19 ديسمبر، 2024 2:12 ص

مسؤولية الفيلسوف بين المدائن المتصارعة والعوالم المشتركة

مسؤولية الفيلسوف بين المدائن المتصارعة والعوالم المشتركة

مقدمة1[1]:

” ذاكرة الرهيب ضرورية للغاية

La mémoire du terrible nous est absolument indispensable “2[2]

لم يكن بول ريكور أول من حذر من إخفاق مشروع الأنوار في الحضارة الغربية ومجيء العدمية وبلوغ الإنسان زمن الخواتيم فقد تحسس ذلك بصورة جنيالوجية فيلسوف المطرقة فريدريك نيتشه وسانده مارتن هيدجر ضمن رؤيته الأنطولوجية الأساسية وتفطن إلى المنحدر الخطر عالم الاجتماع ماكس فيبر وأدرك اقتراب النهاية كل من المؤرخين أرنولد توينبي وأوسفالد شبلنغر واتضحت الأزمة في العلوم الأوروبية مع أدموند هوسرل وانتبه يورغن هابرماس إلى مأزق الحداثة التقنية وسقوط العقلانية في مستنقع الآداتية.

بيد أن الطرافة التي ميزت بول ريكور هو كشفه عن حالة الإنهاك التي بلغها مشروع الأنوار وعن الأزمة التي يعاني منها الوعي التاريخي وتأخره عن الزمن التاريخي والتعارض بين فضاء التجربة وأفق التوقع واستشكاله الأزمة التي أصابت الحضارة الكونية من جهة القيم والمبادئ التوجيهية التي تحكم المؤسسات وطرقه أبواب الديمقراطية عبر الإنسية التعاونية وتطعيمها بالسياسة التي تراهن على الحريات الفردية.

من هذا المنطلق تبدو مسؤولية الفيلسوف كبيرة في المدينة حول مهام الانتقال من الانحلال إلى إعادة البناء ومن الفوات والتأخر إلى اللحاق والتدارك وحول الأدوار التي يجب أن يقوم بها في الوساطة بين الأقطاب المتعارضة وفي رأب الصدع بين الذات والعالم وتخطي وضع الهشاشة وفشل العدالة ومفارقات السياسي.

مصادر الهشاشة حسب بول ريكور تنبع من النقائض التي تشق الواقعة الإنسانية بين الإرادي واللاّإرادي والمنزلة الوسطى التي يحتلها الكائن البشري وتجعله يتأرجح بين الكينونة والعدم وبين اللانهائي والنهائي وتظهر ذلك في التباعد بين المنطقي والمؤثري وبين المتعالي والعملي وحالة اللاّتنساب بين الذات وذاتها بسبب التناقضات بين الحرية والطبيعة وبين القرار والمشروع وبين الباعث والقصد وبين الطبع والأفق.

يتراوح الوجود البشري من وجهة نظر ريكور بين الهزل والجد وبين الكوميدي والتراجيدي ويستنجد بالطابع الملحمي لكي يتغلب في لعبته مع حركة التاريخ ويتحدى سلطة القدر المحتوم ويعلن انتصاره في معركة الحرية على العراقيل والضرورة والإرادة على التناهي واللاّعصمة ويجعل الإقرار شهادة للكائن البشري باللاّتناسب من جهة وقابلية الاقتدار من جهة أخرى ببناء الجسور وإبرام مصالحة بين الأضداد.

مفارقات السياسي التي أثارها ريكور تتوزع إلى ثلاث دوائر: تتعلق الأولى بالشكل العقلاني للدولة المدنية والقوة الفيزيائية المرافقة للقوانين والقرارات، الدائرة الثانية تقسم السلطة بشكل مغاير ضد نفسها وتعطب العلاقة بين البعد العمودي والتراتبي للهيمنة أولا والبعد الأفقي والتوافقي للرغبة في الحياة المشتركة ثانيا، أما الدائرة الثالثة فتتعلق بالنقد المعاصر لفكرة العدالة الواحدة واللاّمنقسمة والقول بوجود دوائر للعدالة تحتاج إلى تبرير من جهة وتوزيع منصف من جهة مقابلة بالنظر لأن الدولة الممسكة بالسلطة تظهر في ذات الوقت كدائرة مثل بقية الدوائر والهيئة العامة التي تحول دون اختراق الدائرة الأولى للدوائر الأخرى.

