خاص : كتبت – نشوى الحفني :
رغم النفي الدائم من جانب الحكومة التركية بأن السبب وراء انتشار حالات الانتحار الجماعية وارتفاعها في الآونة الأخيرة يرجع إلى الأزمة الاقتصادية، إلا أن وزير البيئة والتخطيط العمراني التركي، “مراد كوروم”، أكد إنهم يدرسون حظر مادة “السيانيد” السامة، بعدما باتت مسؤولة عن عدة وقائع انتحار في الفترة الأخيرة.
وقال: “نقوم حاليًا بإجراء تعديلات تشريعية لحظر بيع المنتجات التي تحتوي على مادة (السيانيد) في السوق وعبر الإنترنت”.
“كوروم” أوضح أنه يجري العمل حاليًا مع الوزارات والهيئات المعنية في الدولة، من أجل وقف حوادث الانتحار عبر مادة “السيانيد” السامة.
تصريحات وزير البيئة والتخطيط العمراني، “مراد كوروم”، جاءت بعد وقائع الانتحار الجماعي المتتالية في الأيام الأخيرة باستخدام مادة “السيانيد” السامة.
وأوضح “كوروم” أن التعديلات التشريعية، التي يجري العمل عليها حاليًا، تهدف إلى منع استخدام المواد التي تحتوي على مادة “السيانيد” السامة، ومراقبة بيعها في الأسواق، وحظر بيعها.
وقال “كوروم”: “لذلك نحن نتجه إلى إجراء تعديلات على التشريعات الخاصة بالمواد الكيميائية. نقوم حاليًا بإجراء تعديلات تشريعية لحظر بيع المنتجات التي تحتوي على مادة (السيانيد) في السوق وعبر الإنترنت. تم وضع المواد التي تحتوي على (السيانيد) في قائمة الحظر الخاصة بتصنيع المواد والتركبيات والأشياء ذات الأضرار الواضحة، وعرضها في السوق واستخدامها. وقد تم تقديمها لرئيس الجمهورية للحصول على الموافقة من أجل نشرها في الجريدة الرسمية”.
انتحار ثلاث أسر في 10 أيام فقط..
ويشتبه في التسمم بـ”السيانيد” في 3 حالات منفصلة لانتحار أسر في “تركيا” شهدت وفاة 11 شخصًا على مدار 10 أيام. وتفيد تقارير بأن الانتحار في الحالات الثلاث بسبب المشاكل الاقتصادية.
وفي 15 تشرين ثان/نوفمبر الجاري، أقدم أب في “إسطنبول”، تردد أنه مدين بمبالغ طائلة، على تسميم زوجته وابنه، البالغ من العمر 6 أعوام، بـ”السيانيد”، وفقًا للوكالة التركية.
وقبلها بأسبوع؛ عُثر على أسرة من 4 أفراد موتى بسبب تسمم بـ”السيانيد” في “أنطاليا”.
وترك الأب رسالة شرح فيها أنه بلا وظيفة منذ 9 أشهر، وعجزه عن الاستمرار على هذا الحال.
وعثر على شقيقتين وشقيقين موتى، في 6 تشرين ثان/نوفمبر الجاري، في شقتهم بـ”إسطنبول” بسبب تسمم بـ”السيانيد”. وكان الأربعة يعانون من مشاكل مالية.
وأوضح “معهد الإحصاء التركي”، في الأسبوع الماضي، أن حوالي مليون تركي فقدوا وظائفهم، بين آب/أغسطس 2018 وآب/أغسطس 2019.
انتحار 9 حالات يوميًا..
وبحسب بيانات؛ انتحر 3 آلاف و161 شخصًا، في 2018، أي ما يعادل انتحار 9 أشخاص في اليوم.
