عبر التاريخ، خرجت الكثير من الشعوب في انتفاضات وثورات ضد الحكام طغاة كانوا أو فاسدين، لكن لا أحد من تلك الشعوب يشبه الشعب العراقي، لأن انتفاضته لا تشبه باقي الانتفاضات، ولا السلطة الحالية في العراق تشبه تلك السلطات التي خرجت عليها شعوبها.
انتفاضة تشرين، هي ليست مطلبية كما السابق، بل من أجل استعادة الوطن من اللصوص والفاسدين والقتلة الذين تعاونوا مع الأجنبي لاحتلال “بلدهم” قبل أن تأتي بهم معظم سفارات العالم لحكم بلد بحجم العراق، وهذا يعني أن هناك وعيا متزايدا لدى الجماهير التي ظلت أسيرة أسباب عدة أبرزها “عقائدية”، لكنها انتفضت لاكتشافها زيف تلك الأسباب، لذلك هي لا تشبه أي انتفاضة، ولا الشعب العراقي يُشببه أيُّ شعبٍ أخر.
حريّ بنا نحن العراقيين أن نفخر بشبابنا وشاباتنا وحتى أطفالنا وشيوخنا الذين خرجوا منتفضين ضد سلطة الفساد والنهب والقتل، كاسرين قيد الطائفية الذي وضعته الأحزاب الإسلاموية، رافعين راية واحدة تعبر عن وحدة العراقيين، وهم يرددون “بالروح .. بالدم .. نفديك يا عراق”، و “هذا وعد هذا وعد.. إيران ما تبقى بعد”، و “إيران برة برة.. بغداد تبقى حرة”، رغم كل ما واجهوه من قمع وحشي، راح ضحيته الاف الشباب بين شهيد وجريح. ولم تثنهم حتى التهم الرخيصة التي وجهت لهم من قبل الاحزاب وتوابعها لتشويه هذه الانتفاضة، تارة بعثية ودواعش، وتارة أخرى عملاء سفارات يتلقون أموالا من السعودية والإمارات وإسرائيل، بينما هم شباب اغلبهم في عمر الزهور، لا يعرفون معنى التآمر، بل وضعوا ارواحهم فوق راحات أكفهم فداءً للوطن.
انتفاضة أدهشت العالم لما قدمه العراقيون من ابتكارات في دعم واسناد المنتفضين، فرغم محاولات القمع، رأينا عربة النقل “التكتك” والتي كنا نعتبرها إحدى مظاهر التخلف لا تليق بالعاصمة بغداد، وإذا بها تصول وتجول في الساحات، وقدم أصحابها أروع المواقف الإنسانية النبيلة لتصبح هذه “التكتك”إحدى أيقونات انتفاضة تشرين، حيث شكل أصحابها البسطاء ملحمة اسطورية حينما جعلوا من عرباتهم اسطولا يقدم خدمات عظيمة من إسعافات ونقل وتموين، بطريقة منظمة وكأنهم متمرسين في مثل هذه المواقف، ولولاهم لخسر الكثير من الشباب أرواحهم بسبب حالات الاختناق، جراء الغازات المسيلة للدموع.
ومن مدعاة الفخر أيضا، أنه عندما يكون هناك كثافة برمي الغاز المسيل للدموع يتراجع المتظاهرون الى الخلف، فيقوم بعض الشباب مع أبطال “التكتك” بالتبرع لإزالتها وتنظيف الساحة منها ثم يرفعون راية الوطن كإشارة لرجوعهم.
كما شهدنا تمركز الفرق الطبية المتخصصة بتقديم الاسعافات في مناطق قريب ساحات التظاهر، لتقديم الخدمات الطبية اللازمة، وقد تكون هذه سابقة ما يدل على تحمل المسؤولية وتزايد الوعي في تقديم الإسناد والدعم. واللافت أيضا، هناك تزايد في أعداد المشاركين في الانتفاضة، مع حضور نسوي لافت وفاعل، ومشارك بمختلف الفعاليات، واقامة مراكز اعداد الأطعمة والخبر وتوزيعه مجانا، إلى جانب قيام العديد من الأسر في الأحياء المجاورة لساحات التظاهر بإعداد وجبات طعام متنوعة إلى جانب المياه والشاي، وتوزيعها على الشباب، في مظهر يعكس أصالة العراقي وكرمه، فعند الشدائد تعرف معادن الناس.
واهم من يعتقد أن بمقدوره قمع هذه الانتفاضة، التي تشهد تلاحما اسطوريا بين شبابها من كل فئات الشعب، ولن تستطع قوى الأحزاب ومن يقف خلفها عبر الحدود، أن يمس ذرة من المجد العظيم الذي صنعوه أهلنا في بغداد ومحافظات الفرات الأوسط والجنوب، بوقفتهم البطولية وتضحياتهم العظيمة.
سيخلد التاريخ شعبا اسمه “الشعب العراقي” لصموده الأسطوري، حينما خرج في تشرين 2019، متسلحا بعلم بلاده لاسترداد وطنه، ورفضا للظلم والفساد، لكنه واجه قمعا وحشيا من السلطات الحاكمة وبمساعدة مليشيات مسلحة تدين بالولاء لإيران، في العراق، إلا أنه لم يتراجع ولم ينثنِ وسينتصر ولو بعد حين.