على حدِ تعبيرِ علي الوردي في كتابِهِ لمحات اجتماعية من تاريخِ العراقِ الحديث.
في اليومِ الثلاثينَ من نيسان سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعةَ عَشَر للميلاد ، توفي السيدُ محمد كاظم اليزدي في النجفِ الأشرف ، فانتقلتْ المرجعيةُ من بعدِهِ إلى الميرزا الشيرازي ، وكانتْ وفاتُهُ سبباً للتقاربِ بين السنةِ والشيعة ، إذ أقامَ السنةُ مجالسَ تأبينيةٍ للفقيدِ مواساةً لإخوانِهم الشيعة ، وكانَ ذلك مقدمةً لتقاربٍ اكبر نتجَ عنهُ ظاهرةٌ عُرفتْ فيما بعد بالمولدِ التعزية.
انطلاقة الثورة:
لم يقفْ سعيُ وجهدُ الميرزا الشيرازي ، والعلماءِ الآخرينَ ، في مواجهةِ الاحتلالِ البريطاني وتلاعبِهِ بمقدراتِ الشعوبِ عندَ حدودِ العراق ، فقد كانتْ بريطانيا تخوضُ جولةً من المفاوضاتِ في طهرانِ مع رئيسِ الوزراءِ الإيراني وثوق الدولة ، لِعقدِ معاهدةٍ بين بريطانيا وإيران ، تصبُ في مصلحةِ البريطانيين ، وتُعرضُ استقلالَ إيران للخطر ، فكانَ أنْ عُقدَ اجتماعٌ في بيتِ الميرزا الشيرازي في كربلاء ، في نيسان سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعةَ عَشَر للميلاد ، بطلبٍ منْهُ ، ضمَ كلاً من شيخِ الشريعةِ الاصفهاني ، والسيدِ إسماعيل الصدر ، وكانتْ نتيجةُ الاجتماعِ إرسالَ رسالةٍ إلى وثوقِ الدولة موقعةً من قِبلِ العلماءِ الثلاثة يحثونَهُ فيها على عدمِ عقدِ المعاهدة ، وقد تَكفّلَ الشيخُ محمد الخالصي بإيصالِ الرسالةِ سراً إلى طهران بوساطةِ احدِ تجارِ الكاظمية.
وفي تموز من العامِ نفسِه ، عُقدَ اجتماعٌ في سردابِ آلِ شلاش في النجف ، ضمَ ثلاثةً من الزعماءِ الوطنيين ، ونَتَجَ عن الاجتماعِ الاتفاقُ على إرسالِ مضابطٍ إلى الملكِ حسين في الحجازِ يُذكّرونَهُ فيها باختيارِ احدِ أنجالِهِ لعرشِ العراقِ ويطلبونَ مساعدتَه ، وتمَّ انتدابُ الشيخ محمد رضا الشبيبي لحملِ هذِهِ المضابط ، مع كتابٍ من الميرزا الشيرازي إلى الملك ، وارتحَلَ الشبيبي فعلاً إلى الحجازِ سراً ، والتقى الملكَ فأرسلَ الملكُ جواباً إلى الميرزا الشيرازي.
بدأتْ السلطاتُ البريطانيةُ بمتابعةِ الحراكِ الوطني ، الذي كانتْ كربلاءُ في ذلكَ الوقتِ تُمثلُ احدَ مراكزِهِ المهمةِ بحكمِ وجودِ المرجعيةِ العليا فيها ، وقامتْ في الثاني من آب سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعَةَ عَشَر للميلاد باعتقالِ ستةِ أشخاصٍ من أعضاءِ الجمعيةِ الإسلامية وسَفّرتّهم إلى بغداد بُغيةَ نفيهِم إلى الهند ، فأرسلَ الميرزا الشيرازي كتاباً إلى ويلسون في الخامسِ من آب يحتجُ فيِهِ على تسّفيرِهم ، ويطلبُ إخلاءَ سبيلِهم حيثُ وصَفَهُم بأنَّهم لم يفعلوا شيئاً سوى القيام بالمطالبةِ السلميةِ بحقوقِ البلادِ المشروعة ، فبعثَ ويلسون برسالةٍ مطولةٍ إلى الميرزا ، يَتهمُ فيها المعتقلينَ بأنَّهم يشوشونَ أفكارَ الناسِ تِجاهَ بريطانيا ويُثيرونَ الإشاعات والأكاذيب ، وعندما وصلَ كتابُ ويلسون إلى الميرزا الشيرازي ، تألّمَ الميرزا كثيراً ، وأعلَنَ عزمَهُ على الهجرةِ إلى إيران ، لكي يُفتي من هُناك بالجهادِ ضدَ الانكليز ، فلما انتشرَ خبرُ عزمِهِ على الهجرة ، أخذتْ الرسائلُ تَرِدُ إليِهِ من شتى المدنِ تطلبُ منْهُ البقاء ، ومما جاءَ في بعضِها “لمْ يبلْغنا خبرَ هجرتِكم إلّا وصَممنا على إتّباعِكم ، والسيرِ على منهاجِكم ، فلا تطيبُ لنا بعدَكم دار ، ولا يكونُ لكافةِ أهلِ العلمِ قرار ، فأمرونا فإننا ممتثلون طوعَ أمرِكم ورهنَ إشارتِكم”.
لمْ تجدْ الحكومةُ البريطانيةُ لكَثرةِ الضغوطاتِ بُدٌ من إعادةِ المبعدينَ بعد أربعةِ أشهرٍ من اعتقالِهم ، ومحاولةً منهم لاسترضاءِ الميرزا الشيرازي الذي عدُّوه خصماً عنيداً يصعبُ إرضاءُهُ أو مخادعتَهُ ،فكانَ أنْ وصفوهُ بأوصافٍ لا تليق ، تنفيساً لكرهِهم لَهُ كما جاءَ في مذكراتِ ويلسون والمِسْ غيرترود بيل ، واستقبلَ أهالي كربلاء السياسيينَ المُبعدينَ الذينَ عادوا في الثاني من كانونِ الأول من السنةِ نفسِها بالكثيرِ من الحفاوةِ والابتهاج ، وعُدتْ عودتَهم نصراً صنَعَهُ أبطالٌ وطنيون.
في السادسِ عشر من نيسان سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وعشرينَ للميلاد ، عُقدَ اجتماعٌ سِري في النجفِ بالتزامنِ مع زيارةِ المبعثِ النبوي في السابعِ والعشرينَ من رجب في دارِ السيد علوان الياسري حَضَرَهَ عددٌ من رجالِ الدينِ ورؤساءِ العشائر ، وكانَ من ضمنِ الحاضرينَ الشيخ محمد رضا نجل الميرزا الشيرازي ، وكانَ الهدفُ من الاجتماعِ مناقشةُ الإعلانِ عن الثورة ، ولكن اعتراضَ بعضُ شيوخِ العشائر قادَ إلى الموافقةِ على تأجيلِ الإعلانِ عن الثورة ، والعملِ على التمهيدِ لها عن طريقِ التوعيةِ الوطنيةِ والدينية ، وخرجَ المجتمعونَ بالمقرراتِ التالية:
أولاً: تأسيسُ جمعيةٍ باسمِ الجامعةِ الإسلامية ، مركزُها كربلاء ، ولها فروعٌ في كلِ العراقِ ويرأسُها الميرزا محمد تقي الشيرازي.
ثانياً: توزيعُ منشورٍ بتوقيعِ الشيرازي يأمرُ بالوحدةِ وجمعِ الشملِ والتساندِ في كلِ المهام.