ووفقًا للبيانات الرسمية لـ”معهد الإحصاء التركي”؛ التي نشرها موقع (تركيا الآن)، فإن عدد حالات الانتحار في 2002، هو 2301، وفي 2003 بلغ 2707، واستمر عدد حالات الانتحار على هذا المنوال، وكانت أعلى نسبة انتحار في 2012 بلغت 3287، بينما كانت في 2011، 2677.
وارتفعت في غضون عام بنسبة 23%، وفي 2013 كانت 3252، وفي 2014 وصلت إلى 3169، وفي 2015 بلغت 3246، وفي 2016 أصبحت 3193، وفي 2017 تخطت 3168، و2018 سجلت 3161، وهذا ما يعادل انتحار 9 أشخاص في اليوم، وحالة انتحار واحدة كل 166 دقيقة.
وبالنظر إلى سبب حالات الانتحار، وجد أن نسبة كبيرة منها غير معروف، حيث أن هناك 1155 من 3161 منتحرًا، في 2018؛ أي ما يعادل 37% غير معروف السبب، وذلك وفقًا لبيانات “معهد الإحصاء التركي”، وذكرت البيانات أن 27% منهم انتحروا لأسباب أخرى، إلا أن هذا لم يتضمن ما هي الأسباب الأخرى، و21% من الحالات المعروف سببها كانت بسبب المرض، وبلغ عدد الأشخاص الذين انتحروا بسبب “صعوبة المعيشة”، 246 شخصًا، أي ما يعادل نسبة 8%.
الأزمة الاقتصادية هي السبب..
ويتم الحديث بإسهاب في وسائل الإعلام التركية والمواقع الاجتماعية عن سلسلة الانتحارات ـ وحتى نظريات المؤامرة تروج. والمثير للجدل هي العلاقة القائمة بين الأزمة الاقتصادية في “تركيا” وعمليات الانتحار. البطالة وإنهيار “الليرة” التركية ساهما في انتشار جو من اليأس، كما يفيد انتقاد المعارضة.
رئيس أكبر حزب معارض، “حزب الشعب الجمهوري”، “كمال كيليتشدار أوغلو”، أثار في كلمته الحالات المسجلة: “لماذا حصل هذا ؟.. فبالقرب من حاويات النفايات نرى نسوة يبحثن في القمامة عن الأكل. نحن بحاجة إلى دولة اجتماعية. نحن نحتاج إلى مزيد من الإستدامة”.
وقالت المعارضة التركية، “غامزي أكوش إيغازدي”، في تقرير لها؛ إن 223 تركيًا انتحروا بسبب الصعوبات الاقتصادية، في عام 2017، وهذا الرقم جاء قبل تفاقم مشاكل “تركيا” الاقتصادية، مثل إنهيار قيمة “الليرة” إثر “العقوبات الأميركية”.
ومن ناحيتها؛ كتبت القيادية البارزة في “حزب الشعب الجمهوري” المعارض، “جنان كفتانغي أوغلو”، تعليقًا على حوادث الانتحار: “إن الصدمة الاجتماعية بسبب الشعور بغياب المستقبل والأمن؛ وصل إلى مستويات لا تُطاق”.
وقوع أكثر من 47 ألف حادث انتحار في عهد “العدالة والتنمية”..
من جهته؛ كشف “حزب العمال” أن 47 ألف و537 واقعة انتحار حدثت في عهد “حزب العدالة والتنمية”.
وقالت أمانة “حزب العمال”، بمدينة “إسطنبول”، في بيان من ميدان “ميناء كاديكوي”، بمدينة “إسطنبول”؛ إن المواطنين يلجأون إلى الانتحار بسبب الأزمة الاقتصادية.
وألقت البيان رئيسة شعبة الحزب بمدينة “إسطنبول”، “سما بربروس”، حيث أستهلت حديثها بالإشارة إلى وقائع الانتحار المتزايدة وتزايد معدلات الفقر.
وأضافت “سما” أنه في المرحلة الحالية بات العمال يواجهون صعوبة في توفير قوت يومهم، مشيرة إلى اتهام من يكشفون الحقائق وينتقدونها بالإرهابيين.
