حياتي انشطرت قسمين مسرحي وروائي ولا أدري فيما لو سيستمر هذا أم يتوقف.
عشت أكثر من ثلاثة عقود داخل الثقافة الغربية فسأكون متحجرا لو لم أقبل حقيقة أن الهوية معطى متغير ومتطور.
حاوره : عامر القيسي
من خشبات المسرح تمثيلاً واخراجا وكتابة نصوص ،الى عالم الرواية بفسحات سردياته ، انتقل حازم كمال الدين لينقل معه هوسه بالمسرح وتقنياته الى الرواية ، حتى أصبح نصّه الروائي مميزاً بالتداخل السردي والمشهدي والسينارستي ، ليقول الناقد ياسين النصير عن روايته ” كباريهت ” هذه الرواية “لايستطيع كتابتها الا حازم كمال الدين ” ، يقول كمال الدين عن تحولاته السردية هذه “كل هذه التحولات كانت تخضع لرؤية فنية وتطور شخصي يصل في كثير من الأحيان إلى إلغاء معظم الأشياء الجوهرية التي كانت تبني النص السابق. قد تكون الولادات من أرحام النصوص بحثا عن الهوية”.
.
– ابتدأت حياتك الابداعية ممثلاً وكاتباً مسرحياً فقد كتبت مسرحية “دمية المساء” عام 1992، وأعدت كتابتها بطرائق مختلفة تحت أسماء “زرقة الرماد” 1994، “ظلال فوق الرمال” 1995، “ساعات الصفر” 1999، ثم انتقلت إلى كتابة الرواية فكانت “وداع العائلة المقدسة” 2004، “كباريهت” 2014، “مياه متصحرة” 2015، “مروج جهنم” 2019 بعد ذلك عدت لتكتب “دمية المساء” بطريقة مختلفة تحت عنوان “ذئب البوادي”.. هذه الانتقالات ،هل هي بحث عن هوية الكتابة أم عن مساحات متنوعة واكبر للتعبير والقول؟
كتبتُ مسرحية دمية المساء، وأعدت كتابتها تحت اسم زرقة الرماد ثم كتبتها مرة ثالثة ورابعة وخامسة. إذا ما قارنت ساعات الصفر مع ذئب البوادي سيستعصي العثور على الوشائج المشتركة إلا باعتبارها شذرات توقظ في الفرد “الديجا فو”، لكنه “ديجا فو” غير قائم على شكل واضح. في الأصل تتحدث دمية المساء عن رجل مخابرات عتيد، مختص بتعذيب المعتقلين السياسيين يُحال على التقاعد، فيقتله الجهاز الذي كان يخدمه، وتجري الأحداث في الفترة الواقعة ما بين مراسيم دفنه ومجيء الملائكة لتحاسبه على خطاياه، وهي فترة تظهر فيها جنيةً كانت عشيقة له وملاكا حارسا. ولأنه ارتكب ما لا يحصى من الجرائم في حياته تنتزعه الجنية من القبر وتنكبُّ على ممارسة طقوس تعيده إلى الحياة. فالعودة للحياة هي الطريقة الوحيدة لإنقاذه من عذاب الآخرة.
المسرحية مؤلفة من مشاهد ميثولوجية وأخرى واقعية تتناول تحديدا ثيمة الدكتاتور. ولأني لم أتخلّص من هاجس الدكتاتور مازلتُ أبتكر الحلول تلو الحلول لمعالجة نفسي من هذا المرض. أحد هذه الحلول هو إلقاء القبض عليه وتكبيله داخل التدوين الورقي أو على خشبة المسرح.
بهذا المعنى فإن إعادة كتابة هذه المسرحية هي مخاضات متعددة ثيمتها الدكتاتور وأرضها تاريخ العراق من عهد صدام حسين حتى اليوم. والإعادات لم تكن في الواقع إعادات، بل نصوصا جديدة تولد من أرحام بعضها البعض.
أوّل إخراج لمسرحية دمية المساء كان للفرقة البلجيكية (الكوميديا السوداء) 1993، ولعب الدور فيها توني برولان الذي علّمني التخلي عن قداسة المؤلف، وأن النص يُلاك من جديد لكي يصبح قابلا للنطق على لسان الممثل.