ثالثاً: جَعْلُ يومُ الجُمعةِ يومُ الشعب، تُعطّلُ فيِهِ المكاسب، ويُترَكُ البيعُ والشراء، وتُنْصبُ المنابرُ في الساحاتِ العامةِ ليتبارى الخطباءُ فوقَها بما يستلزمُ الإثارةَ والتحضير.
وقد ساهَمَ جَمعٌ من الخطباءِ في انجازِ مهمةِ التحشيد هذهِ منهم الشيخ محمد علي القسّام ، والشيخ محسن أبو الحب ، والشيخ باقر الحلي وآخرون.
عُقدَ مؤتمرُ سانْ ريمو ، في الخامسِ والعشرينَ من نيسان سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وعُشرونَ للميلاد ، وكانَ من ضِمنِ مقرراتِهِ وضعُ العراق تحتَ الانتدابِ البريطاني ، وأعلَنَتْ بريطانيا في الثالثِ من آيار من العامِ نفسِهِ قَبولَها الانتداب ، ضاربةً كلَ وعودِها السابقةِ للعراقيينَ بعرضِ الجدار.
صادفَ يومُ الإعلانِ عن القبولِ البريطاني بالانتدابِ يومُ الرابع عشر من شعبان ، فُعقدَ في كربلاء في اليوم التالي أي الخامس عشر من شعبان وهو مناسبةُ زيارةٍ مخصوصةٍ إلى كربلاء في ذكرى مولدِ الإمامِ المهدي عجّلَ اللهُ تعالى فرجَهُ ، اجتماعٌ سِرّي في دارِ السيد أبو القاسم الكاشاني ، والتي كانتْ ملاصقةٌ للصحنِ الحسيني الشريفِ حضرَهُ جَمعٌ من علماءِ الدين كالشيخ عبد الكريم الجزائري ، والسيد هبة الدين الشهرستاني ، ورؤساءُ العشائرِ والزعماءُ الوطنيون ، للتداولِ في أمرِ القيامِ بالثورةِ المسلحة. فاتفقَ الحاضرونَ على انتدابِ خمسةٍ منهم لمقابلةِ الميرزا الشيرازي ، وهم الشيخ عبد الكريم الجزائري ، وجعفر أبو التمن ، والسيد نور الياسري ، والسيد علوان الياسري ، وعبد الواحد الحاج سكر. فذهَبَ هؤلاءُ الخمسة إلى دارِ السيد الشيرازي وفاتحُوه بالأمر ، فقالَ لهم “إنَّ الحملَ ثقيلٌ ، وأخشى أنْ لا تكونَ للعشائرِ قابليةُ المحاربةِ مع الجيوشِ المحتلة “، فأكدوا لَهُ إنَّ العشائرَ لها المقدرةُ التامة على القيامِ بالثورة ، فقالَ لهم “أخشى أنْ يختلَ النظام ، ويُفقدُ الأمنُ فتكونُ البلادُ في فوضى ، وانتم تعلمونَ إنَّ حفظَ الأمنِ أهمُ من الثورةِ بل أوجبَ منها” ، فأجابوهُ بأنَّهم قادرونَ على حفظِ الأمنِ والنظام ، فقال “إذا كانتْ هذهِ نياتُكم ، وهذهِ تعهداتُكم فاللهُ في عونِكم”.
وفي الليلةِ التالية ، عُقِدَ اجتماعٌ آخر في دارِ السيد نور الياسري ، حضَرَهَ الذي شاركوا في الاجتماعِ الأول ، وبعدَ المداولةِ اتفقوا على الاستمرارِ بمطالبةِ الانكليزِ بالاستقلالِ بالطريقةِ السلمية ، فإذا أصّرَ الانكليزُ على رفضِ مطاليبِهم وعاندوا في ذلك فإنَّ العشائرَ تلجأُ عندئذٍ إلى القيامِ بالثورةِ المسلحة.
شَهِدَ شهرُ رمضان ، الذي وافقتْ بدايتُهُ يومَ التاسعِ عَشَر من آيار سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وعُشرينَ للميلاد تقارباً بين السُنّةِ والشيعةِ في بغداد ، حيثُ بَرَزَتْ ظاهرةُ المولدِ التعزية ، وهو احتفالٌ دينيٌ يُقامُ في ليالي رمضانِ في مساجدِ السُنّةِ والشيعةِ على التعاقب ، يَجمعُ بينَ المولدَ النبوي على الطريقةِ السُنية ومجلسَ التعزيةِ الحسينيةِ على الطريقةِ الشيعية ، وكان هذا الأسلوبُ في الاحتفالِ قد بدأ أولَ مرةٍ قبلَ شهرِ رمضان بأيامٍ قليلةٍ يومَ الرابعِ عَشَر من آيار ، ولكنَهُ مع بدايةِ شهرِ رمضان أصبحَ نشاطاً متكرراً يَتمُ الإعلانُ عن مكانِهِ وزمانِهِ مسبقاً بأساليبٍ مختلفة.
تَصفُ المِسْ بيل هذهِ الحفلاتِ بقولِها “إنَّ المتطرفينَ اتخذوا خطةً من الصعبِ مقاومتَها ، وهي الاتحادُ بينَ الشيعةِ والسُنّةِ أي وحدةُ الإسلام ” وتقولُ أيضاً “إنَّها زاخرةٌ بإلقاءِ القصائدِ والخُطَبِ التي تَمزِجُ بينَ الدينِ والسياسةِ ، وكلُها تدورُ حولَ فكرةِ العداءِ للكفّار”
أثارتْ هذهِ الحفلاتُ حفيظةَ المحتلين ، لِما وجدوا فيها منْ تقاربٍ بينَ السُنّةِ والشيعةِ يَضِرُ بمصالحِهم ، ولِما تَضمنَتْهُ هذهِ الحفلاتُ من كلماتٍ وإشعارٍ دينيةٍ ووطنيةٍ حَماسية ، فصارتْ قواتُهم تُراقبُ هذهِ الحفلات ، وألقّتْ القبضَ على احدِ الأشخاصِ الذي يرتادونَ هذهِ الحفلاتِ اِثْرَ إلقاءِهِ قصيدةٍ حماسية ، وفي يومٍ آخر تَمَ قَتلُ احدِ المشاركينَ وكانَ أخرساً بِدهسِهِ بسيارةِ احدِ جنودِ الاحتلال ، وتوالتْ الأحداثُ في بغداد ، فكانَ أنْ قابلَ مجموعةَ ممثلينَ عن القُوى الوطنيةِ مِنْهم السيد محمد الصدر ، ومحمد جعفر أبو التمن قابلوا بلفور القائدُ البريطاني في بغداد ، وعلى اَثَرِ ذلك أرسلَ أبو التِمّن رسالةً إلى الميرزا الشيرازي بيدِ الشيخ محمد باقر الشبيبي يُبَلِّغُهُ فيها بمجرياتِ الأمورِ في بغداد ، فبعثَ لَهُ الميرزا الشيرازي رسالةً خاصةً ورسالةً أخرى عامةً لكلِ العراقيين.