فشل العدالة الذي كشف عنه بول ريكور ناتج عن تعارض بين فكرة العادل من حيث هو مبدأ عال للحقل الإيتيقي والمعاناة التي تسللت من الخارج في الحكم الصادر من حقل العدالة الجزائية إلى الجاني المدان ويظهر إخفاق مؤسسة العدالة في مستوى التبرير العقلاني للعذاب الذي يعاني منه المتهم لحظة الإدانة.

أما عن المسؤولية فهي تشهد الكثير من المراوغات ومحاطة بالغموض والشبهات ويتم النصل منها في السر والعلن وتكثر التبريرات وتتزايد التسويغات ويقدم الفاعلون العديد من الأعذار وجملة من التعلات والخاسر الأكبر هو العزوف عن الفعل والإخلال بالوعود والتقاعس عن الواجب والتقصير في الالتزام.

هنا ، فيما تتمثل مسؤولية الفيلسوف تجاه هذا الخطر؟ هل هي مسؤولية فردية أم مشتركة؟ وماهي أنواع المدائن الحضرية؟ ولماذا حدث النزاع بينها؟ ما طبيعة الأزمة التي يعيشها الإنسان المعاصر ؟ هل هي أزمة تاريخية ناتجة عن الصراع بين الموروثات؟ وما المقصود بالمدائن المتصارعة؟ وكيف يتم الانتقال من المدينة إلى العالم؟ ومتى يتم بناء العوالم المشتركة بصورة تأسيسية؟ وماذا يتطلب الأمر من ناحية شغل الفيلسوف؟ وهل يمكن لإيتيقا المسؤولية التي تنبع من المصالحة مع الذات أن تكون بديلا عن إيتيقا الاقتناع التي تتشكل من خلال الفعل التواصلي في الفضاء العمومي؟ هل مسؤولية الفيلسوف تتعين من حيث هو مواطن حر أم تتنزل ضمن المؤسسات الرسمية التي يتحرك ضمنها ؟ ألا يُطالب بالمسؤولية الأخلاقية والوجودية إلى جانب المسؤولية السياسية والمسؤولية القانونية؟ والى أي مقام جديد يتطلع؟ هل يقتصر دور الفيلسوف على ممارسة الحكم وتحمل المسؤولية؟ هل هو الحكم المعرفي ام الحكم السياسي؟

حري بالفكر الحاذق أن يقسم بحثه عند معالجة هذه الإشكاليات إلى جملة اللحظات المنطقية التالية وأن يقوم باستدعاء الأنثربولوجيا الفلسفية التي تجمع بين المجتمع والاقتصاد ضمن جدلية الإيتيقا والسياسة:

اللحظة الأولى: مظاهر أزمة الوعي التاريخي بين التخصيص والتعميم

اللحظة الثانية: المدائن المتصارعة وإخفاق العدالة والشر السياسي

اللحظة الثالثة: العوالم المشتركة : السياسي من حيث هو استكمال المقصد الإيتيقي

اللحظة الرابعة: مسؤولية المجتمع الدولي والمقام الجديد للفيلسوف

ما يراهن عليه في الشخصية المفهومية هو تجنيب الحشود الالتجاء إلى العنف والنزاع واللاّتسامح والانزواء والاقتصار على التنظير والانتظار وانحيازه إلى قضايا المجتمع والتدخل في الفضاء العمومي والانتصار إلى المعية الوجودية بين المواطنين الأحرار على أرضية إيتيقية تشيدها إرادة الحياة المشتركة.