وأضافت “سما” أن الإحصاءات تُكذب المشهد الوردي الذي ترسمه السلطة الحاكمة، مفيدًة أن معدلات البطالة بلغت ذروتها، خلال آخر خمسة عشر عامًا، وأن عدد العاطلين ارتفع بنحو 980 ألف شخص، خلال العام الأخير، ليسجل 4 مليون و650 ألف عاطل.
هذا؛ وأوضحت “سما” أن “تركيا” شهدت 47 ألف و537 واقعة انتحار في عهد “العدالة والتنمية”، مؤكدًة أن النضال الممنهج من أجل حياة إنسانية هو السبيل للنجاة ممن يضعون حياة الأتراك في خطر.
ليست قضايا فردية ونفسية..
ويرى الخبراء الأتراك أن سلسلة الانتحارات ليست حالات متفرقة. “من الخطأ اعتبار الانتحار قضية فردية ونفسية بحتة”، حيث تقول الباحثة في قضايا الفقر، “هاجر فوغو”، من نادي (Cimen Ev)؛ أن الانتحار تسبقه في الغالب أسباب اجتماعية: “هؤلاء الناس لا يلقون الاعتبار في المجتمع. يشعرون بأنهم لوحدهم وبدون مساعدة. وإذا أضيف لذلك متاعب اقتصادية واحتياجات أولية مثل الأكل والماء والكهرباء التي لا تلقى الحل، فإن المشاكل تزداد حدة”.
الحصول على “سيانيد الهيدروجين” سهل في تركيا..
ودائمًا ما تنفي الحكومة التركية وجود علاقة بين الأزمة الاقتصادية وعمليات الانتحار. وبالنسبة إليها فإن الانتحارات مؤشر على أنه في “تركيا” لا توجد عقبات للحصول على “السيانيد” المسموم، إذ يجب فرض حظر وترشيد.
ومنذ حزيران/يونيو الماضي، شدد “حزب الحركة القومية”، المشارك في الائتلاف الحكومي؛ على ضرورة حظر “سيانيد الهيدروجين”.
وشكلت “وزارة العائلة” التركية لجنة للتحقق من الحوادث. والتقرير وجب عرضه على الرأي العام. وتصل نسبة البطالة في “تركيا” إلى 14 في المئة. والبطالة بين الشباب إلى 27 في المئة. والتضخم أدى إلى ارتفاع الأسعار في مواد استهلاكية أساسية مثل المواد الغذائية والأدوية أو البنزين.
الموالون للنظام يربطون بين الانتحار والإلحاد..
وفي محاولة منها لتفسير الأمر، كشفت الروائية التركية الشهيرة، “إليف شافاق”، في مقال منشور لها بصحيفة (الغارديان) البريطانية؛ تحت عنوان: “انتحار أسرة يكشف عن مجتمع فقد الأمل”، وذكرت تفاصيل القصة وربطتها بمتغيرات اقتصادية يعاني منها المجتمع التركي حاليًا.
وارتفع سعر الكهرباء 10 مرات في “تركيا” هذا العام، بمقدار زيادة إجمالية بلغت نحو 57 في المئة، وبلغت البطالة نسبة 27 في المئة، وهي الأسباب التي يدفع بها قطاع واسع من التيار الديمقراطي والليبرالي لتفسير ارتفاع معدلات الانتحار في السنوات الأخيرة.
ويخالف هذا الطرح؛ الأصوات المؤيدة للحكومة التي تتهم كُل من يحاول الربط بين وقوع هذه الحوادث والأزمات الاقتصادية بالخيانة والعمالة لجهات خارجية، وإبتداع أسباب أخرى للانتحار، كالزعم بوجود كتاب عن الإلحاد بمنزل الأسرة الأخيرة، والربط بينه وبين إنتهاء حياتهم.
