نحن الان في الشرق الأوسط وصلنا الى مرحلة القرن الثامن عشر من تاريخ أوروبا. تجربة الشعوب الاوربية في بناء مجتمعاتها مرت بما تمر به المجتمعات الشرق-اوسطية في الوقت الحاضر. ان تشكيل الوعي الجمعي في الوقت الحاضر يعتمد على مفاهيم إسلامية متطرفة مفروضة بالقوة العرفية والإرهاب، يضاف الى ذلك سيطرة مفاهيم الاستقطاب المذهبي الإسلامي على عقلية الشعوب والدول والجماعات التي تدين بالإسلام. يتشابه هذا الواقع الى حد ما مع مرحلة سيطرة الكنيسة على الدول والمجتمعات الأوروبية.
أوروبا في القرن الثامن عشر ورثت نظاماً كانت بداياته في القرون الوسطى، فالدول الاوربية آنذاك عبارة عن اقطاعيات يشترك في ادارتها الملك والكنيسة. والشعب الأوروبي عبارة عن مصنع للجنود والضرائب. لذلك كان الحال مزرياً قبيل الثورة الصناعية والمجتمعات عبارة عن طبقتين الأولى مترفة حد (الثمالة) وهي الملك ورجال الكنيسة-في الشرق الأوسط الان تتمثل بالطبقة السياسية المتنفذة وكوادر الإسلام السياسي ورجال الدين- والأخرى غارقة في الرق والفقر والعبودية وهي عامة الشعب في كلا الحالتين. هذا الحال كانت ترفده فلسفة دينية تشجع ابعاد الناس عن شؤون السلطة والحكم او المساس بالدين المسيحي وعليهم تنفيذ أوامر الكنيسة وعدم الوقوع في (الخطيئة) والولاء للملك والتطوع لحروبه الكثيرة ودفع الضرائب. الا انه في بدايات الثورة الصناعية تزعزعت أسس ذلكالمجتمع الواقع تحت سلطة العقد المبرم بين الكنيسة والملك، أفكارجديدة بدأت بالانتشار وكانت بدايات لتأسيس فكر أكثر عقلانية، ونشات حركة شعبية ثقافية سميت بالتنوير تقوم على أساس بناء نظرة جديدة للأخلاق والديناكثر عقلانية، واُعتُبِر هذا المذهب الفكري الثقافي الجديد في الفلسفة الأوربية هو الفكر الذي أسس العلمانية وميز العصور الذي سبقته (بالعصور المظلمة والأفكار اللاعقلانية). أهم الكتاب والمفكرين الاوربيين في ذلك الوقت كانوا إيمانويل كانت، ديفيد هيوم، جان جاك روسو، وفولتير. قادت كتابات هؤلاء المهاجِمة الى الحكومات الملكية وسطوة الكنيسة والداعية الى العقلانية والنظرة الجديدة للحياة فيما بعد قادت الى ثورات ربيع اوربي شهدتها اوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر اسفرت عن قيام مفاهيم الدولة الديموقراطية الحديثة وبداية تأسيس مؤسسات الدولة المستقلة كالجيش والقضاء، واهم ما في ذلك حرق مفاهيم القرون الوسطى والفترة المظلمة التي مرت بها أوروبا، ولكن ما زلنا نحن نعيشها. ومن أبرز تلك المفاهيم التي حرقها الربيع الأوروبي هي انتزاع الصفة الإلهية عن سلطة الحكومات الجديدة والملك وفصل الدين عن الدولة.
لقد قاد الربيع الأوربي الى تغيير مفاهيم الناس عن الدين المسيحي وعلى الرغم من مرافقة ما حدث من موجات الحاد كنتيجة طبيعة لما فعله رجال الكنيسة بالشعب الأوروبي لقرون مضت، الا ان العلمانيين الجدد والنظام السياسي والاجتماعي الجديد اعطى الدين المسيحي حجمه الطبيعي وأنصفهفي دول الربيع الأوروبي، حيث كانت هناك حرية دينية مقيدة بضوابط وقوانين.استمراراً لرد الفعل المذكور تنامي التيار اليساري الالحادي- مدفوعاً بقضايا أخرى كالعداء للرأسمالية التي نمت في الغرب فيما بعد – خصوصاً في دول أوروبا الشرقية انتهاءً بالثورة البلشفية في روسيا عام 1917 ومنعت الدين بشكل نهائي عن الدولة واعتبرته افيون الشعوب. على النقيض من ذلك المتدينون في أوروبا كانوا يمارسون حياتهم ضمن قوانين الدول الجديدة الوضعية ودساتيرها التي منعت بعض منها تشكيل أحزاب على أساس ديني وبشكل عام منع تدخل الدين في سياسة الدولة.