ما معنى قول يسبرس وأرندت “الفلسفة ليست بريئة”؟ هل هي مورطة بالضرورة وغير قادرة على إنتاج خطاب موضوعي؟ ما المقصود بفلسفة المدينة ومدينة الفلسفة؟ ولماذا نحتاج إلى التفلسف من اجل التمدن ونعتمد على التفلسف من اجل التمدن؟ ومتى كان التفلسف يساعد على فض النزاعات في المدائن وبناء المشترك؟ وأين يسكن الفيلسوف مدينته بالمعنى الأصيل للكلمة؟ وماذا عليه ينجز في المدينة لكي يصير فيلسوفا من جهة ومتمدنا من جهة أخرى؟ هل ينتصر للفلسفة إذا تصدت لها المدينة ام يحتمي بالمدينة بحثا عن ملاذ لا توفره الفلسفة؟ لماذا ينزوي الفيلسوف بصناعته بعيدا عن الأنظار ويخدم للسلطة؟ وهل يتحمل الفيلسوف مسؤولية كل ما يحدث في العالم ومطالب بتشييد المدينة؟ أليس من المطلوب أن يفكر الفيلسوف دون سلسلة مقيدة وخارج الصندوق ويسير في دروب جديدة ويساهم في صناعة العالم الإنساني؟ كيف يا ترى دور الفيلسوف في صناعة الأمل والتوقي بالثقافة والأدب والتاريخ من التطرف العنيف؟

ماهي خصائص الأزمة التي يعاني منها الإنسان في حياته العادية؟ وكيف تأثرت الحداثة بهذه الأزمة؟

1-مظاهر أزمة الوعي التاريخي بين التخصيص والتعميم:

” الأزمة ليست حادثًا طارئًا، ناهيك عن مرض حديث: إنها مكون من الوعي”3[3]

لقد عرفت البشرية منذ التشكل الأول العديد من الأزمات وأوجدت الوسائل اللازمة لحلها تصديقا لقول ماركس بأن الإنسانية لا تطرح مشاكل لا تكون قادرة على حلها وبالنظر إلى العقل يجد لكل سؤال جوابا ولكل مرض دواء ولكل آفة علاجا ولكن الأزمة الحديثة التي طوقت الوضع البشري طالت واستحكمت ولم يجد الإنسان المعاصر لها مخرجا وتسببت في ظهور العدمية واللاأدرية والانحطاط والحيرة القيمية والفراغ الأكسيولوجي ودفعت بالناس إلى التحرك في الممكن وقبول بالواقعية والبحث عن بدائل مؤقتة.

بعبارة أخرى نحن لا نعيش أزمة لأول مرة في التاريخ، فالوجود البشري شهد ظهور الكثير من الأزمات ولكن ما نعيشه في الزمن الحاضر هي أزمة شاملة لا نظير لها في السابق لأنها تظهر أزمة دائمة ونهائية.

كما أنها طرحت في الميزان قيمة التقدم التاريخي الذي سار إليه البشر وأعادت التساؤل عن معنى الحداثة وتماسك الذات في مواجهة التحديات والعناصر التي تكونها وصلابة المؤسسات في ظل عنف التحولات. لقد تفطن بول ريكور إلى تعدد أسباب الأزمة في العالم وتوزعها بين وراثة العنف التأسيسي وهشاشة ثبت الهوية ومخاطر اللقاء بالآخر ونشر اللاّتسامح بين المجمتعات وإفساد المال للأخلاق والسياسة والاقتصاد.

اللافت للنظر أن الأزمة عامة ومعولمة من جهة وتشمل جميع القطاعات بشكل خصوصي من جهة مقابلة ويضع لها بول ريكور ثلاث أسباب:

1- إن مصطلح الأزمة مزروع في الجسد البشري بطرق متنوعة ومبهمة بما أنه يشمل القيم والوعي والحضارة ويمس المؤسسات والجمعيات والوزارات والأحزاب والمرافق العمومية والخاصة.

2- مرت الأزمة بسرعة من الطابع الجهوي والقطاعي والخصوصي إلى الطابع العام والشمولي والكلي واخترقت بصورة تامة الظاهرة الاجتماعية وبرز ذلك في مستوى تمثل المجتمع لنفسه.

3- أزمة الحداثة لم تعد تشير إلى ظاهرة من بين ظواهر أخرى وإنما صارت ترمز إلى حقبة كاملة ومساءلة جذرية للحاضر واستشكال للراهن بسبب الصراعات التي تخترقه والتي يتعذر حلها[4].

