لم يحظَ كيان بمثل ما حظي به الحشد من دعاية وترويج وتلميع وأسطرة تجاوزت كل الحدود، حتى لقد انطبعت صورته في المخيال الشعبي بصورة خرافية تؤطرها أساطير البطولات والمواقف الاعجازية، المختلطة بالأنوار والأبخرة المقدسة!
هذه البروباغاندا المتمحورة حول الحشد كانت ضرورة ملحة جداً ليس لتأسيس زخم معنوي، أو سردية تعبوية تدفع العراقيين للخروج من دائرة اليأس التي أدخلتهم فيها أحزاب الخراب، وخلق روح مواجهة كفيلة بالقضاء على الخطر الداعشي، وإنما – وبدرجة أهم – لأن الحشد شكل الرافعة التي طالما بحثت عنها الأحزاب المهزومة الفاشلة لإعادة تدوير صورتها المقيتة، بل القفز مباشرة إلى منطقة الحلم بالسيطرة على البلاد بالنار والحديد، وهو حلم طالما اتقدت نيرانه المعذبة إبان فترة المعارضة الكسيفة، حتى اضطرته سيطرة المحتل إلى الانسحاب بعيداً في جحور الوعي، وطي ذيله ككلب ذليل.
إذن، الحشد والسردية المتمحورة حوله يشكل الإيديولوجيا (الوعي المزيف) الذي استطاع النظام القمعي المتخلف، عبر توظيفها، إدامة وجوده الثقيل، وتأجيل فكرة التغيير التي تنوس في وعي وضمير العراقيين. وهو – أي الحشد – بمثابة الاطلالة الثانية لأحزاب الخراب على المسرح السياسي العراقي، التي استطاعت من خلالها الأحزاب المشار إليها تحقيق ما أخفقت في تحقيقه في إطلالتها الأولى المحجوبة بقوة الظهور الاحتلالي.
من هنا لابد من التعاطي مع مسألة الحشد بحكمة وحصافة، لإيصال الوعي المطلوب للجماهير، الذي يفضح أكذوبة الإيديولوجيا التي يوظفها النظام، من جهة، ولإنصاف الشريحة المجتمعية المهمة التي انخرطت في الحشد وحققت الانجازات ببراءة وطنية.
وفي هذا الصدد لابد من التنبيه إلى أن ثمة صورتين، أو وجهين للحشد، إحداهما صورة الكيان الذي انبثق من رحم الشعب المنكوب ليرد الخطر الداعشي بعد أن فشل النظام الحاكم ورعاته الدينيون (المؤسسة الدينية السيستانية تحديداً) في المهمة الملقاة على عاتقهم في حفظ الوطن، واضطروا إلى الاستنجاد بالشعب، عبر آلية الفتوى، – وهي آلية مخادعة، فبدل أن يعترف النظام بفشله ويقدم على الاستقالة، لجأ إلى رعاته الدينيين لاستصدار الفتوى، التي أبعدت عنه موقف المسائلة المستحقة أمام الشعب، باعتبار أن الفتوى أخفت فكرة الاستنجاد بالشعب، وأظهرت المسألة وكأنها مبادرة شعبية قبلها النظام! – أما الصورة الثانية فهي صورة الحشد الذي يفتك بالشعب بدم بارد، ويتميز بالعمالة الواضحة لجهات أجنبية لا تهمها مصالح الشعب العراقي على الإطلاق. وهذه الصورة تفضح لحظة التكوين الهجينة والمخادعة التي انبثق عنها الحشد. فالحشد الذي كان ينبغي أن يفرز قياداته من واقعه الشعبي، بعيداً عن الأحزاب الفاسدة وشخصياتها، ليستحق صفة (الحشد الشعبي) أخفق في ذلك واستطاع النظام عبر أحزاب الفاسدة من احتوائه والسيطرة عليه ليضيف لحماً إلى لحم الأحزاب المسمومة.
التفكيك بين الصورتين يسير على مستوى المنهج والواقع الخارجي على حد سواء. فالحشد الذي يستحق التقديس هم المقاتلون الشرفاء الذين ضحوا من أجل الوطن والمقدسات، أما الحشد المدنس فهم القيادات الفاسدة التي استثمرت تضحيات الحشد الشعبي لتؤسس حشداً حزبياً لا يهمه شيء بقدر ما تهمه السيطرة على الحكم والمقدرات.
علينا إذن أن نفرق دائماً بين الحشد الشعبي الذي هو جزء من الشعب المظلوم وبين الحشد الحزبي المتسلط والدموي، وعلى الحشد الشعبي بدوره أن يعي هذه الحقيقة ويميز نفسه عن حشد الأحزاب، وإلا لا يحق له لوم من يسيء به الظن، أو ينسبه إلى الحشد الحزبي، أو حشد الأحزاب.
إن دهاقنة التضليل يسعون غاية جهدهم إلى إظهار صورة الحشد الشعبي وتمرير السردية المرتبطة به على أنها السردية الوحيدة، فيكررون مقولة إن الحشد حمى الوطن والأعراض وما إلى ذلك، ويخفون الصورة الثانية، أو الوجه الآخر، أي وجه الحشد المقنع القاتل والمختطف والمغتصب والعميل.