لم يتبلور حجم الغباء الذي حمله الخميني وخلفه لوريثه علي خامنئي وبقية مستشاريه المكابرين المغفلين كما ظهر أمس، وقبل أمس، في سلسلة الانتفاضات الشعبية الهاتفة بسقوطهم في مدن إيرانية مهمة وفي العراق ولبنان، وفيما يأتي من كوارث مدمرة في قابل الأيام.
لقد كان المؤمل أن يفتح غياب الخميني صفحة إيرانية جديدة من الفهم الواقعي لتعقيدات المنطقة، وأن ينتهي مفعول إيران الثورة (الإسلامية)، وأن يُرسي قواعدَ تعامل ٍ جديدة ًبين إيران الدولة وبين جيرانها أقل ما تتميز به هو طيُّ صفحة الحروب المذهبية، وتفويت الفرصة على القوى الحاقدة الخارجية والداخلية الراغبة في إشعال الفتنة إلى أطول أمدٍ مستطاع.
ويمكن القول بأن ذروة غباء نظام خامنئي تجلّت في الانغماس الكلي في المشروع الأمريكي الذي انتهى بغزو العراق ودخول إيران ودول المنطقة قاطبة في نفق الحروب الطائفية العبثية التي لم تنتج سوى هذه الثورات الشعبية المتعاقبة التي لن تتوقف.
فسقوط نظام صدام، بكل جبروته وقوة آلته الحربية والمخابراتية، بسهولة ببضع دبابات أميركية غازية لم يكن ليتحقق لولا المعونة الإيرانية والسورية الأسدية والكردية الطالبانية والبارزانية، وهي الحقيقة التي لا ينكرها الإيرانيون والسوريون والكورد، أبدا، بل يباهون بها على الدوام.
وبإصرار النظام الإيراني على سياسة التحدي والتهديد والمشاكسة والمناكفة والابتزاز وتحريك الطوابير الخامسة، ومع اتساع تمدد حرسه الثوري وفيلق قدسه وباقي مليشياته في سوريا ولبنان وفلسطين واليمن، وما استتبعه من اختلالات واحتلالات واغتيالات، جعل قطار الثورة الشعبية العراقية واللبنانية والإيرانية على موعد محدد ومقنن ومؤكد لاقتحام حصون ولاية الفقيه في عقر دارها،وإسقاطها في النهاية.
فلاشك في أن إيران دولة كبيرة وغنية بشعبها ومواردها وتاريخها الحضاري العريق. ولكن تخيلوا حالها وحال شعبها وشعوب المنطقة، وربما العالم أيضا، لو كان النظام الحاكم فيها سويا مهذبا مسالما بَناءً يستثمر حيوية شعبه وإنجازاته وطاقاته الإبداعية العظيمة وثروات الدولة الإيرانية الطائلة في إسعاد شعبه وإعمار مدنه وقراه وتحديثها وإغنائها، وفي ترسيخ الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة، وفي نبذ الحروب والعنف والظلم والإرهاب، ولو نأى بنفسه وشعبه عن ثقافة العصور الجاهلية وعاداتها وطقوسها المتخلفة.
ثم دققوا معي في حجم إنفاق النظام الإيراني على إشعال الحرائق في العراق وسوريا ولبنان واليمن والسودان والبحرين وغيرها، وتدبير المؤامرات والدسائس والاحتراب، وتمويل وتسليح وتدريب المئات والآلاف من القتلة الإرهابيين، شيعة وسنة.
وابحثوا في آثار العقوبات الدولية على حركة الاقتصاد الإيراني، وانعكاساتها المدمرة على حياة الإيرانيين.
ثم فتشوا، بعد ذلك، عن الضرورة الوطنية والقومية والدينية التي حكمت على الولي الفقيه بأن يناطح العالم، ويدفعه دفعا إلى فرض تلك العقوبات، وإغراق الملايين الإيرانية بالتعاسة.
واحسبوا كم خسر المواطن الإيراني مما كان يكسبه في دول الخليج العربي والمنطقة والعالم، بسبب حكامه المشاكسين.
وبغض النظر عن أن زيادة أسعار الوقود هي التي أشعلت الثورة الإيرانية الشعبية الجديدة فإن إيران، بفعل سياسات النظام الغبية الفاشلة أصبحت، باعتراف المسؤولين الإيرانيين أنفسهم، أتعس بلاد الله الواسعة. وهذا كاف لإشعال ثوراتٍ عديدة لا ثورة واحدة تههد وجوده وقد تعصف به في نهاية المطاف.
وهنا يكمن المأزق الخانق الشديد. ماذا سفعل الحرس الثوري لمواجهة الجماهير الغاضبة؟.
إن أمامه خيارين لا ثالث لهما. فإما أن يلجأ إلى العنف المفرط وسفك الدماء فيصب زيوتا على نيران الانتفاضة، ويجعل إيران سوريا ثانية، أو أن يجنح إلى النفاق والاحتيال والوعود التي جربها الإيرانيون ولم يعودوا يحترمونها ولا يثقون بقاطعيها، ثم يصل النظام، دون شك، إلى نهايته التي زرع هو بنفسه جذورها منذ أن وطئت قدم الخميني أرض مطار طهران قبل أربعين سنة.
ومن أكبر آيات عمى البصر والبصيرة أن المرشد الأعلى خطب عند قبر الخميني في الذكرى الخامسة والعشرين لوفاته، فأعلن أن إيران اليوم، رغم العقوبات المفروضة عليها، “تطلق الأقمار الصناعية، وترسل الكائنات الحية إلى الفضاء، وتنتج الطاقة النووية، وأنها باتت واحدة من الدول العشر الأوائل في الكثير من العلوم الحديثة”.
وهنا نتساءل، ما نفع هذه الأقمار الصناعية وإرسال الكائنات الحية إلى الفضاء، وإنتاج الطاقة النووية، إذا كانت الملايين من المواطنين تحت خط الفقر،ويأكل بعضهامن فتات براميل النفايات؟.
إن قطار الثورة الشعبية الجديدة العراقية واللبنانية دخل إيران أمس، ولن يغادرها هذه المرة. فالشعب الإيراني تعلم من انتفاضاته السابقة كيف ينتصر، وكيف يقاتل. وكل ظالم إلى جهنم وبئس المصير.