طُبِعتْ الرسالةُ العامة في أنحاءِ العراقِ كافة ، وقُرأتْ عَلانيةً في العديدِ من الأماكنِ ومِنها الصحنِ الكاظمي ، واستجابةً لِما وردَ في الرسالة، بدأتْ حركةُ تنظيمِ مضابطِ التوكيلِ للمطالبةِ بِما وَرَدَ في رسالةِ الميرزا الشيرازي ، فنُظمتْ مضبطةٌ في كربلاء في الثالثِ من حُزيران حَمَلتْ خمسةً وستينَ توقيعاً انتدبَ فيها أهالي كربلاء الميرزا عبد الحسين نجل الميرزا الشيرازي ، والشيخ محمد نجل الشيخ الخالصي ، والسيد محمد على الطباطبائي ، والشيخ صدر الدين حفيد حجة الإسلام المازندراني ، والسيد عبد الوهاب ، والشيخ محمد حسن أبو المحاسن ، والشيخ عسكر الحاج علوان ليُمثلوهم أمامَ حكومةِ الاحتلال للمطالبةِ بحقوقِهم المشروعة.
ونُظمتْ مضبطةٌ في النجف في الخامسِ من حُزيران ، وكانَ شيخُ الشريعةِ الاصفهاني احدَ الموقّعينَ عليها ، انتدبَ فيها أهالي النجفِ والشاميةِ كلاً من الشيخ جواد الجواهري ، والشيخ عبد الكريم الجزائري ، والشيخ عبد الرضا ال شيخ راضي ، والسيد نور ال سيد عزيز الياسري ، والسيد علوان السيد عباس الياسري ، والحاج عبد المحسن شلاش كممثلينَ عنهم ، وتقدمَ وفدُ النجفِ بطلبٍ لمقابلةِ المِيجر نور بري الحاكمِ البريطاني السياسي للنجفِ والشاميةِ فامتنعَ عن مقابلةِ الوفدِ النجفي .
وصلتْ أنباءُ الامتناعِ عن مقابلةِ الوفدِ النجفي إلى كربلاء ، فقامَ الشيخُ محمد رضا نجل الميرزا الشيرازي بالدعوةِ لإقامةِ مظاهراتٍ في صَحْني الإمامين الحُسين والعباس عليهما السلام ، وتمتْ إقامةُ المظاهراتِ فعلاً ، وخَطَبَ فيها جَمعٌ من الزُعماءِ الوطنيينَ في مُقدمتِهم الشيخ محمد الخالصي خُطَباً حماسية ، وأُلقيتْ مجموعةٌ من القصائدِ أغاضتْ كما يبدو سلطةَ الاحتلالِ في بغداد فأوعزتْ إلى الميجر بُولي حاكمِ الحلةِ السياسي أنْ يتوجهَ إلى كربلاء على رأسِ قوةٍ عسكريةٍ للقبضِ على المتسببينَ بتلكَ الأحداث ، ووصلتْ القوةُ إلى كربلاء فاحتلتْ مداخلَ المدينة.
استدعى الميرزا الشيرازي الميجرَ بُولي ليُحذرَهُ من عاقبةِ أيِ تحركٍ غير محسوب ، ولكنَ الميجرَ امتنعَ عن الحضورِ ووجهَ كتابُ إلى الميرزا، فبعثَ الميرزا رسالةٌ جوابيةٌ لَهُ ،إلّا إنَّ الميجرَ بُولي لم يلتفتْ لِما جاءَ في رسالةِ الميرزا ، فاستدعى يومَ الثاني والعِشرين من حُزيران لمقابلتِهِ اثني عَشَرَ شخصاً ، كانَ من ضِمنِهم الشيخ محمد رضا نجل الميرزا الشيرازي ، والسيد محمد علي الطباطبائي. فتردَدَ المطلوبونَ في الذهابِ لعلمِهم إنَّهُ سيتمُ اعتقالُهم ، فأوعزَ الميرزا إلى نجلِهِ أنْ يُسلّمَ نفسَهُ فسَلّمَ الآخرونَ أنفسَهم أيضاً ، وتمَ نقلُهم فوراً بالسياراتِ المصفحةِ إلى الحلةِ وأُرسلوا منها بالقِطارِ إلى البصرةِ ومن ثُم إلى جزيرةِ هَنْجام في الخليجِ العربي. وكذلكَ تمَ اعتقالُ مجموعةٍ من علماءِ واعيانِ الحلةِ وتمَ نفيُهم إلى نفسِ الجزيرةِ أيضاً.
ارتفعتْ أصواتُ المطالبةِ بإعادةِ المنفيين ، وعلى وجهِ الخصوصِ نجلِ الميرزا الشيرازي في مناطقٍ مختلفةٍ من العراق، وكانَ الوضعُ على وَشَكِ الانفجار ، فكانتْ حادثةُ إخراجِ الشيخ شعلان أبو الجون من سجنِهِ في الرميثة بِغَضِّ النَظرِ عن أسبابِها وكونِها عفويةٌ أم باتفاقٍ مُسبق ، كانتْ الشرارةُ التي أعلنَتْ بدايةَ الانفجار.بَقيتْ عشائرُ الرميثةِ تُقاتلُ لوحدِها مدةَ أسبوعين تقريباً ، فأعلَنَ الميرزا الشيرازي تَذمرَهُ من تقاعسِ العشائرِ الأخرى عن نَجْدةِ عشائرِ الرميثةِ قائلاً “إن مَثَلَكم مَثَلِ جماعةٍ وقفوا على الساحل ، فألقى احدَهم بنفسِه في اليم ، أفلا يَجبُ على أصحابِهِ إلقاءُ أنفسِهم معَهُ لإخراجِهِ وإنقاذِهِ؟ يجبُ إنقاذُ الغريقِ قبلَ أنْ يبتلعَهُ اليم. وبما إنَّ الذينَ تصادموا مع القوةِ غَرِقوا فيَلْزمُ إنقاذُهم أو تغرقوا معهم”.
أرسلَ الميرزا الشيرازي بعدَ ذلكَ رسالةً بيدِ السيد هبة الدين الشهرستاني ، والميرزا احمد الخراساني إلى ويلسون يعرضُ فيها بعضَ الشروطِ من اجلِ إيقافِ القتالِ عندَ حدِهِ قبلَ أنْ تَنضمَ العشائرُ الأخرى إليِه، وهي أيُ الشروط : سَحْبُ القواتِ الانكليزيةِ من منطقةِ القتال ، وإعلانُ العفو العام ، وإعادةُ المنفيين ، فرفَضَ ويلسون مقابلةَ المبعوثينَ قائلاً بعُنجهيتِهِ المعروفة “إني لا اُصدقُ برسالةِ الشيرازي لأنَّهُ هو الذي بَذَرَ هذهِ البذرةَ وهذا يومُ حصادِها”.
وكانتْ هُناك محاولةٌ أُخرى من شيخِ الشريعةِ الاصفهاني لتهدئةِ الأوضاعِ يومَ الخامسِ والعشرينَ من حُزيران ، أي بعدَ اعتقالِ نجلِ الميرزا ، وقبلَ أحداثِ الرميثةِ، حيثُ قامَ بإرسالِ رسالةٍ إلى العشائرِ يُطالبَهم بالتهدئة ، وإرسالِ رسالةٍ أُخرى في نفسِ الوقتِ إلى ويلسون الحاكمِ الملكي البريطاني ، وكذلكَ إلى قائدِ القواتِ البريطانية يُطالبْهُما بالتهدئةِ أيضاً ، فأجابَ ويلسون برسالةٍ رَفَضَ فيها الوساطةَ ووصفَ المجاهدينَ بأنَّهم سراقٌ وقطاعُ طُرق ، فرَدَ عليِهِ شيخُ الشريعةِ برسالةٍ في الثامنِ من تموز يَنفي عنْهم تلكَ الأوصاف، ويذكرُ بعضُ التفاصيلِ عن أحداثِ الثورة .