في الأسفار عملت على تشظية النص تناسبا مع إلغاء وجود صدام حسين وتشظيته وتحويله إلى ألف صدّام بالأشكال التي رأيناها ونراها في العراق. فكل حاكم في العراق هو نسخة مصغرة عن صدام أو شظية منه سواء كان هذا شيعيا أم سنيا، كرديا أو عربيا، إسلاميا أو من دين آخر… في ذئب البوادي قلت لنفسي إننا نحن الذين نصنع الدكتاتور ثم نبكي وننوح باعتبارنا ضحايا، الأمر الذي أدخلني في العلاقة مع البوتو “رقص الظلمات” وتحويل البوتو من موضوع جسدي إلى موضوع لغوي بصري.
كل هذه التحولات كانت تخضع لرؤية فنية وتطور شخصي يصل في كثير من الأحيان إلى إلغاء معظم الأشياء الجوهرية التي كانت تبني النص السابق. قد تكون الولادات من أرحام النصوص بحثا عن الهوية.
فيما يخص كتابة الرواية والقصة، فأظنّ أنك تتذكر بأنّ السرد لم يكن طارئا على حياتي الإبداعية، فقد كنت أكتب من أيام كنا صغارا، ونشرت عشرات القصص في المجلات العراقية والفلسطينية والعربية إبان وجودنا في بيروت ومن بعدها في دمشق. أظنّ أنّ كتابتي للرواية هي تطور طبيعي. فحين تشتغل في الإخراج المسرحي والتأليف لثلاثين عاما وأنت تمتلك أدوات السرد سيكون طبيعيا أن تنبثق لحظة تجد فيها أن المعمار المسرحي يمكن أن يتلاقح مع المعمار السردي ليصبح روائيا.
أيام التحضيرات لغزو العراق عام 2002 كنت أعي تماما ضرورة إسقاط صدام حسين، وكنت أعي أيضا أن ما سيعقب إسقاط صدام حسين هو تدمير العراق، فليس في وارد أفكار الأمريكي أن يبني حضارة عراقية وليس في وارد أحزاب ترعرت مع أهل الكهف أن تتماشى مع الزمن، أقصد طبعا الأحزاب الأصولية بشقّيها الطائفي والقومي.
هذا الوعي الواضح أراني بأنّ العراق ستتحطم عظامه في حرب بين دكتاتورين: صدام حسين وجورج دبليو بوش، وجعلني أعي أن هذين البلطجيين قد يتعاركان وقودهما أهل العراق ما جعلني أنتج يومها مسرحية العدادة، كما جعلني أعي بأنني غير قادر على اتخاذ موقف أصطفّ من خلاله إلى جانب أي منهما، وأن خياري الصائب الوحيد هو (اللا خيار!)، أو الندب على العراق كالعدادات.
اللا خيار ضربني في ظهري ضربة قاصمة فانزلق الغضروف ما بين الفقرتين الرابعة والخامسة أسفل الظهر، مما استدعى بقائي في المستشفى لأسابيع. تلك الحالة المرضية أجبرتني على التوقف عن العمل في المسرح ما دفع صديقتي أن تجلب لي لابتوب (أتونس بيه). ذلك الأنيس صار هوسا. وصرت أكتب ما يرد في خاطري ولا أتوقف إلا عند توقف المسكّنات. وبعد أن أمسكت بخيوط ما حفظته في الكومبيوتر تعقّدتْ الخيوط وتشابكت وفقدت سيطرتي عليها، الأمر الذي أجبرني أن أرسم خرائط وأقواسا وتشابكات من نوع لا مسرحي.
ولأنني لم أكن أريد أن أكون روائيا صرت أركز في الكتابة على الجانب المسرحي للنص. لكن للنص حياة خاصة خارجة عن إرادة المؤلف، وهذا ما جعله يخرج عن سيطرتي وسيطرة أدواتي المسرحية ويأخذ مسارا سرديا احتل موقع القيادة فصرت أداة بيد المسار، على الرغم من أنني كنت أقاوم للحفاظ على المسار المسرحي. ولمقاومة فشلي والإيغال في التأكيد على المسار المسرحي واستعصاء عودتي يومها للمسرح شرعتُ أستخدم الكثير مما لم يتحقق في أعمالي المسرحية السابقة: ثيمات لم تجد طريقها إلى هذا العرض المسرحي أو ذاك. حوارات ما وراء الكواليس؟
ليس الدفاع عن هويتي المسرحية فقط هو من جعل نصوصي تبتعد عن الهياكل المعروفة للبناء الروائي والدرامي، فبمناسبة ما كان يحدث في بلاد الرافدين كفّ كل ما أكتب وأنتج عن الالتزام بمواصفات نوع أدبي أو جنس فنّي وتخلّى عن القوانين والأعراف. السبب هو اختلال قناعتي بأن ما أنتجته البشرية من وسائل وأساليب تعبيرية هي أدوات إنسانية أو بريئة أو غير شرّيرة!.. إنّ أيام المواطن العراقي (كانت) تختبر يوميا لا إنسانية القوانين والأعراف والتقاليد والرؤى وتكشف لنا أنّ “الإنسانية” هي “إنسانية” غير مشرّفة.