لقد ترتب عن اشتداد الأزمة تزايد المشاحنات الإيديولوجية وبروز تمثلات عقيمة للمجتمع وغياب التقدير للأفكار القيمية وتزايد الاهتمام بالقيم المعولمة التي تدور في فلك المنفعة والإجراء والربح ومتعة الاستهلاك وتكاثر المشاكل في المجالات التي كانت مستقرة وتفاقم النزاع في الحقول التي كانت هادئة.

يتوقف بول ريكور عند الدلالة الطبية للأزمة ويرى أنها تشير إلى لحظة المرض الذي يختص بتغير في السير العادي للمريض ويرتبط بالمعاناة أو العذاب في وجود شيء كعلامة رئيسية على سياق باثولوجي وتستوجب إحداث قطيعة في الإيقاع الزمني للمرض من خلال التشخيص المبكر والتدخل العلاجي ومحاولة إيقاف المضاعفات وتنمية القدرات الدفاعية التي يختزنها الجسم وتقوية المناعة عبر العقاقير5[5].

القطاع النموذجي الثاني الذي يحلل فيه ريكور مصطلح الأزمة هو حقل التطور النفسي الفزيولوجي الذي يشير الى حالة من البؤس العميق التي يعيشها الكائن وتكون في ذات الوقت في المستوى الجسدي والنفسي وتؤشر على مرور من حقبة عمرية معينة إلى مستوى زمني آخر وتظهر بوضوح في اللاتوازن الذاتي.

النموذج القطاع النموذجي الثالث هو الإطار الكوسموبوليتي الذي كان عمونيل كانط قد اشتغل عليها في كتاباته عن فلسفة التاريخ والتي أقر فيها بإمكانية ملاحظة التطور التام على الصعيد النوعي وحجبها عن الصعيد الفردي بسبب لاإجتماعية الاجتماعي في الحالة الأولى ووجود استعدادات طبيعية لاستعمال العقل تظهر بشكل متأخر في الأجيال المتعاقبة التي تطور قابليتها للتحول إلى المجتمع المدني ودولة القانون6[6].

أما النموذج القطاعي الرابع الذي يشهد بشكل منتظم ميلاد أزمات هو تاريخ العلوم وكشف فيه توماس كوهن في “بنية الثورات العلمية” عن النموذج الإبستيمولوجي للأزمة والطابع المنكسر للإبداع العلمي وبيّن فيه أن التقدم يتم عن طريق سلسلة من الثورات والقطائع التي تحدث من خلال تغيير في النماذج وذلك بعد وقوع تشويهات في النظرية وتعقيدات في المعرفة واختلال في التوازن وبروز أزمات عابرة7[7].

في نهاية المطاف يصل ريكور إلى تحليل المفهوم الاقتصادي للأزمة ويعتبره مفهوما مشتركا ومهيمنا ويعد النموذج الوحيد الذي يمكن أن يؤثر على النماذج الأخرى وينتشر في جل مجالات الحياة الإنسانية وذلك بالنظر إلى تأثير البنية التحتية المادية على البنية الفوقية الثقافية ومسه بقوة الحضارة الكونية وسلم القيم والمبادئ وشبكة المعايير الرمزية وتسببه المباشر في ظهور أزمات في مختلف الميادين الأخرى8[8].

يترتب عن اندلاع الأزمة في المجال الاقتصادي تشكل أزمة بالمعنى المنظومي النسقي واتخاذها الطابع المتنوع التتابعي وانتشارها السريع في المجتمعات المتقدمة والمتأخرة عن نمو أنماط الإنتاج الرأسمالية واكتساحها لكتل بشرية عريضة عوضت حالة الرخاء والرفاه والاستقرار بحالة الكساد والشقاء والعوز.

لقد تولد عن الأزمات القطاعية في المجال الطبي والنفسي الفزيولوجي والكوسموبوليتي والابستيمولوجي والاقتصادي تناقضات اجتماعية وعدة فوارق وعذابات واختلال في القيم وشرر سياسي وحروب متناسلة.