بعدَ هذهِ الأحداث ، ووفقاً للاحتمالِ الأرجح ، صدرَتْ فتوى الجهادِ الشهيرةِ للميرزا الشيرازي، وقدْ قِيلَ في توقِيتِها الكثيرُ من الاحتمالاتِ لكونِها غير مؤرخة ، ولكنَّ الأرجحَ وفقاً للمُعطيات ، ووفقاً لِما جاءَ في جاءَ في كلامِ الشيخ محمد الخالصي في إحدى المخطوطات ، وكذلكَ لِما جاءَ في رسالةِ شيخِ الشريعةِ إلى ويلسون يومَ الثامنِ من تموز ، مِنْ ذِكرِ قولِ الناسِ بأنَّ حضرتْ آيةُ الله الشيرازي دامتْ بركاتُهُ يأمرَنا بالسكونِ والمحافظةِ على الأمنِ العام ، والحكومةُ كلَ يومٍ تُلقي القبضَ على جماعةٍ مِنّا بلا ذنبٍ ولا سؤالٍ ولا جواب ، أي إنَّ الميرزا الشيرازي إلى يومِ إرسالِ رسالةِ شيخِ الشريعةِ لا زالَ يأمرُ بالتهدئةِ ولمْ يكنْ قد اصدرَ فتواهُ بالجهادِ بعد ، فمِنْ خلالِ كلِ ذلكَ يُمكنْ القولَ إنَّ فتوى الجهادِ صدَرَتْ بعدَ فشلِ محاولةِ الميرزا الشيرازي وشيخِ الشريعةِ الاصفهاني في التهدئةِ وبعدَ تَمادِى القواتُ البريطانية في قسوتِها في التعاملِ مع ثوارِ الرميثة ،وقد سُميتْهذهِ الفتوى بالفتوىالدِفاعية و نصُها: ((مطالبةُ الحقوقِ واجبةٌ على العراقيين، ويجبُ عليهِم في ضِمْنِمطالبتِهم، رعايةَ السلمِ والأمن، ويجوزُ لَهُم التوسلَ بالقوةِ الدفاعية، إذا امتنعَالانكَليزُ عن قَبولِمطاليبِهِم)).وصلَتْ أصداءُ هذه الفتوى إلى المدنِ ومناطقِ العشائرِ الأُخرى فصارَتْ تثورُ الواحدةُ تُلوْ الأُخرى وأُعلنَتْ الثورةُ في المشخابِ في يومِ الحادي عَشَرَ من تموز ، وحدثَتْ الكثيرُ من المعاركِ الفاصلة، مِنْها معركةُ العارضياتومعركةُ أبو صخير في اليومِ الثالثِ عَشَرَ من تموز ثُم استولى الثوارُ على الشاميةِ وأبيصخير والجعارةِ والديوانيةِوالسماوةِ، كما أنَّ السلطةَأخْلَتْ النجفَفي اليومِ الخامسِ عَشَرَ من تموز من تِلقاءِ نفسِها وكذلك كربلاء ، وأُعلنَتْ الثورةُ في النجفِ في اليومِ الحادي عَشَر من الشهرِ نفسِه ،وأصبحَتْ الكوفةُ في أيدي الثوارِ على الرُغم من وجودِ الحاميةِ البريطانيةِ متحصنةً في بعضِ خاناتِها ، واتجَهْ الثوارُ نحوَ الكِفل، فهرَبَ موظفوها ، واستولى عليها الثوارُ في العشرينِ من شهرِ تموز .
حدثَتْ معركةُ الرستمية أو الرارنجية يومَ الرابعِ والعشرينَ من تموز ، وهي مِنْ المعاركُ الفاصلةُ التي أبدى فيها الثوارُ بسالةً ومهارةً منقطعةَ النظير ، وانتهَتْ المعركةُ بانتصارِهم ، وتَمَّ اسرُ مئةٍ وأربعةٍ وأربعينَ فرداً من جيشِ الاحتلال ، بينَهم ثمانيةٍ وثمانينَ بريطانياً اثنينْ منهم من الضُباط ، وتَمَّ نقلُ هؤلاءِ الأسرى إلى خانِ الشِيلان في النجف ، وكذلكَ غنيمةُ الكثيرِ من المعداتِ العسكريةِ والتي اُستخدمتْ في ما بعدْ في معاركٍ أخرى ، كاستخدامِ احدِ المدافعِ في تدميرِ الباخرةِ فاير فلاي في شطِ الكوفة ، وكانَتْ هذهِ المعداتُ سبباً في استمرارِ الثورةِ لفترةٍ أطول.
تقدَمُ الثوارُ صوبَ مدينةِ الحلةِ نهايةَ تموز ، وحدثَتْ عدةُ معارك ، لكنَّ الثوارَ أخفقوا في دخولِ الحلة ، وخسَرِوا مجموعةً من الشهداء ، فلما وصلَتْ أخبارُ معاركِ الحلةِ إلى الميرزا الشيرازي أرسلَ رسالةً إلى السيد علوان الياسري يستفسرُ عن أسبابِ الفشل ، فجاءَ الردُ من السيد الياسري في رسالةٍ يصفُ فيها أحداثَ المعارك ، توجَهَ الثوارُ بعدَ ذلك إلى سدةِ الهنديةِ فاستولوا عليها في الخامسِ من آب ثم استولوا على المسيب.
كانَ لإحداثِ الحلةِ وَقْعٌ سيءٌ على صحةِ الميرزا الشيرازي ، إذْ يروي السيدُ هبة الدين الشهرستاني ، إنَّ الميرزا دخلَ مرةً إلى صحنِ الإمامِ الحُسين عليه السلام لأَداءِ الصلاة ، فشَهِدَ عدداً كبيراً من الجنائزِ التي جِيءَ بِها من جبهاتِ القتالِ فراعَهُ ذلك ، وظَهَرَ الألمُ على وجهِهِ واضحاً ، وكانَ ذلكَ آخرَ يومٍ يخرجُ فيِهِ للصلاة ، إذْ انهارتْ صحتُهُ بعدَ ذلك ، ولَزِمَ الفِراش ، ثُم ماتَ قُدّسَ سِرُهُ في الثامنِ عَشَر من آب سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وعشرينَ للميلاد ، واصدرَ السيدُ هبة الدين الشهرستاني بيانَ نعي ، وقدْ شِيعَ في حينها إنَّ هناكَ من دسَ لَهُ السُّم، في إشارةٍ إلى حادثةِ دَسِّ السُّمِ للآخوندِ الخُراساني قبلَ تسعِ سنواتٍ والتي اُتهمتْ فيها بريطانيا في حينِها.