غير أن رواية داعمي الحكومة لتفسير حالات الانتحار بقراءة كتب في الإلحاد لم تصمد أمام حالة الأسرة التي انتحرت في “أنطاليا”، قبل أيام، بعدما أقدم أفرادها على تناول جرعة زائدة من مادة سامة، لتنتهي حياة أربعة أفراد، بينهم طفلان في الخامسة والتاسعة من عمرهم. وترك الأب، العاطل عن العمل منذ فترة طويلة، رسالة يشرح فيها الصعوبات المعيشية التي اضطرته لهذا الخيار الصعب.
تخوين المعارضين..
وتضيف “شافاق”، عن أن من يكتب أو يربط بين سوء العوامل الاجتماعية والاقتصادية والارتفاع الكبير في حالات الانتحار ينتهي به الحال للتعامل معه بصفته “خائنًا”؛ من جانب وسائل الإعلام الموالية للسلطات.
وتقول إن هناك مقترحات لتمرير تشريعات وقوانين عقابية بحق الأكاديميين والاقتصاديين الذين يقدمون تنبؤات قاتمة عن الاقتصاد التركي.
ومثال ذلك ما حدث في إحدى البرامج التليفزيونية عندما حاول الكاتب الموالي للرئيس، “رجب طيب إردوغان”، وأخصائي الاتصالات، “علي صايدام”، تجميل صورة حكومة “حزب العدالة والتنمية”، نافيًا أن يكون الاقتصاد الدافع الذي يقف وراء الانتحارات الجماعية التي تشهدها “تركيا” في الآونة الأخيرة، وذلك في برنامج أذيع على قناة (خبر تورك).
وتطرق مراسل قناة (خبر تورك)، في العاصمة “أنقرة”، “بولند آي دمير”؛ عن الأسباب المحتملة التي دفعت بعض الأسر إلى الانتحار الجماعي، وذكر أن تدهور الأوضاع الاقتصادية قد يكون بين هذه الأسباب.
ثم علق عضو هيئة التدريس بجامعة “آلتينباش”، “أ. د. أحمد قاسم خان”، على كلام مراسل القناة؛ وقال بأسلوب ساخرٍ: “لا … هل يمكن أن يكون سبب الانتحارات هو الأوضاع الاقتصادية السيئة.. فاقتصادنا في وضع جيد”، وذلك من أجل الإستهزاء بالذين يرفضون وقوف الأوضاع الاقتصادية السيئة وراء الانتحارات الجماعية، وذلك على الرغم من الرسالة التي تركها المنتحرون وراءهم؛ والتي تكشف أن عجزهم عن ديونهم هو الذي دفعهم للانتحار.
إلا أن “أ. د. قاسم خان” واجه انتقادًا سريعًا ومفاجئًا من الكاتب، “علي صايدام”، الموالي للحكومة والرئيس، “إردوغان”، حيث هدّده قائلاً: “لا تورّط نفسك.. لا تخاطر بنفسك، (بمثل هذه التصريحات) !”، الأمر الذي تسبب في تجمّد المذيعة التي تقدم البرنامج؛ بحيث ظلت لمدة قليلة دون أن تنبس ببنت شفة وعات لحديثها وهي تضحك.
في حين أن “أ. د. قاسم خان” لفت إلى القمع الممارس في “تركيا” على التعبير عن الحقائق؛ قائلاً: “يبدو لي أنه سيتم قريبًا فرض حظر على أخبار وقائع الانتحار أيضًا؛ لأننا أصبحنا نفرض حظرًا على الأشياء التي لا نستطيع السيطرة عليها”.
تهديد الكاتب، “علي صايدام”، لـ”قاسم خان”؛ أعاد للأذهان عمليات الطرد التي يتعرض لها عدد كبير من الصحافيين والكُتاب بطلب من الرئيس، “رجب طيب إردوغان”، في السنوات الأخيرة، الأمر الذي يدفع الكُتاب إلى الإحتياط في كل ما يقولون عند تقييمهم للأوضاع في البلاد.