تفهمني؟
أنا لم أتوقف عن المسرح لكي أعود إليه. ففي السنوات المنصرمة أنتجت الكثير من النصوص المسرحية والبحوث وقمت بقيادة الكثير من الورشات المسرحية في المنطقة العربية وخارجها، ومن ذلك على سبيل المثال مسرحية السادرون في الجنون الفائزة بجائزة أفضل تأليف مسرحي للكبار في مسابقة الهيئة العربية للمسرح 2015 وكتابي البحثي المسرحي بيت القصب عام 2015 وورشات التأليف المسرحي في قطر وبلجيكا 2017 والتمثيل في تونس 2018 وممارستي المنتظمة للتدريس المسرحي في بلجيكا في شؤون التأليف لمسرح ما بعد الدراما. ما حدث ويحدث لي هو أن حياتي انشطرت قسمين مسرحي وروائي ولا أدري فيما لو سيستمر هذا أم يتوقف.
– كان لرواية ” مياه متصحرة ” حكاية مع النشر عام 2013 وقيل انك ساومت الناشر بعد اعتراضات رقابية رسمية، وكان الناشر يطالبك بالمزيد من التنازلات حتى قلت “وبعد إجراء المزيد من التعديلات وإرسال النص إلى الناشر، بقيتْ مراسلاتي الإلكترونية له وتلفوناتي بلا جواب، إبان ذلك الصمت كنتُ أستسلم لغواية عقلي الإخراجي الدراماتورغي. وكان من نتائج استسلامي أنّي أحلتُ النص أكواما من «الخردة»، أو مواد دراماتورغية أوليّة هدفها التحضير لعرض مسرحي” ممكن توضيح ذلك للقراء؟
في الأوّل من أيار 2013 قدّمتُ رواية قديمة إلى إحدى دور النشر، فوافقتْ لكنّ رقيب تلك البلاد تعرّض لها، فطلب مني الناشر إجراء تعديلات على المقاس. بعد أن أجريتُ “مساومة” التعديل تعرّضتْ الرواية لتغييرات كثيرة. وحين بعثتُها للناشر طلب منه الرقيب تعديل المزيد. بعد إجراء المزيد من التعديلات وإرسالها للناشر، بقي إيميلي الأخير في 9 شباط 2014 وتلفوناتي بلا جواب.
إبان ذلك الصمت كان الإحباط يدفعني للاستسلام لغواية عقلي الإخراجي الدراماتورغي بالفعل. وكان من نتائج الاستسلام أنّي أحلتُ الرواية القديمة أكواما من “الخردة”، قلتُ إنها مواد دراماتورغية أوليّة تخدمني في التحضير لإنتاج مسرحي شخصيته المحورية ممثلة عراقية يسارية يتساقط شعرها بسبب مرض الغدة الدرقية فتُرغم نفسها على ارتداء غطاء رأس. أخضعتُ تلك “الخردة” لعملية توليف تستفيد من تقنياتي المسرحية في الارتجال المؤدي إلى ظهور بناء مشهد وهي تقنية تعتمد التفكيك وإعادة التركيب في سياقات مختلفة تخرج النص الأصلي من إطاره الزماني والمكاني والثيموي والأسلوبي ليصبح شيئا آخر إبان إعادة التركيب.