اتجهَتْ الأنظارُ بعدَ وفاةِ الميرزا الشيرازي ، إلى قطبِ الثورةِ الآخر ، أي شيخِ الشريعةِ الاصفهاني ، والذي لمْ يكُنْ بمعزلٍ عن أحداثِ الثورةِ إذْ كانَ لَهُ دورٌ أساسيٌ في أكثرِ مفاصِلها ، فقررَ الثوارُ مبايعةَ الشيخِ الاصفهاني ليكونَ خليفةً للميرزا الشيرازي في الإشرافِ على الثورة ، فُعقدَ اجتماعٌ كبيرٌ في الصحنِ العلوي الشريف ، حضرَهَ جَمعٌ غَفيرٌ من الناس ، وصَعدَ الشيخُ الاصفهاني المنبرَ وكانَ إلى جانبِهِ الشيخ جواد الجواهري والسيد محمد علي بحر العلوم والسيد محمد رضا الصافي ، وكانَ مما قالَهُ في خطابِهِ “إنَّ الميرزا الشيرازي انتقلَ إلى رحمةِ الله ، ولكنَّ فتواهُ بقتالِ المشركينَ باقية ، فجاهدوا واجتهدوا في حفظِ وطنَكم العزيزِ واخذِ استقلالِكم “، ولِكبرِ سِنِّ الشيخِ الاصفهاني فإنّهُ كانَ لا يستطيعُ الذهابَ إلى ساحاتِ القتالِ أو قريباً منها ، لذا أنابَ عنْهُ السيدَ أبا الحسن الاصفهاني في ذلك ، فتسلّمَ السيدُ الاصفهاني الرايةَ وتوجَهَ إلى مرقدِ أميرِ المؤمنين عليِهِ السلام لأَداءِ الزيارة ، ثُم غادرَ النجفَ ملتحقاً بالثوارِ في جبهةِ الوند ، وكانَ في صحبتِهِ السيد مصطفى الكاشاني ، وابنِهِ السيد أبي القاسم الكاشاني ، والسيد محمد رضا الصافي.
كانَتْ أولى رسائلِ شيخِ الشريعةِ الاصفهاني إلى الثوار ، بعدَ وفاةِ الميرزا بيومٍ واحد ، حيثُ بَعَثَ إلى السيد هادي ال مكوطر في السماوة ، جواباً لرسالةٍ سابقةٍ أُرسلَتْ للشيخِ قبلَ وفاةِ الميرزا الشيرازي من قِبَلِ بعضِ رؤساءِ العشائرِ هناك ، وقدْ تَضمنَتْ رسالتُهُ للثوارِ جُملةً من التوصياتِ مع الدعاءِ لهَم بالنُصرة ، وإرسالَ مبعوثينَ من قِبَلِهِ إليهِم.
انتهزَ البريطانيون فرصةَ وفاةَ الميرزا الشيرازي ، وانتقالَ المرجعيةِ إلى شيخِ الشريعةِ الاصفهاني ، وكانَتْ الثورةُ حينَها قد شَمِلَتْ كلَ مناطقِ الفراتِ الأوسطِ وامتدَتْ جنوباً إلى الناصريةِ وشمالاً إلى المحموديةِ وشَمِلَتْ مناطقَ في ديالى وكركوك ، فقاموا بمحاولةِ عَرضِ الصُلحِ عليه ، حيثُ أرسلَ ويلسون رسالةً إلى الشيخِ الاصفهاني يومَ السابعِ والعشرينَ من آب ، وقد طَبَعَتْ سُلطاتِ الاحتلالِ نسخاً كثيرةً من الرسالة ، ونشرَتْها في الصُحفِ التابعةِ لها في بغداد والموصل والبصرة ، وألقَتْ نُسخاً مِنْها من الطائراتِ على مُختلفِ مناطقِ الثورة ، ونظراً لعدمِ الثقةِ بالوعودِ البريطانية ، واحتمالَ أنْ تكونَ دعوةُ الصلحِ هذهِ غيرُ جديةٍ فقدْ تَمَّ رفضُ عَرضُ الصلحِ هذا.
ولتدويلِ قضيتِهم قامَ الثوارُ بتنظيمِ مضبطةٍ يومَ الخامسِ عَشَر من أيلول ، يدعونَ فيها الدولَ الحرةَ إلى مساعدتِهم ، وقدْ وَقّعَ عليها ثلاثةٌ وسبعون رئيساً ، وكتَبَ عليها الشيخُ الاصفهاني “بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم ، هذهِ الورقةُ كُتبَتْ بإملاءِ زُعماءِ العراقِ ومشائخِ عشائرِه ، وهم الموقّعونَ عليها بأسمائِهم”
دور العلماء:
ثورةُ العشرينَ ثورةٌ وطنيةٌ خالصة ، صنعَ مقدماتَها وحركَ اغلبَ أحداثَها علماءُ الحوزةِ العلميةِ الشريفة ، فكانَتْ ثورةٌ عُلمائيةٌ بامتياز، تخطيطاً وتنظيماً ، قادَ المرحلةُ الأولى منْها الميرزا الشيرازي ، فكانَ يُصدرُ الفتاوى ويُوجهُ ويُنظمُ ويُتابعُ عن كثبٍ اغلبَ التفاصيل ، وأكملَ المسيرةَ سلفُهُ شيخُ الشريعةِ فتح الله الاصفهاني كأحسنِ ما كان ، ويُمكنْ إجمالِ دورِ العلماءِ في ثورةِ العشرينَ في مرحلتين أساسيتين:
المرحلةُ الأولى: مرحلةُ تهيئةِ المقدمات ، حيثُ كانَتْ توجيهاتُ المرجعيةِ وفتواها هي العاملُ والمحركُ الأولُ للجماهيرِ باتجاهِ المطالبةِ بحقوقِهم المشروعة ، ومواجهةِ مخططاتِ المحتلِ الذي بانَ للقاصي والداني كِذْبُ وعودِه ، ولمْ تكنْ الثورةُ المسلحةُ هدفاً للمرجعيةِ الدينيةِ بلْ كانَ الإصلاحُ هو الهدف ، لذا نُلاحظُ الحذرَ والتأنّي في إصدارِ الفتاوى والبيانات تجنباً للفوضى وحقناً للدماء .
فضلاً عن فتاوى وبياناتِ المرجعية ، كانَتْ هناكَ صحافةُ الثورةِ ببياناتِها وأخبارِها التي كانَتْ تَلهِبُ في الثوارِ الحماس ، فكانَتْ مجلةُ الفرات التي أصدرَها الشيخ محمد باقر الشبيبي لسانَ الثورةِ الناطق ، وكذلكَ كانَتْ جريدةُ الاستقلال وإنْ بمستوى أقل.
وكذلكَ كانَ للخطباءِ دورٌ فاعلٌ في التحشيدِ الإعلامي ، كالشيخ محمد علي القسام ، والشيخ محمد حسن أبو المحاسن ، والسيد صالح الحلي ، والشيخ باقر الحلي وآخرين.
مع إنَّ البريطانيين بتصرفاتِهم الهوجاءِ كانوا هُمُ السببَ في إيصالِ صوتِ المطالبةِ إلى مستوى الثورةِ المسلحة ، لتعجرفِهم وعدمِ تجاوبِهم مع المطالب ، واستفزازهِم للعشائرِ ورؤسائِها ، إلّا أنَّ البريطانيين كثيراً ما كانوا يُحمّلونَ المرجعيةَ أسبابَ ذلك ، وما ذلكَ إلّا إدراكاً منهم لدورِ المرجعيةِ الكبيرِ رُغمَ أنَّهم يَهدِفونَ من كلامِهم هذا الطعنَ بالمرجعيةِ وتشويهِ صورتِها.
وقد سَئلَ أحدُ أعضاءِ مجلسِ العمومِ البريطاني، ونستون تشرشل عن سببِنشوبِ الثورة في الرميثة فأجابَ”إنَّهُ من المُرَجّحِ أنْ تكونَ أسبابُ الثورةِ التي قامتْ فيالرميثةِ ضدَ البريطانيين، اهتياجٌ أو إثارةٌ دينيةٌ مصدرُها النجف ” كما ينقل النفيسي في كتابِهِ دورُ الشيعةِ في تطورِ العراقِ السياسيالحديث.
وكانَ السّير بيرسي كوكس يقولُ عن النجف ، بأنَّها قذى في عينِ السياسيةِ البريطانية ، ولاشكَ إنَّه يقصدُ بالنجفِ علمائِها.
