لم يعِ السياسيون وللاسف ان هناك تحول في الوعي الإجتماعي وانتقال من مربع المحاصصة الى مربع المواطنة،ولم يعوا ان نقطة شروع جديدة قد بدأت في حياة المجمتع العراقي ،فهذه التظاهرات الجارية الان هي عملية مخاض وتحول تاريخي من مرحلة الى اخرى ، فالمرحلة الجديدة لها متطلباتها واستحقاقاتها واشتراطاتها السياسية والاجتماعية .
ومن استحقاقاتها التي يجب ان يعيها السياسيون هي تقديم تنازلات كبيرة وربما تجرع السم في بعض الأحيان للاجيال الجديدة من اجل الوطن ، وهذه تحتاج شجاعة وحب فالأوطان لا تهرم ما دام هناك من يعشقها فلا يمكن ان تستمر العملية العرجاء الى ما لا نهاية .
وكان عليهم ان يفكروا ان مرحلة ما بعد داعش هي اهم بكثير من مرحلة محاربة داعش . فقد استنفذت الشعارات والثقافة القديمة قوتها وانتهت بإعلان النصر على داعش .
فكان هناك وحدة وطنية وتوجه موحد للقضاء على الإرهاب ، وأعيدت هيبة الجيش وولدت تجربة عراقية ناجحة هي تجربة الحشد الشعبي ، وضرب العراقيون صور رائعة بالتلاحم والتضحية من أجل الارض والمقدسات.
وانتهت تلك المرحلة وبدأ تاريخ جديد ومرحلة جديدة .
وكان اول إنذار للسياسيين هو نتائج الانتخابات وما رافقها من سلبيات ، إلا انهم لم يعوا نتائجها واستمروا بنهجهم القديم ، ضاربين عرض الحائط تطلعات الشباب في مرحلة ما بعد داعش .
ولم يفكروا ان المرحلة التي ولدت للتو لها استحقاقاتها ، فالجيل الجديد هو ذات الجيل الذي صنع النصر وهو ذات الجيل الذي وقف بوجه الإرهاب ،وكان ينتظر ان يشهد ولادة وطن .
غابت الحكمة كما غاب التفكير بمتطلبات المرحلة عن عقول السياسيين ولم يدركوا ان من استحقاقات واشتراطات المرحلة الحالية رفض المنظومة السياسية الفاشلة بكل مخرجاتها ، وهذا يعني رفض تحالفاتها القديمة وقواعد العمل التي اتبعتها ، فلم يعد هناك مفهوم لتحالف شيعي كردي كما لم يعد هناك مفهوم لتوازن مكوناتي في مؤسسات الجيش والأمن والوزارات والسفارات وغيرها من مؤسسات الدولة ، فالمعيار لم يعد طائفياً بل و طنياً صرفاً .
يقول نيكولاي ميكافيلي في كتابه الامير : ان السيادة لا تتجزأ ولكن يمكن ان توزع المناصب ، اي لا مشكلة بالتنوع الاثني او الديني بين الموظفين ولكن ليس على أساس عدم الانصياع لقانون الدولة او التوظيف لحساب مكون .
ومن متطلبات المرحلة الجديدة رفض الإقطاعيات العائلية ، أي رفض الحيامن المقدسة التي تستعبد الناس من خلال بطولات آبائهم أو اجدادهم ، فكلنا لآدم وآدم من تراب. فمن اخطر المشاكل التي تنخر بجسد الدولة هو التوظيف على أساس الانتماء العائلي واستمرت الطبقة السياسية. بتوظيف الحيامن المقدسة .
كما اصر السياسيون على احتقار القانون من خلال تقوية النزعة العشائرية التي بنيت على اساسها الكثير من المواقف والتي هي واحده من أمراض المرحلة الحالية، فانها تعيق تطبيق القانون و التطلع الى بناء مجتمع انساني مبني على أساس الكفاءة والإمكانية التي يحملها الفرد ، لا على أساس انتمائه القبلي . وهنا لا اقصد بالعشيرة كمنظومة اجتماعية محترمة ، وهي محل تقدير كل المجتمع ولكن اعني العشيرة بمفهومها السياسي، حينما تتحول الى دولة صغيرة تلغي القانون . وتحمل السلاح وتحاكم وتقضي .
ومن متطلبات مرحلة التغيير احتكار الدولة للعنف ، وهذا يعني وضع السلاح تحت سلطة الدولة ، والمصطلح يختلف تماماً عما يتداوله الساسة وهو حصر السلاح بيد الدولة .
السلاح تحت سلطة الدولة يعني ان هناك قائد واحد ومنظومة عسكرية وأمنية واحدة تأتمر بأمر الدولة ، فلا يمكن ان تبنى دولة وفيها جيوش متعددة ، كما يحصل في كردستان على سبيل المثال .
ومن متطلبات المرحلة القادمة تنظيم العلاقة مع الجوار الإقليمي على أساس المصلحة الوطنية. لا على أساس التبعية او الضعف .
كما ان من متطلبات المرحلة الجديدة تنظيم العلاقة مع الإقليم ، فهي علاقة مرتبكة ومشوشة وغير واضحة المعالم ، فهي دولة داخل دولة ، وهذا الواقع انعكس بشكل سلبي على إدارة الدولة وقراراتها وخطابها السياسي .
ان ان رفض المفاهيم التي بنيت عليها العملية السياسية التي تنازع في رمقها الاخير ، يعني رفض كل مصطلحاتها القميئة التي أنتجتها ثقافة الكراهية والتقاطع ، هي رفض للمحاصصة وللطائفة وللقومية والدينية والمناطقية .
ان اقتلاع هده المفاهيم البالية يجب ان يأتي عبر الوعي وليس بالقوة ، فالقوة تجرنا الى الدمار وخراب البلد، فصراع الإرادات اللاواعية في رسم مستقبل العراق ستكون عواقبه وخيمة ، لذا ان لم يعِ السياسيون جميعاً سنه وشيعة واكراد هذا الوضع سيذهب البلد نحو المجهول.