اعتمادا على آليات الدراماتورغي وأساليب تحوّل النص المسرحي الخام من المستوى اللغوي إلى المستوى البصري الشبيه بتحول دودة القز إلى فراشة تأسستْ سياقات جديدة وثيمات ومعالجات. طفقتُ أكتب بصوت الممثلة الصلعاء، وأضفتُ لها تأويلات تجريدية وطقوسية وماكيتات سينوغرافية، وصرتُ أجابه السرد بالفعل المسرحي الحيوي، فاكتشفتُ ذات أسبوع أن حالة كتابتي إنما هي (بروفة مسرحية متقدمة تحتاج أن أضعها في فضاء للعرض). كنت أعي بأنّني مشغول بتحوّل كيمياوي لكنّي لم أكن أعرف أنّي أكتب نصّا روائيا جديدا .
أثناء تركي العمل وصلني خبر إصابة صديقي التاريخي الفنان التشكيلي والشاعر العراقي محمد سيد جبار بجلطة دماغية. ذهبتُ لزيارته في غرفة العناية الفائقة ولم أصدق الطبيب حين أخبرني بأنه ميت سريريا. فجر اليوم التالي حين قرّر الطبيب رفع أجهزة التنفس الاصطناعي عنه ذهبت إلى غرفة في مستودع الموتى وألقيت عليه النظرة الأخيرة. كان محمد ممدّدا مغمض العينين وكأنه عازفٌ عن فتحهما غضبا مني. تلك الصورة خلّفتْ فيّ إحساسا غامضا بالذنب وحلّ هاجس الموت بديلا عن الطعام والشراب والقراءة والتمارين المسرحية والكتابة.
لم أكن خائفا من الموت. كنت مشغولا فقط بقضايا عملية تخص ما بعد موتي، كمثل ماذا ستفعل ابنتي الصغرى إذا استيقظت صباحا ووجدتني فاقدا للحياة. أو ما هو مصير البيت الذي أملكه وكيف سيتم توزيع الميراث بين أبنائي المولودين من أكثر من امرأة. ما هو مصير مخطوطاتي الكثيرة الموزعة بين الكومبيوتر والصناديق؟ من يحمي أرشيف الفيديو لأعمالي المسرحية التي أعتبرها أهم من النصوص المدوّنة؟
طلبتُ من الجيران أن يطرقوا بابي إذا لم يشاهدوني ليومين، وكان سبب ذلك خوفي أن تنبعث رائحة جثتي الميتة وتقضّ مضاجعهم. طلبت من أحد أصدقائي أن يتصل بي كل صباح للتأكد أني مازلت على قيد الحياة. طبعتُ نسخا كثيرة من مفتاح بيتي ووزّعتها.
من حزيران 2014 حتى بداية كانون الثاني من عام 2015 كنتُ أحيا ميّتا. كلما وضعت رأسي على الوسادة قلتُ بأنني “لن أستيقظ غدا”!
هاجس أنني “لن أستيقظ غدا”، وهاجس الإحساس غير المفهوم بالذنب تجاه صديقي جعلاني ذات منتصف ليل أغادر موتي الحيّ في السرير وأجابه من جديد أوصال ذلك المشروع الذي أشعرني وكأنني أجمع أشلاءً بشرية وألصقها ببعضها البعض كالكولاج.
ألغيت فكرة الممثلة الصلعاء ووضعت بدلا عنها غرفة الإنعاش وتركتُ الشخصية الروائية الرئيسية تموت بقصف عشوائي أمريكي أو بسيف مجاهد سلفيّ جزّ رأسها وراح يصلي.
غيّرتُ الشخصية الروائية ألف مرة ولم أكن راضيا، حتى قررتُ ذات لحظة (لا أمل) أن أقدم على عملية مازوخية: أن أحوّل بطل الرواية الميت إلى حازم كمال الدين. أن أتحدث عن واقعة موتي، فصرت بطل الرواية الميت الذي يرى أشلاءه تتناثر أو رأسه يتدحرج بعيدا عن جسده.
– – في رواياتك يحل هاجس الموت بديلا عن تفاصيل الحياة. هل انت خائف من الموت الى هذه الدرجة، لماذا هذا الهاجس، هل هو بسبب محطات الموت التي عشتها داخل وخارج الوطن؟
لست خائفا من الموت صديقي. من كثرة الموت الذي مرّ بالعراقيين، وأنا أحدهم، لم أعد أحفل بالموت
الموت أصبح موضوعا أدبيا وفنيا ولم يعد موضوعا وجوديا!!