وقد جاءَ في مذكراتِ مِسْ بيل قولها : ” رجالُ الدينِ من العلماءِ في النجفِ وبغداد وكربلاء والكاظمية وسامراء ، كانَ هؤلاءُ العلماءِ شديدي التعصبِ للإسلامِ وشديدي الكرهِ لبريطانيا ،وكانَ لهم حتى الآن أثرٌ كبيرٌ على السكانِ المتدينينَ في المدنِ المقدسة “
ويذكرُ ويلسن الحاكمُ الملكي العامُ في العراق ، في برقيةٍ إلى وزيرِ الهندِ في العشرينِ من آب سنةِ ألفٍ وتسعمئةٍ وعِشرين ، يتحدثُ عن أسبابِ نشوبِ الثورةِ في العراق ، يَذكرُ في النقطةِ الرابعةِ إنَّهُ من ضِمنِ الأسبابِ “عداءُ المجتهدينَ الذين قاوموا كلَ الحكوماتِ من بعدِ الخلفاءِ الراشدين”
فمشاركةُ العلماءِ في مقاومةِ المحتلِ البريطاني، وكذلكَ في التخطيطِ لثورةِ النجف، ومواجهةِ الاستفتاءِ البريطاني، كانَ لها الأثرُ الفاعلُ في تهيئةِ الأرضيةِ المناسبةِ للشعورِ الوطني الذي كانَتْ الثورةُ نتيجتَهُ الحتمية.
أما المرحلةُ الثانيةُ: فهي مرحلةُ أحداثِ الثورةِ وما ترتبَ عليها ، حيثُ إنَّهُ بعدَ اندلاعِ الثورةِ المسلحةِ على اَثرِ أحداثِ الرميثة ، لم تقفْ المرجعيةُ الدينيةِ مكتوفةٌ فحاولَتْ تهدئةَ الوضعِ وممارسةَ دورِ الوساطةِ بينَ الثوارِ وسلطةِ الاحتلالِ لكنَّ سلطةَ الاحتلالِ رفضَتْ الوساطة ، فما كانَ من المرجعيةِ الدينيةِ إلّا أنْ بدأتْ بالتحشيدِ لدعمِ الثوارِ فكانَ تعبيرُ الميرزا الشيرازي عن ثوارِ الرميثةِ بالغريقِ الذي يَنبغي إنقاذُهُ أو الغرقُ معَهُ تعبيرٌ غايةً في الدقةِ فهوَ من جانبْ يريدُ القولَ بأنَّهُ كانَ يتمنى لو لمْ تُستفزْ العشائرُ وتتركْ منهجَ المطالبةِ السلمي ، ومِنْ جانبٍ آخر يقولُ أيضاً إنَّهُ لنْ يقفْ مكتوفَ اليدينِ أمامَ ما حدثَ فهو إما أنَّ يُنقذُ الثوارَ أو يغرقُ معهم!!
لم يقفْ دورُ المرجعية عندَ هذا الحد ، أي دعمُ الثورةِ معنوياً ، وتهييجُ الرأي العام ضدَ المحتلين ، بلْ كانَتْ المرجعيةُ هي الداعمُ الأولُ للثورةِ مادياً ، حيثُ ينقلُ المعاصرون للإحداثِ إنَّ الميرزا الشيرازي كانَ يُرسلُ كلَ ما يَصِلُ إليهِ من الحقوقِ إلى الثوار ، وكذلكَ فَعَلَ سلفَهُ الشيخ الاصفهاني ، ولم تقفْ الأمورُ عندَ هذا الحدِ أيضاً ففي كلِ معركةٍ ومفصلٍ كانَتْ توجيهاتُ المرجعيةِ هي المحركُ الأساسي للإحداث ، وكانَ ممثلو المرجعيةِ يتابعونَ الأحداثَ عن كَثَبٍ ويشاركونَ في المعارك ، وكذلكَ فإنَّ رؤساءَ العشائرِ كانوا يُرسلونَ من طرفَهِم برسائلٍ في كلِ صغيرةٍ وكبيرةٍ إلى المرجعيةِ الدينية ، فتأتي توجيهاتُ المرجعيةِ المتابعةِ للإحداثِ تتضمنُ الكثيرُ من المفردات ، وتعالجُ الكثيرَ من المشاكل .
وتوجَهَ بعضُ العلماءِ إلى ساحاتِ المعارك ، وكانَتْ لهم مساهمةٌ فاعلةٌ فيها ، نَذكرُ منهم على سبيلِ المثالِ السيد أبيالقاسم الكاشاني، والشيخ جواد الجزائري ، والسيد هبة الدين الشهرستانيوتوجَهَهم إلى جبهةِالحلةِ وقيادتَهم للعملياتِ العسكريةِ مباشرةً من هناك.
وكذلكَ كانَ رؤساءُ العشائرِ يُعلنونَ بينَ الحينِ والآخر إنَّ المرجعيةَ هي قيادتُهم الحقيقية ، ولعلَ ميثاقَ المصِيفي على سبيلِ المثالِ خيرُ شاهدٍ على ذلك ، وهو ميثاقٌ كتبَهُ رؤساءُ العشائرِ في منطقةِ الغرّافِ وما حولَها ، على اَثرِ اجتماعٍ عقدوهُ في مدينةِ قلعةِ سِكَر ، وقدْ جاءَ في النقطةِ الثالثةِمما تعاقدوا عليه “إتّباعُ ما يأمرُ بِهِ العلماءُ المجتهدون “.
في مراحلِ الثورةِ الأولى ولوجودِ الميرزا الشيرازي في كربلاء ، ووجودِ شيخِ الشريعةِ في النجفِ وهي مقرُ اغلبِ علماءِ الحوزة ، كانَ للثورةِ مركزان قياديان هما النجف وكربلاء ، ولكنْ بعدَ وفاةِ الميرزا الشيرازي صارتْ النجفُ عاصمةُ الثورةِ ومركزُ القيادة.
الكثيرونَ ممن كتبوا عن الثورةِ قالوا إنَّها ثورةٌ فوضويةٌ لعشائرٍ أظهرَتْ الكثيرَ من الشجاعة ، وفعلاً إنَّ العشائرَ التي شاركَتْ في الثورةِ أظهرَتْ الكثيرَ من الشجاعةِ المُنقطعةِ النظيرِ بحيثْ أذهلَتْ قواتَ الاحتلال ، ولكنَّ الثورةَ لمْ تكُنْ فوضوية ، وذلكَ لأنَّ القواتَ العشائريةِ هذهِ أظهرَتْ الكثيرَ من التنظيمِ والحُنكةِ العسكريةِ بحيثْ أذهلَتْ قوادَ جيوشِ الاحتلالِ كما في معركةِ الرارنجيةِ على سبيلِ المثال ، وكذلكَ فإنَّ المرجعيةَ الدينيةِ بوصْفِها تمثلُ قيادةَ الثورةِ لم تتركْ الأمورَ سدىً دونَ تنظيم.
فتَمَ إنشاءُ مجلسٌ بلديٌ في النجف ، جرى اختيارُ أعضاءِهِ بالانتخابِ في بادرةِ وعي مبكر عن طريقِ وضعِ صناديقٍ على رؤوسِ الأسواقِ يومَ الخامسِ والعشرينِ من آب ، وهذا المجلسُ مكونٌ من ثمانيةِ أشخاص ، اثنين لكلِ مَحَلةٍ من مَحَلاتِ النجفِ الأربع : المشراق ، البراق ، العمارة ، الحويش ، ووظائفُ هذا المجلسِ جمعُ الضرائب ، وجبايةُ الرسومِ المحلية ، والإشرافُ على الأمورِ الصحية ، والقضايا البلدية ، وتَمَّ توظيفُ حرسٍ خاصٍ للأمن ، ومراقبينَ صحّيينَ للنظافة ، وموظفينَ ماليّينَ للجباية.
