تمر علينا هذه الأيام الذكرى السنوية الثالثة لرحيل المرجع السيد محمد حسين فضل الله “رحمه الله” في وقت تشهد فيه الأمة الإسلامية فترة من أحلك الفترات التي تمر بها في تاريخها، حيث علت أصوات نشاز هدفها ضرب الوحدة وقتل الحوار، وخفت بذلك بشكل ملحوظ أصوات الدعاة للوحدة بين المسلمين، وللحوار بين الأديان والتيارات الفكرية المختلفة، وهذا تراجع خطير يهدد مسيرة العمل للوحدة الإسلامية وللحوار الإنساني.
ولذلك؛ فإننا نتذكر السيد فضل الله “رحمه الله”، نتذكره لا لأننا نسيناه، ولكننا نتذكره بمعنى أننا نستحضر كلماته وأنشطته ومواقفه التي عمل من خلالها على تعزيز الوحدة الإسلامية، والتشجيع على الحوار بين الأطياف الفكرية المختلفة والمتعددة، فالسيد “رحمه الله” عمل على طول مسيرته من أجل خدمة هذا المشروع الكبير.
صحيح أن هناك الكثير ممن تكلموا عن الوحدة الإسلامية ونظروا لها، ولكن يبقى لما بذله السيد في هذا الشأن طابعه الخاص، فالحوار والوحدة الإسلامية عند السيد فضل الله ليست تنظيراً مجرداً يبتعد عن الواقع العملي، بل شأنها شأن كل تنظيراته التي تتسم بكونها حركية في الواقع، وذلك لأنها تنطلق من (فقه الواقع)، وكيف لا تكون كذلك؛ وهو لا يفهم الفقه في قوالب هندسية جامدة كما يؤكد “رحمه الله” في بعض أحاديثه.
كذلك نجد أن الدعوة للحوار وللوحدة الإسلامية لدى السيد فضل الله “رحمه الله” ليست حالةً طارئةً أو ردة فعل متعجلة على أحداث ووقائع معينة، بل هي موقف حقيقي ينطلق من قناعاته الراسخة وإيمانه الكامل بهذا المشروع، إذ يُعد ذلك أولوية من أولوياته، ولذا نجده دائماً يذكُر الوحدة الإسلامية ويُذكر بها، ويشجع على الحوار ويكرر الحديث عنه كلما أتيحت له الفرصة. في حين أننا نجد بعض من يرفعون شعار الحوار أو الوحدة الإسلامية يتحدثون عنها فقط في أوقات الأزمات والتشنجات أو عند وقوع بعض الإثارات الطائفية التي تستهدف المسلمين وتهدد وحدتهم، وهذا يأتي منهم كإجراء تكتيكي لفك حالات التشنج ولتخفيف حدة التوترات الحاصلة، وليس إيماناً وقناعةً حقيقية بها، ولهذا نجدهم يتجاهلون الوحدة ويتناسون الحديث عنها في فترات الهدوء وعدم التوتر.
كما أن من مميزات المنهج الوحدوي عند السيد فضل الله “رحمه الله” أنه يعمل للحوار وللوحدة الإسلامية بكل وجوده، إذ نلحظ ذلك في كل كلماته وأقواله، وفي كل سلوكياته ومواقفه، حيث لا نجد أي موقف أو كلمة يمكن أن تُصنف بأنه ضد الوحدة أو لا تنسجم معها.
وهذا الأمر قد لا نجده عند الكثير الكثير من دعاة الوحدة الذين كثيراً ما يقعون في نوع من الازدواجية، حيث أنهم يُعلنون بأنهم مع الوحدة وقد يرفعونها شعاراً يواجهون بها الآخرين، ولكنهم في بعض تصرفاتهم ومواقفهم يقفون في الزاوية المقابلة لها، بعكس السيد فضل الله الذي لا نجد عنده أي ازدواجية في ذلك، حيث نجد الوحدة الإسلامية متجسدة في شخصيته، فكما نرى الوحدة حاضرة في محاضراته وندواته ولقاءاته، نجدها أيضاً حاضرة وبارزة في سلوكه ومواقفه وتعاملاته، وكذلك الحال بالنسبة للحوار.
ولذلك كله؛ استطاع السيد فضل الله “رحمه الله” أن يُؤثر على الآخرين من المخالفين له، وذلك لانفتاحه عليهم بالحوار وبالدعوة الصادقة للوحدة معهم تحت راية الإسلام، حتى أن بعض السلفيين المتشددين رغم تشددهم ضد الشيعة إلا أنه استطاع أن يؤثر عليهم، فنجدهم يحترمونه على الرغم من كراهيتهم وبغضهم الشديد للشيعة ولعلمائهم، وهذا يدل على نجاح تجربته في هذا المجال. ولذا يفترض على من يحمل المسؤولية في هذه الأمة أن يستفيد من هذه التجربة في السعي من أجل الحوار والوحدة الحقيقية بين المسلمين، فالسيد “رحمه الله” كان رمزاً ونموذجاً إسلامياً كبيراً للحوار وللوحدة الإسلامية قد لا نجد له نظير في تاريخنا المعاصر.
فرحمك الله يا فضل الله، فلقد كنت بحق رائداً من رواد الحوار والوحدة الإسلامية.