– لو كنت داخل العراق هل كنت تستطيع الكتابة بنفس محتوى واسلوب ما اصدرته من نصوص ؟
لو كنت بقيت في العراق لكان (أخي صدام حسين!) قد قطع رأسي، لأن رأسي أينع وحان قطافه، أو لكان أجبرني أن أصبح فنانا، كاتبا، كما يريد هو، أو لكان رمى بي في أتون زنازينه وحروبه ولم أخرج من هناك إلا كما خرج أبناء جيلنا من تلك الحقبة الحالكة الظلام .في المنفى البارد، الجحيم الحالك البياض، تعلمت ما منعه صدام حسين على أبناء جيلي في العراق: تعلمت أن أفكر بحرية بدون رقيب، أن أساءل كل التابوهات. ومن خلال تعلم لغات وأخلاق أخرى صرتُ أنظر للغة العربية بطريقة تجرّدها من القداسة والتكلّس وأصبحت أنظر للأخلاق خارج ذلك القاموس العقيم الذي فرضته علينا السلطات بشتى مسميّاتها.
– غالباً ما تكون حاضراً كبطل لرواياتك وتحاول ان تختفي خلف شخصيات من نوع آخر ولكنك في النهاية تعترف ” قررتُ ذات لحظة لا أمل أن أحوّل بطل الرواية (مياه متصحرة) الميت إلى حازم كمال الدين. هل تحاول ان تنتصر على البطل الآخر الموجود في الرواية؟
بعد أكثر من أربعين سنة في العمل في المسرح تعلمت شيئا مهما، قد يبدو بسيطا للآخرين من الوهلة الأولى: أسوأ الممثلين هو ذلك الذي يلعب شخصيات أخرى على المسرح ولا يكون هو نفسه. هذا الذي تعلمته غدوت أطبّقه في المسرح وفي أعمالي الإبداعية. لقد تعلمت أيضا قضية مهمة وهي أن اقتباس/إعادة كتابة هموم الناس ووضع اسم المؤلف عليها هو شكل من أشكال السرقة الأدبية. تصوّر أن جارتي مرّت بها كارثة استثنائية. حكت موضوعها المروّع لي لأنها تعتقد أن موضوعها يصلح للمسرح أو السينما أو السرد، فما كان من حضرة جنابي إلا أن كتبت تلك القصة ووضعت اسمي عليها!
من هو المؤلف الحقيقي؟ ما الفرق بين هذا ومن يقتبس/يسرق/ينتحل أحد الأعمال الأدبية المكتوبة؟ نحن نتهم الكاتب بالانتحال لأنه سرق من زميل له، وفي نفس الوقت نعتبر (سرقتنا) لآلام الناس عملا مشرّفا!
– هل تعيد قراءة مخطوطاتك بعين الناقد او القارىء المثقف، فانت حسب معرفتي بك، كثير التغيير في النصوص، وتستجيب للملاحظات قبل النشر؟
نعم، أعيد قراءة مخطوطاتي عشرات المرات أولا بعين القاريء العادي ثم بعين الناقد. لكني لا أفعل ذلك بعين القارئ المثقف. وبسبب خبرات المسرح، التمثيل تحديدا، علّمتُ نفسي نسيان ما أكتب وإعادة القراءة وكأني أقرأ المخطوطة للمرة الأولى بعيدا عن الأحكام السبقية. عملية النسيان تمنحني قدرة ممتازة على نقد ما أكتب.
أنا أكتب على الكومبيوتر، من عام 1996، وهذه الطريقة في الكتابة تساعدني أيضا على النسيان. الحروف تتشابه على شاشة الكومبيوتر وليس كما هو الحال في الكتابة على الورق. فحين كنت أكتب على الورق كانت تصعد خطوط الكتابة وتنزل، وكنت أشخط على كلمة ثم أكتب غيرها، وأجرّ سهما هنا وسهما هناك. كل هذه الإشارات كانت تعضّد الذاكرة الانفعالية وتضعني في لحظة الكتابة الأولى التي أعتبر التصحيح فيها شيئا شبيها بالخيانة للحظة الإبداع. مرض قديم أسعى دائما للشفاء منه.
