18 ديسمبر، 2024 7:14 م

بالإضافة إلى مشكلة تخلي الإدارة الأميركية عن “حل الدولتين” الذي شكل محور العمل الفلسطيني الرسمي في العقود الأخيرة، والانقسام المستعصي بين “فتح” و”حماس”، ثمة الآن مشكلات جديدة. هناك الجدل الدائر حول “المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج” المنعقد الآن في تركيا، والذي هاجمته السلطة الفلسطينية واعتبرته التفافاً على الأطر الشرعية الفلسطينية؛ وهناك مؤتمر “التيار الإصلاحي” في حركة فتح المزمع عقده قريباً، الذي يعقده أنصار عضو حركة فتح المفصول والمنفي محمد دحلان، والذي قابلته السلطة الفلسطينية المكونة من حركة فتح، بسخط مماثل باعتباره انشقاقاً جديداً.

من الطبيعي أن تزيد التعقيدات والأزمات الفلسطينية الداخلية، عندما يفشل التعامل مع الأطراف والمتغيرات الخارجية. فالفراغ “يعلِّم التطريز”، لكنه تطريز ليس إبداعياً وإنما خربشات. وهو شقاق وجدال نكِد حتمي في البيتِ الذي ينبغي أن يكون مرتّباً، بسبب التراجعات وفقدان الخيارات وسوء التصرف. وفي الأساس، يَنبغي أن يكون ردُّ الفعل الفلسطيني العام على أي تحركات انفصالية رافضاً بشدة. ولكن، بصراحة، عن أي شيء بالتحديد قد يدعو أحدٌ إلى الانشقاق؟ هل هو عن برنامج وطني راسخٌ عليه إجماع فلسطيني غامر؟ هل هو عن مؤسسات نشطة حقاً تقوم بتشغيل سياسات لا تخفى منجزاتها في مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني؟

من الواضح أن كل ما حدث في المشروع الفلسطيني في العقود الأخيرة كان تطبيقاً لرؤية فصيل فلسطيني واحد واضح هيمن على القرار الفلسطيني. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، هل يمكن تصور “إجماع” لشعب معظمه لاجئون على تصريح زعيم الفلسطينيين الشهير: “لقد زرت صفد مرة من قبل. لكنني أريد أن أرى صفد. من حقي أن أراها لا أن أعيش فيها. فلسطين الآن في نظري هي حدود 67 والقدس الشرقية عاصمة لها. هذا هو الوضع الآن وإلى الأبد. هذه هي فلسطين في نظري. إنني لاجئ، لكنني أعيش في رام الله. أعتقد أن الضفة الغربية وغزة هما فلسطين، والأجزاء الأخرى هي إسرائيل”؟

لا أحد يناقش في شرعية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني. لكن الفلسطينيين يطالبون منذ وقت طويل باستعادة المنظمة أدوارها وإعادة بناء مؤسساتها على أسس ديمقراطية، وتوزيع الأدوار فيها بطريقة تستثمر في طاقات كل الفلسطينيين جميعاً إلى أقصى حد. ويلاحظ الجميع أن المجلس الوطني الفلسطيني لم يجتمع منذ عقدين، وفقط لإقرار تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني ليتناسب مع مشروع أوسلو الذي فشل بشدة. ولا يلمح أصحاب القرار إلى تحديث المجلس وتفعيله، والانعقاد الضروري لمناقشة الأزمة الطاحنة الراهنة وابتكار طرق للخروج منها إلى طريق تقدمي للنضال الفلسطيني.

لقد اتضح بما لا لبس فيه في العقود الأخيرة أن النهج الفلسطيني السائد عجز عن إنتاج أي روافع أو وسائل لتشكيل ضغط مناسب على العدو يمكن أن يدفعه إلى تقديم تنازلات. وحسب أي منطق، لا يمكن أن يتطوع الاحتلال بتقديم تنازلات وهو مرتاح تماماً، بلا ضغط عسكري ولا قانوني ولا من أي نوع. وحين تكون الولايات المتحدة، راعية الاحتلال، هي الوسيط، فإن من غير المعقول تصور جدوى “للـعملية السلمية” التي اشتغلت عليها القيادة الفلسطينية بلا كلل ولا مراجعة للتطورات، وضحّت من أجلها بثوابت البرنامج الوطني التحرري وشوهت السرد التاريخي الفلسطيني.

الآن، يحاول فلسطينيون مختلفون البحث عن أطر بديلة بجهود يائسة. وقد عبر عن جزء من الأزمة، مازن الرمحي، رئيس اللجنة التنفيذية للاتحاد العام للجاليات الفلسطينية في أوروبا، في بيان نشره ورفض فيه مؤتمر فلسطينيي الخارج في تركيا. لكنه كتب أيضاً: “في خضم هذا كله تجدر العودة، ليس من منطلق جلد الذات بقدر ما هو دق الناقوس لخطر محدق، إلى أداء قيادات منظمة التحرير الفلسطينية ومسؤولياتها في التعامل مع الشتات وأطره الوطنية، وكأننا لسنا شركاء في الوطن، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، فالإهمال والتهميش وعدم تمثيلنا في مؤسسات منظمة التحرير، وغياب الدعم المادي للأطر الفاعلة في الشتات، أدت إلى ترك الباب مفتوحا على مصراعيه لكل العابثين في الساحة الاوروبية”.

هذا جزء صغير جداً من التعقيدات التي تملأ المشهد الفلسطيني. والوصف الآن، “طاسة وضايعة” أمام شعب يائس بلا قيادة تقريباً، إلى أن يرزق الله الفلسطينيين بقيادة وطنية بارعة يمكن أن تصنع إجماعاً.