من هذا المنطلق تميزت الأزمة في العالم المعاصر بثلاثة خصائص أساسية حسب بول ريكور: التمكين9[9] والدورية10[10]والعولمة11[11] ويؤدي ذلك إلى حصول تحولات كبيرة وتغييرات جذرية في مستويات الحياة للنوع. لكن ماهي المعايير التي يعتمد عليها ريكور أثناء تحليله لظاهرة الأزمة المعممة généralisée؟

اعتمد ريكور على عدد من المعايير أثناء دراسته للأزمة التي يعاني منها المجتمع الحديث ويراها تدور كلها حول المعيار الطبي والمعيار البيداغوجي والمعيار السياسي والمعيار الابستيمولوجي والاقتصادي. وكأن الحل في هذه الميادين يكون بالتخلص من المرض بالعلاج الكافي والدواء الشافي والخروج من الفشل المدرسي بالتربية المتكاملة والتعليم الجيد ومقاومة الشر والظلم بالحوكمة الرشيدة والسياسة العادلة والتغلب على الجهل الواعي والغباء المبرمج والخلط المتعسف بالنقد وتحصيل التنمية ضد الفقر12[12].

فكيف أدى التفاوت في امتلاك الثورة وفي درجة إنتاجها إلى ظهور فوراق اجتماعية ونزاع بين المدن؟

اللحظة الثانية: المدائن المتصارعة بين إخفاق العدالة والشر السياسي

” الآخر هو أقصر طريق بين الذات والذات عينها”13[13]

لقد تفطن ريكور إلى أن أزمة المدينة villeتعكس إلى حد كبير الأزمة الطارئة على السياسي والتي تعود هي بدورها إلى أزمة في المشاركة14[14] السياسية وقلة التدخل في الفضاء العمومي وعدم المحاسبة.

تعني المدينة Cité عند ريكور الجماعة السياسية بمختلف المؤسسات التي شيدتها وأعطتها شكل الدولة وتختلف عن المدينةville التي تشير إلى منطقة حضرية تكون في ذات الوقت وسطا فيزيائيا وبشريا يتركز داخله السكان وينتظمون وفق مساحة لها موقعها وبيئتها وفقا لاحتياجاتهم وأنشطتهم الاقتصادية.

المدينة في خطر هذا مؤكد والمهدد فيها هو الجانب الحضري والمدني والعمراني بسبب هبوب رياح العدمية والتوحش واشتداد عود الهمجية واتساع رقعة كثبان الرمال المتحركة القادمة من الصحراء والتي تهدد ما تبقى من مناطق خضراء وواحات ديمقراطية آمنة التي تنتشر فيها المحبة والتصافي والتعاون. ترصد أرندت تنامي ظاهرة فقدان العالم للتمدن وترى أن الواحات التي تستطيع توفير الحياة تم إبادتها عندما كنا نبحث عن ملاذ، يمكن أن يبدو في بعض الأحيان أن كل شيء يتآمر لتصبح الصحراء في كل مكان. لكن ليس هذا سوى خيال، في النهاية العالم دائما نتاج الإنسان، نتيجة حب الإنسان للعالم15[15].

بيد أن اللافت هو عدم الاكتفاء بالتحارب بين قوى الهدم وقوى البناء داخل المدينة بل نشوب نزاع بين المدائن في حد ذاتها وذلك ليس بسبب المشاريع التحديثية فيها والبرامج التنموية والمخططات السياسية ولكن بمفعول إخفاق العدالة16[16] ونتيجة اتساع الهوة بين المركز والأطراف والتناقض بين سكان المدن وسكان الأرياف وبعد استفحال التعصب والازدراء وتفشي التمركز على الذات والنزعة الفرادنية التملكية. من المفروض أن تحوز كل مدينة على مشتغلين بالفلسفة وتتوفر على منتجين للمعرفة وطلاب للحقيقة ومحبين للحكمة وعاشقين للمفاهيم ومناضلين من أجل المواطنة ومشاركين في الفضاء العمومي وبالتالي تبدو مسؤولياتهم مضاعفة في التصدي للانحراف ومقاومة التشويه وفي الانتصار للقيم الكونية والتربية السياسية للجماهير ويطلب منهم أن ينحازوا إلى قضايا الناس الجدية ويتحولوا إلى ناطقين بلسان الضمير.

والحق أنه توجد أنماط مختلفة من المدائن بحسب اختلاف النشاط البشري داخلها والمشروع الإنساني الذي يتم الانخراط فيه من طرف الكائنات البشرية المنتمية إليها وبحسب تأرجح العلاقات بين التنابذ والتعاون.