على صعيد استجابتي للقراء فأنا أبعث المخطوطة بعد أن أنجزها وأظن أنها أصبحت صالحة للقراءة للعديد من الصديقات والأصدقاء، المتخصصين وغير المتخصصين، ومن مختلف الأعمار والخلفيات الثقافية، هدفي هو الاستفادة من أي ملاحظة. إنني أستفيد من ملاحظات القراء غير المتخصصين أكثر من ملاحظات القراء المتخصصين. القاريء الآخر مشغول في تفاعله الشخصي مع النص وإلى أي درجة سيمسك به النص.
– كتبت انا عن روايتك (مروج جهنم ) واعتبرتها مغامرة سردية من فضاءات جسد المسرح الى متاهات الرواية على إيقاعات التمارين المسرحية التجريدية في إطار طقوس تخيّلية ناجمة عن اجواء الحرب والارهاب والعنف. الى أي مدى تعتبر هذا التصنيف متحايثا مع الرواية؟
كان رأيك مصيبا فيما كتبت صديقي.
– يلحظ القارىء لرواياتك انشغالاً بالحروب والمرأة والعلاقات الجنسية الشاذة وتحقير السلطة والمؤسسة الدينية، أي انك اقتحمت تابوات الدين والسلطة والجنس، بسرديات متوحشة الى حد ما. هل هذا التقييم منصف لخطابك الروائي؟
هدا تقييم منصف صديقي.
– انت تكتب عن الحرب لكننا لا نراها كجبهات وخنادق ورصاص؟
بدأت طريقة الحديث عن الشيء من خلال اللا حديث عنه نتيجة حدث مرّ بي في إحدى ساحات الحروب. تلك كانت حربا على مدينة بين جيش نظامي وشعب مدني. أتذكر أحد أصدقائي، فنان مسرحي، وقد تناول ما لا نهاية له من الحشيشة. صعد إلى أعلى مبنى في المدينة وارتقى السياج النحيف. كانت زلّة قدم واحدة كفيلة بأن يسقط ويغدو حطاما. ورغم ذلك رأيناه يذرع السياج ذهابا وإيابا وكأنه يتمشى في حديقة عامرة. وبينما هو على ذلك الحال سمعناه يغني واحدة من أكثر الأغاني رقة. إبان تلك اللحظات كان دخان الحرب يهيمن على السماء كأنه غيوم ثقيلة تستعد لأن تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال وأصوات الطيران الحربي تجوب السماء كأنها رعود وصفتها قصائد بدر شاكر السياب. صديقي المتنزه على أعلى سياج في ذلك الغروب الحربي كان مبتعدا عن منظومة الدم والأوصال المقطعة والخنادق والرصاص ومنظومة الخطر الداهم متنائيا عن سبابنا عليه واتهامنا له بالجنون واستحالة سماعه لما نقول. هذه الصورة لا تكتسب قيمتها الفريدة إلا بمعرفة أنّ هذا يحدث في قلب المعركة.
يا أخي تعبنا من الحديث عن القتال والدماء ونواح الثكلى. السخرية الشديدة عندي وتنويعاتها أضحت أقوى. ما أرى أنه ناجع في انتزاعنا من الشعور بيومية وعادية ممارسة الحروب والدمار هو إيقاظ الشعور بالذنب داخلنا، توريط أنفسنا إلى درجة الإمساك بها متلبّسة بمتعة ما يحدث من ممارسات، بإدراك أنّنا متورطون بالشعور بيومية ما يحدث لا استثنائيته، باكتشاف أننا نحن من يخلق الشر دون أن نعي ذلك.
– تقول انك تريد ان تكون لنفسك وليس لتيار محدد وانت تحافظ على طقوسك الاسلامية والآشورية والبابلية، كيف يمكن الجمع بين هذه الطقوس المتباعدة تأريخياً والمختلفة الخطاب الثقافي والحضاري. اليس هذا تناقضاً ام تعتبره تكاملاً؟
أنا لا أرى في هذا تناقضا.. كل الميثولوجيا لها أصول واحدة هي طفولة العقل البشري، وأنا أتناول بطرق نقدية تلك الأصول ثم تفاصيلها وتفاريعها. خذ على سبيل المثال حكايات الهبوط إلى العالم السفلي. إنّ مقاربات الهبوط إلى العالم السفلي متنوعة لكنها متشابهة. ففي الأديان يصبح اسمه الجحيم وعمليات توصيفه تتشابه كثيرا مع العالم السفلي في الميثولوجيات المختلفة. في الأصل لدي صفة جوهرية اسمها التمرد على التابع والتخندق في المستقل.