وقامَتْ إلى جانبِ المجلسِ البلدي هيئتانِ محليتان:
الأولى هيئةُ أعضاءِ مجلسِ الإدارةِ وهي برئاسةِ الشيخ جواد الجواهري ، وعضويةِ الحاج عبد المحسن شلاش ناظراً للمالية والسيد مهدي ال سيد سلمان رئيساً للقوةِ الإجرائية .
والثانيةُ هيئةُ القوةِ التنفيذيةِ من ثمانيةِ أعضاء.
والى جانبِ ذلكَ قامَتْ “الهيئةُ العلميةُ الدينيةُ العليا” فكانَتْ تُشرِفُ على كلِ هذِهِ الهيئات ، وتديرُ أمورَها وتُصدرُ لها التعليماتِ اللازمةِ وتَحلُ المشاكلَ الآنية ، وهي برئاسةِ شيخِ الشريعةِ الاصفهاني ، وعضويةِ كلٍ من الشيخ عبد الكريم الجزائري ، والشيخ جواد الجواهري ، والشيخ مهدي الملا كاظم ، والشيخ موسى تقي ال زاير ادهام ، والشيخ إسحاق حبيب الله ،والشيخ مشكور الحولاوي والشيخ علي الحلي ، والشيخ عبد الرضا الشيخ راضي ، والشيخ احمد الملا كاظم ، والحاج عبد المحسن شلاش ، والسيد محمد علي بحر العلوم ، والسيد محمد رضا الصافي ،والسيد علي السيد حسين ، والشيخ علي المانع.
وتألفَ في كربلاء بعدَ اجتماعٍ عُقدَ في دارِ الميرزا الشيرازي في اليومِ السادسِ والعشرينَ من تموز ، مجلسان سُميَ احدهَما المجلسُ العلمي ، وكانَ أعضاؤُهُ كلٌ من : السيد هبة الدين الشهرستاني ، والميرزا احمد الخراساني ، والميرزا عبد الحسين الشيرازي ، و السيد أبو القاسم الكاشاني ، والسيد حسين القزويني ، وكانَ يُعقدُ برئاسةِ اكبرِ الأعضاءِ سناً ، ووظيفتُهُ النظرُ في القضايا المتنازعِ عليها ، وإدارةُ إعلامِ الثورة ، وتوجيهُ الأوامرِ اللازمةِ إلى المجلسِ المِلّي الذي يتكونُ من سبعةِ عَشَر عضواً من ساداتِ كربلاء ورؤساءِ العشائر ، مع وجودِ ممثلٍ للميرزا الشيرازي فيِهِ وهو الشيخ محمد حسن أبو المحاسن ، ووظائفُ المجلسِ المِلّي إداريةٌ لكربلاء وما حولها ، وتنفيذيةٌ لأوامرِ المجلسِ العلمي ، وكانَتْ الجلساتُ تُعقدُ برئاسةِ اكبرِ الأعضاءِ سِناً ، وقدْ باشرَ عملَهُ بتعيينِ موظفي البلديةِ والحراسِ والجباةِ كما شَكَلَ قوةً من الشرطةِ تَضُمُ مئةً من المُشاةِ وثلاثينَ خيالاً ، وكانَ كِلِا المجلسين يأتمرانِ بأمرِ الميرزا الشيرازي ، وقد عُينَ السيد محسن أبو طبيخ متصرفاً للواءِ كربلاء وذلكَ بعدَ وفاةِ الميرزا الشيرازي في السادسِ من تشرينِ الأول عامَ ألفٍ وتسعمئةٍ وعشرينَ للميلاد وانحلالِ المجلسِ الملي.
ويتفرعُ عن المجلسِ العلمي لجنةٌ سُميتْ بلجنةِ إرشاد ودعوات ، والتي كانَ من اختصاصِها إصدارُ المنشوراتِ والبلاغاتِ وصحافةِالثورة ، وكانَ من بينَ من حملَوا هذهِ المسؤوليةَ الشيخ محمد علي ، والشيخ محسن أبوالحب ، والشيخ باقر الحلي ، والسيد محسن أبو المحاسن ، والشيخ عبد علي الماجدي.كما وتَمَّ إنشاءُ مجلسٍ حربي أعلى لقيادةِ عملياتِ الثورةِ في الوند ، وأُختيرَ لرئاستِهِ رئيسُ الخزاعل الشيخ محمد العبطان.
وكذلكَ تَمَّ تأسيسُ مجلسٍ محلي في الديوانيةِ سُميَ بالمجلسِ الإداري البلدي مُكونٌ من ثمانيةِ أعضاء. وقُسّمتْ السماوةُ إلى قسمين شرقي وغربي كلٍ قسمٍ يُدارُ من احدِ السادةِ أو رؤساءِ العشائر. أما بقيةُ المدنِ والقصباتِ التي استولى عليها الثوارُ أو أخلاها البريطانيون من تِلقّاءِ أنفسهِم، فكانَتْ تُدارُ شؤونُها من قِبلِ العشائرِ المجاورةِ أو عَبرَ مجالسٍ محلية، وكانَ الرؤساءُ يَفصلونَ في النزاعاتِ وفقاً لأحكامِ الشريعة.
وميثاقُ المصيفي وما جاءَ فيهِ من بنود ، خيرُ دليلِ على نيةِ التنظيمِ وعدمِ الرغبةِ في الفوضى ، حيثُ جاءَ في بنودِهِ إنَّ زعماءَ العشائرَ اتفقوا على:
أولاً-المطالبةُ باستقلالِ العراقِ استقلالاً تاماً ناجزاً.
ثانياً- المحافظةُ على المؤسساتِ الحكوميةِالمفيدة:كالمستشفياتِ،والجسورِ،وغيرِها للانتفاعِ بها عندَ الحاجة.
ثالثاً-إتّباعُ ما يَأمرُ بهِ العلماءُ المجتهدون.
رابعاً-أنْ تتعهدَ كلُ قبيلةٍ بالمحافظةِعلى الطريقِ الذي يخترقُحدودَها، وأنْ تَضمنَأرواحَ المسافرينَ فيهاوأموالَهم.
خامساً- تأليفُ هيئةٍ محليةٍ في كلٍ بلدٍ يحتلَهُ الثوارُ تكونُ مهمتُها المحافظةُ علىالأمنِ والسهرِ على أرواحِالأهلين.
وقدْ أقرَتْ حكومةُ الاحتلالِ لاحقاً ، الإجراءاتَ التي اتخذَتْها هذهِ المجالسَ والهيئات ، واعتبرَتْ الرسومَ التي تَمَّ جبايتُها كما لو كانَتْ جُبيَتْ من قِبَلِ حكومةِ الاحتلالِ نفسها ، وفي هذا اعترافٌ بهذِهِ التنظيمات.