في هذا الإطار يستأنس بول ريكور بالتحليلات العميقة للوك بلتانسكي ولورنت تيفينو في كتابهما التسويغ : اقتصاديات العظمة17[17] ويحاول تحديد مكانة الفيلسوف ضمن النسق الوظيفي للمدائن المتصارعة ويرى أنه توجد مدينة للتسوق cité marchande حيث ندرة الخيارات تجعل الأشخاص يتنافسون على الحصول عليها ويخضعون ويتوحدون وهناك أيضا المدينة الصناعية cité industrielle التي تهيمن فيها القواعد الوظيفية الخاضعة للمبادئ العليا للمنفعة ومدينة الرأي cité de l’opinion التي تتحدد فيها الشهرة برأي الآخرين بدل الارتباط بالعظمة الحقيقية ويعيش فيها المشهورون من الرياضيين ونجوم الفن والمحترفون والمدينة الملهمة cité inspiré التي تتحدد فيها عظمة الأشخاص بالفضل وليس بالمال والمنفعة والمجد ، والمدينة المحلية cité domestique التي تشير إلى الموطن الأصلي ومسقط الرأس حيث تسود قيم الولاء والوفاء والإجلال والإكبار والرضوخ والانحناء للتقاليد تحت اسم قبول الإقامة المنزلية maisonnée والمدينة المتحضرة cité civique التي يتنازل فيها المواطنون عن مصلحتهم الشخصية لإرادة الجميع التي يعبر عنها القانون الوضعي ضمن الانتماء للمجموعة الوطنية، ومدينة المهمشين cité des marginaux والتي تضم الفنانين الهواة والتأمليين contemplatifs والمفكرين والفلاسفة ومعظم الحالمين من الشعراء والأدباء والنقاد واللاسلطويين والمحبطين والمنبوذين18[18].

هذا التعداد الفلسفي للمدائن يذكرنا بما قام به أفلاطون عند الإغريق وأبي نصر الفارابي عندنا في التفريق بين المدينة الفاضلة ومضاداتها من المدائن الضالة والجاهلة التي يفقد أهلها كل الأشياء المشتركة19[19].

فكيف يتخطى الفيلسوف المنتمي إلى مدينة المهمشين وضع الهشاشة لكي يقتدر على تحمل المسؤولية؟

يبدو أن وجود المدائن في حد ذاته معرض للهشاشة ومداهم من طرف الشر السياسي وأشكال التراجيديا التي تظهر على مسرح التاريخ ويتطلب اتخاذ تدابير تتعلق باتخاذ القرار وممارسة الحكم والاقتدار على تبني جملة من الإجراءات والسماح للمواطنين بالمشاركة في تنظيم أنفسهم والمساهمة في إدارة الشأن العام وافتكاكهم لحقوقهم والتعبير عن أفكارهم الفلسفية الصامتة والوعي بالتصورات الإبداعية العفوية. كما تتعلق الهشاشة بالممارسة العمومية للفعل السياسي أكثر من تراجيدية الفعل الناتجة عن بروز صراع بين الكائنات البشرية المتناهية وعظمة التحديات التي تواجها على مسرح التاريخ والتحولات الهائلة.

علاوة على ذلك تشهد بعض المدائن تفكك الروابط الاجتماعية وعدم استقرار في شبكة التواصل بينها وغياب الاعتراف[20] بين الأفراد والمجموعات وتجاهل البعض للبعض بالنظر إلى الاختلاف في الانتماء اللغوي والديني والاجتماعي وصراع الأجيال والاحتدام بين الطبقات واندلاع حرب الجميع ضد الجميع.

في الواقع يساهم تصاعد العنف داخل المدائن ونشوب الحروب الأهلية في الداخل وتعرضها للعدوان العسكري من الخارج والمشاركة في الحرب الشاملة في ظهور أزمات دورية في الحياة العامة ضمنها.