الإحساس المبكر بالرغبة في الانعتاق من الأغلال لازمني حتى أصبح تمردا على الأشكال والقوانين السائدة، حجتي في ذلك أمام نفسي هي أن كل القوانين وضعتها قوى متسلطة معينة أو قوى منتصرة فرضت شروطها على الواقع.
عودة إلى الشق الأول من السؤال “انك تريد ان تكون لنفسك” أنا لا أؤمن بالتيارات الأدبية أو الفنية. فالتيارات كلها انعكاس لعلاقات اقتصادية تمت ترجمتها ضمن أشكال متنوعة من الأجناس وهي في الأصل في خدمة هذه السلطة أو بالضد من تلك.
– ما تأثير الثقافة الغربية وخطابها على سردياتك الروائية، هل بقيت تبحث وتحفر بأزميل خارج هذه الثقافة وانت في حاضنتها، اقصد وانت تعيش كل تفاصيلها في غربتك؟
أنا أعيش في بلجيكا الأوربية من عام 1982. في البدء كنت متمردا على الثقافة الأوربية مدافعا عن الأصالة. وكان تمردي راديكاليا دفعني للعودة إلى الطقوس الإسلامية وغيرها، كوسيلة دفاع عن الهوية بالضد من القمع اللا محدود الذي تمارسه الحضارة الغربية على من لا يغيّر جلده وينتمي للحضارة الغربية. الآن مازلت مدافعا عن الأصالة وعن الهوية، ولأني عشتُ نصف عمري تقريبا، 32 سنة، داخل الثقافة الغربية فسأكون متحجرا لو لم أقبل حقيقة أن الهوية معطى متغير ومتطور.
– ماهي مرموزية عودتك الى عام 1833 سنة صدور قانون الغاء العبودية في بريطانيا بروايتك ” مروج جهنم “.
الرمز المهم هو تاريخ نشر قصة ادغار ألان بو (مخطوطة في زجاجة) التي أصبحت تقنية سردية مازال يلوكها كتاب القصة والرواية بلا توقف! في نفس الوقت توجد إحالة ثانية وهي أن الرواية تتحدث عن عبودية قائمة في أيامنا رغم أنّ قانون إلغاء العبودية قد أعلن عام 1833.
– قال احد النقاد عن هذه الرواية “هي مزيج من السرد، والشعر، وتداخل الأحداث بحيث بإمكانك أن تحذف سطورا ومقاطعا، ومع ذلك لا يحدث خلل كبير في موضوع الرواية”.. كيف يمكن ان يكون هذا في رواية هي جسد واحد؟ كيف يمكن اقتطاع جزءً منها ومع ذلك يبقى الجسد الروائي كما هو؟
تختلف آراء النقاد. بعضهم يقولون إني أكتب بطريقة مكثفة تجعل من القراءة عملية تركيز متواصلة تؤثر على متعة القراءة، وبعضهم الآخر يرى ما طرحته في سؤالك. رأيان متناقضان. لكن هذا التناقض شئ صحي. المطلوب من النص أن يصبح حكاية القارئ لا تسلّط المؤلف.
– ماهي طقوس الكتابة لديك؟
عندما أكون روائيا أستيقظ صباحا. أشرب القهوة وأترك نفسي تضيع في النص. أقرأ المخطوطة وكأنها ليست لي. أحذف، أغير، أمزق، فجأة تطفر فكرة هنا فتأخذني لتخطيط معين أو لكتابة مقطع أو لإعادة فصل. لدي شعور دائم بأني أشبه المصلّح ولا أشبه الخالق. عملية الخلق تحدث ذات لحظة مفاجئة تليها عمليات إعادة وإعادة وإعادة. أصعب شيء لديّ هو العثور على عنوان مناسب للنص، ولحظة القرار بأن النص أصبح جاهزا للطباعة. كثيرا ما يساورني الوهم بأنّ النص أصبح جاهزا وأبعثه للناشر، ولكن قبل أن يبدي الناشر رأيه أكون قد قرأته من جديد وأعملت يدي فيه تصليحا وتنظيفا. بل حتى بعد النشر يحدث أن أعيد كتابة ما نُشر لأني أشعر بأنه غير مكتمل.