هذا التشابه الكبير بين مرحلتنا المعاصرة التي يمر بها الشرق الأوسط وتلك المرحلة التي تجاوزتها اوروبا منذ أكثر من 200 عام،لو سلمنا بان ذلك تطور طبيعي واستحقاق تاريخي لابد ان تمر به الشعوب ضمن مراحل تطورها، الا يحق لمجتمعات الشرق الأوسط ان تستفيد من تلك التجربة الرائدة في التعامل مع مفهوم الدولة الحديثة وابعاد خطر تسيس الدين الإسلامي وتأثيره السلبي المتناقض والمتعدد المذاهب والتفسيرات على المجتمع؟ الا نفكر بمستقبل الدين الإسلامي بعد التخلص من سطوة الحركات الاسلامية ورجالات الدين؟ الا نفكر بموجات الالحاد التي سترافق مراحل التخلص من الإسلام السياسي؟ الا نفكر بأمن وحياة المؤمنين بالإسلام بعد انتهاء صلاحية الحركات الإسلامية وضعفها وتلاشيها؟ وسط هذه الاثارات يأتي قارب النجاة الذي بدأ يلوح بالأفق بعد الثورة المصرية التصحيحية في يونيو الماضي،وهو تصدي التيار الليبرالي الى الحياة السياسية والاجتماعية في مصر، وعلى الرغم ان هذا التيار يفتقد الى دعم القوى التقليدية وهي دول وجماعات الإسلام السياسي، بل ويفتقد كذلك حتى دعم الدول الغربية التي يقودها التيار الليبرالي بسبب قدرة الإسلاميين على إعطاء ضمانات امن إسرائيل وبقاء الدول العربية على تخلفها مقابل إقامة امارات إسلامية طائفية متخلفة تشغل مجتمع الشرق الأوسط بصراع داخلي لقرون قادمة. ففي العراق على سبيل إيضاح الفكرة نجحت الدول العظمى على عزل العراق وابقاءه متخلف لعشر سنوات مضت بسبب تسليم العراق بعد إزالة النظام الدكتاتوري السابق الى أحزاب التيارات السياسية الاسلامية المتناقضة والمنقسمة سياسياً ومذهبيا وطائفياً وعلى الرغم من ممارستها الفساد وفشلها في إدارة الدولة استمرت القوى الغربية في دعمها ومنع دخول العملية السياسية في العراق ايٍ من أحزاب وشخصيات التيار الليبرالي الى السلطة والبرلمان. ولو لا إصرار الشعب المصري على إزالة حزب اخوان المسلمين من السلطة لحصل على الدعم الغربي وبقي يفتت الدولة المصرية ويضعفها ويفجر صراعاتها الداخلية كما يحصل في العراق، مقابل إقامة امارات الخلافة الإسلامية المنشغلة بالطائفية المذهبية والحروب الداخلية. ما حدث في مصر وما يحدث في العراق يجسد صورة واضحة لدور تيار الإسلام السياسي في تفتيت المجتمع وتفكيك الدين الإسلامي ذاته وابعاد المؤمنين عنه وزيادة التيار الالحادي كردة فعل لما تفعله أحزاب وتيارات الإسلام السياسي والسماح لها بالتدخل في تخريب وحدة المجتمع واضعاف مؤسسات الدولة.
تيار الإسلام السياسي زائل بلا شك وهو استحقاق تاريخي لفشل تلك التيارات في إدارة الحياة الاجتماعية والمحافظة على السلم الأهلي ونعتقد ان التيار الليبرالي هو الوحيد القادر على حماية الإسلام بمذاهبه وتفسيراته وبقائه على قيد الحياة، والسبب يعود الى ان الليبراليين ونتيجة للتجربة الطويلة التي مرت بها أوروبا اثبتوا قدرتهم على إدارة الحياة وحياديتهم واحترامهم حقوق الانسان في العقيدة والمذهب والتوجه السياسي والفلسفي مالم يصطدم مع قانون الدولة والسلم الأهلي للمجتمع وحماية خصوصية وحرية الفرد في اطار القانون.