في ذلك الصباح الحزين، لم يدرك المعتصمون المرابطون على جسر الزيتون في الناصرية، ان شبح الموت يعتزم ان يباغتهم فجأة بأدواته القمعية ،كان يحمل أوامر صارمة هي فض الاعتصام السلمي بالقوة، الساعة الموعودة كانت نذير مؤشر الخطر المحدق بأولئك
الضحايا،الذين كانوا يعزفون الجيتار وينشدون الأناشيد الوطنية، بعد يوم طويل من موجة التظاهرات، فيما كان شبح الموت ينظر الى الدقائق الاخيرة من ساعته المشؤومة وهي بدأت تشير الى الساعة صفر (٣٠٠)من تنفيذ مجزرته القادمة ،
المشهد مفجعاً، كئيباً، اشبه بساحة حرب عظيمة سحب الدخان، والغبار حجبت اضواء السماء، الهواء مشبع برائحة الموت وعبق الشهادة ورائحة البارود والقنابل الدخانية ، كل شيء يتأوّه، يصرخ، المدينة تمطر أحزانها، مع بزوغ فجر مدينة الناصرية الدامي وإشراقة شمس
صباح ذاك اليوم الكئيب،
أصاب الناس الذعر، الخوف ملأ الوجوه، صراخ الصبيان المتشبثين على الجسور بكل ارادة وصلابة، لم تكن إلا ثوانٍ، حيث أطلقت قوات الغرباء قنابلها ورصاصها من كافة الاسلحة، تلتها أصوات انفجارات هزّت الأرض من تحتهم، شعر احد الصبيان اليتامى الذي
استشهد ابيه في معارك تحرير الموصل الاخيرة، بأول رصاصة اخترقت جسده، حجارة وأشياء كثيرة مبعثرة سقطت فوقه، انتابه شعور بأنه فارق الحياةّ، صور مبهمة تعبر شريط ذاكرته، مخلوقات نورانية بأثواب بيضاء، ملطّخة بالحمرة تعرج إلى السّماء، لكن جسده
المضطرج بالدماء وقدميه الهزيلتين، حالت دون اللحاق بهم، اختفت القناديل من السّماء، تحوّلت إلى بقع بيضاء، ترسم لوحة معركة الطف، وانبهرت عينيه اذ يرى الحسين يمد يده نحوه، _ويقول له: أنهض ايها الفتى الناصر ويحمله بين ذراعيه كعبدالله الرضيع، كان
يسمع ضجيج، وعويل من حوله، صرخات الشهداء الاخيرة تدفعه للوقوف على قدميه ، استعاد وعيه اخيرا أدرك حينها أنه ما زال على قيد الحياة، ورفاقه يجروه لاخلاءه بعيدا عن ساحة المجزرة ، حاول أن يقف، استجمع قواه استذكر شعاره في ذاكرته المشوشة من أزيز
الرصاص الذي كان يحمله بالأمس القريب” اريد وطن ” تحلى بالشجاعة ووقف على قدميه،وجراحه تنزف من الوريد، كانت سحب الدخان تغطي السّماء، امتلأت الأرض بالجثث من حوله، وبدأت الناس تهرع لنجدتهم كالفراش المذعور،افترش الأرض مجددا كي يسمع
نبضات الأرض المتسارعة، وصراخ الثكالى وأنين الجرحى، فافترش بذراعيه تراب الارض وهو يهمس لها ويقبلها “بالروح بالدم نفديك ياعراق” فغادرت روحه تعانق كبد السماء.