وقد ذكرَ أكثرُ من كاتبٍ ممن تحدثوا عن الثورة ، كعلي الوردي في كتابِهِ لمحاتٌ اجتماعيةٌ من تاريخِ العراقِ الحديث ، وعبد الرزاق الحسني في كتابِهِ الثورةُ العراقيةُ الكبرى ، نقلاً عن وثائقٍ وشخصياتٍ معاصرةٍ إنَّ عهدَ الثورةِ تَميَّزَ باستتبابِ الأمنِ والنظام ، فلمْ يَظهرْ في المناطقِ التي كانَتْ تحتَ سيطرةِ الثوارِ أيُ اثرٍ للغزوِ أو قطعِ الطرقِ أو المعاركِ العشائرية ، كما لمْ يَقعْ أيُ نَهْبِ لمباني الحكومةِ أو دورِ الأهالي ، وكانَتْ الأقلياتُ الدينيةِ من اليهودِ وغيرِهِم والتي تسكنُ تلكَ المناطق تَنْعُمُ بالأمنِ والرعايةِ طيلةَ أيامِ الثورة.
نتائج الثورة:
بعدَ أشهرٍ طويلةٍ من القتالِ على جبهاتٍ متعددة ، وبإمكانياتِ تسليحٍ محدودةٍ لا تُقارنْ مع ما تَمتلكَهُ سلطةُ الاحتلال ، وبعدَ وصولِ الدعمِ من جنودٍ واعتدةٍ وطائراتٍ إلى قواتِ الاحتلال ونضوبِ ما لدى الثوارُ لاعتمادِهِم على الدعمِ الداخلي فقط ، بدأتْ كفةُ قواتُ الاحتلالِ تَرجحُ تدريجياً ، فاستطاعَتْ قواتُ الاحتلالِ إخمادَ نارِ الثورةِ في ديالى وأرجعَتْ الفلوجةَ وهِيت إلى سلطتِها ، واستعدَتْ لهجومٍ كاسحٍ على مناطقِ الفراتِ الأوسط مستعينةً بالقصفِ الجوي واستطاعَتْ بعدَ معركةٍ حاميةٍ احتلالَ طويريج .
قررَتْ حكومةُ كربلاء المؤقتةِ الاستسلامَ لتجنبِ اجتياحِ المدينة ، خاصةً بعدً أنْ تَمَّ قطعُ الماءِ عن المدينة ، وحولَ ذلكَ يقولَ هالدين قائدَ القواتِ البريطانية في حينِها “لما كانَتْ كربلاءُ مسؤولةٌ إلى حدٍ غيرِ قليلٍ عن قيامِ الثورةِ فإنّي رَغِبْتُ في الاستيلاءِ على ناظمِ الحسينية الذي كانَ يَبعُدُ عن الفراتِ بمئتي ياردة ، لكي اجعلَ سكانَ البلدةِ يشعرونَ بعذابِ الحرمانِ من الماء”.وكانَ من ضِمنِ المطلوبينَ لقواتِ الاحتلالِ في كربلاء : الشيخ محمد الخالصي ، والسيد هبة الدين الشهرستاني ، والسيد محسن أبو طبيخ ، والسيد محمد الكشميري ، والسيد حسين القزويني ، والسيد أبو القاسم الكاشاني ، والميرزا احمد الخراساني ، والشيخ محمد حسن أبو المحاسن ، ومجموعةٍ من رؤساءِ العشائر.
تحركَتْ قواتُ الاحتلالِ أيضاً صوبَ سدةِ الهنديةِ فاحتلَتْها بعدَ مقاومةٍ شديدة ، ثم احتلَتْ الكِفل ،ووصلَتْ على مشارفِ الكوفةِ فأمطرَتْ طائراتُها المدينةَ بوابلٍ من القنابل.
وفي اليومِ العشرين من تشرينٍ الأول فاوضَ وفدٌ يُمثلُ مدينةَ النجفِ القواتَ البريطانية على مشارفِ المدينة ، على أنْ يُسلموا الأسرى المحتجزين لديهم و أنْ لا تدخلْ القواتُ المدينة ، وفعلاً تَمَّ تسليمُ الأسرى الذين كانوا يَحْضونَ بمعاملةٍ متميزةٍ طوالَ فترةِ الأسرِ وكانوا بكاملِ صحتِهِم عندَ التسليم. وفي اليومِ السابعِ والعشرينَ من تشرينٍ الأول ، زحفَتْ القواتُ البريطانيةُ صوبَ النجفِ وحاصرَتْها ، وأغلقَتْ أسوارَ المدينة ، ومَنعَتْ الدخولَ إليها أو الخروجَ منها إلا بجوازٍ منها ، واستمرَ الحالُ على هذا المنوالُ شهراً عانى خلالَهُ سُتونَ ألفاً من أهالي المدينةِ والزائرينَ الجوعَ والعطشَ والمرضَ فانتشرَتْ المجاعةُ وصاروا يشربونَ من الآبارِ المالحة.
وكانَ من ضِمنِ قائمةِ المطلوبينَ لقواتِ الاحتلالِ في النجفِ: الشيخ حسن نجل شيخ الشريعة ، والحاج عبد المحسن شلاش ، والشيخ جواد الجواهري ، والسيد محمد رضا الصافي ، والسيد عزيز الله وآخرين.
بعدَ ذلكَ استمرَ تقدمُ قواتِ الاحتلالِ صوبَ المناطقِ الثائرة ، وكانَتْ آخرَها السماوةُ والرميثةُ التي استسلمَتْ بعدَ مفاوضاتٍ أيضاً ، وكانَ من أهمِ مطالبِ الثوارِ في المفاوضاتِ أنْ تكونَ للعراقِ حكومةٍ عربيةٍ مستقلة.
عسكرياً لعلَهَ يمكنْ القولَ إنَّ قواتَ الاحتلالِ هي التي رَبِحَتْ المعركة ، رُغمَ الخسائرِ الكبيرةِ التي تكبدَتْها في مواجهةِ قوةٍ غيرِ نظاميةٍ مكونةً من العشائرِ ومتسلحةً بسلاحٍ بسيط ، ورُغم العداءِ الذي أظهرَهْ البريطانيون لاحقاً للشيعةِ في العراقِ ولسُكانِ مناطقِ الفراتِ الأوسط بوجهٍ خاص ، وتحركُهُم بسياسةٍ خاصةٍ كانَ لها اثرٌ سلبيٌ على العراقِ استمرَ أكثرَ من ثمانين عاماً ، ولكنَّهُ يُمكنْ القولُ أيضاً إنَّ الثورةَ نَجحَتْ : أولاً لأنْها أجبرتْ الانكليزَ على التخلي عن الكثيرِ من مخططاتِهم لتقسيمِ العراق ، وثانياً لأنها أجبرَتْهم أيضاً على إنشاءِ حكومةٍ عربيةٍ بَدَلَ الحكومةِ البريطانيةِ التي كانوا يَنْوونَ إدارةَ العراقِ أو أجزاءِهِ من خلالِها ، وثالثاً لأنَّها كانَتْ أي ثورةُ العِشرين، مصنعَ الوطنيةِ الأولَ في العراق.
ثورةٌ قادَها العلماءُ وخاضوا ميادينَها جنباً إلى جنبْ مع أبطالِ العشائر ، وسطروا من خلالِها أروعَ صورِ التلاحمِ والوعي والشعورِ بالمسؤوليةِ فما أحوجَنَا لإعادةِ قراءةِ هذا التاريخ، ليكونَ مناراً لنا ولأجيالِنا نسترشدُ به ونشعرُ بالفَخرِ والاعتزازِ عندما نُقَلِبُ صفحاتِه ، ونتعلمُ منْهُ الدروسَ والعبر.
ملاحظة: البحث كتب في الأصل كسيناريو لفلم وثائقي بنفس العنوان لصالح قناة النعيم الفضائية وتم بث الفلم الوثائقي سنة 2012 في الذكرى السنوية بالتقويم الهجري لثورة العشرين.