زد على ذلك انتشار التصور البراغماتي للحكم الذي يؤثر التبرير على العدالة والهشاشة على المسؤولية ويصعب عليه إرجاع المجتمع السياسي للمجتمع المدني وما يحمله معه من مصادر القسوة وتحميله للسلطة من مسؤوليات بخصوص منابع النزاع وجذور السياسي ويرى بول ريكور أنها متقدمة على التقاء خطان من القوة هما عنف السادة ومالكي الأراضي ومستولين على الموروث والمهيمنين على الأقليات الاثنية والثقافية والدينية وشرعنتهم للعنف ومأسسته تحت ضغط العقلانية القانونية ضمن التوازن الذي تقيمه دولة الحق عندما تقوم السلطة السياسية بتعريفه من حيث هو قوة تحتكر العنف المشروع وبوصفها شكل قانوني تخضع هي نفسها لقواعده المؤسساتية. لذلك تظل الدولة القانونية في حالة من التأرجح بين القطبين المتكونين من العنف البدئي المؤسس والعنف المشروع الردعي بقوة البوليس والجيش والأمن21[21]. هنا ترى حنة أرندت أن” إدارة الحرب مكنت مرة أخرى كما في القدم من إهلاك القسم الأعظم ليس فقط من الشعوب التي أصابتها بل حولت العالم الذي تسكنه هذه الشعوب إلى صحراء”22[22].

في هذا الإطار إذا كانت السياسة هي مواصلة الحرب بوسائل غير عنيفة وإذا كانت الحرب هي مواصلة السياسة بوسائل عنيفة فإن الحرية رهينة أسوار المدينة وتتحقق في الأغورا بالمطالبة بوقف الحرب23[23].

المصدر الثاني من الهشاشة يتمثل في التقاطع في مستوى السلطة بين العلاقة العمودية للهيمنة والخضوع التي تتحكم في الحاكم والمحكومين والعلاقة الأفقية التي ترسمها إرادة الحياة المشتركة للجماعة والتي يجعل الرابط السياسي الجامع للمواطنين هشا بالمقارنة مع الرابط الاجتماعي الممتنع عن الخرق24[24].

المصدر الثالث للهشاشة يعود إلى طبيعة الدولة الديمقراطية المعاصرة التي تستمد سيادتها من ابرام اتفاق افتراضي يترجم صيغة تمثيلية تشاركية، ولكن تبقى هذه السيادة منقوصة وتحت رحمة رضا المتعاقدين وتزعم أنها تؤسس ذاتها بذاتها وتخضع العالم السياسي إلى قانون جاذبية خاصة بالمجتمع الذي تحكمه25[25]. يمكن إضافة حالة المعاناة والعذاب التي يعاني منها المذنب والذي يظل يبحث عن إعادة الاعتبار ويهدد بالانتقام كرد فعل عن تأخر الصفح وفي المقابل تنتاب الضحية الذي تعرض للتعدي والإجرام مشاعر بالاهانة ويظل في حاجة إلى إنصاف ورد الاعتبار حتى يظل يحترم العدالة26[26].

يترتب عن هشاشة السياسي ضعف في مستوى الكلام السياسي وفقدانه إلى البرهنة المنطقية واشتغاله عن طريق المغالطة والحجاج والسفسطة والمجادلة ورغبته في الإرغام واستمالة الناس باللعب على العاطفة واصطدام الفعل السياسي بالتراجيدي الذي يظهر على مسرح التاريخ كقدر محتوم لا يمكن تغييره27[27]. أمام هذه الهشاشة المتعددة التي يعاني منها الفضاء السياسي يبدو تحمل المسؤولية الفردية والجماعية من أجل مواجهتها من الأمور الصعبة والتحديات الجسيمة التي تتجاوز اقتدار المواطنين والحكام على السواء.

لذلك تبدو مسؤولية المثقفين جسيمة في معالجة الهشاشة اللغوية للخطاب السياسي وتوضيح المصطلحات الغامضة وتقويم الخطابات المرتجلة وحملها إلى مستوى المفاهيم الدقيقة واستخلاص رهاناتها الأساسية وبيان الروابط الحاسمة بين الاختيارات السياسية للدولة والاختيارات التابعة للمجتمع المدني والصراع الناشب ضمن دوائر العدالة والتنافس بين المدائن والعوالم التي نسكنها على الأدوار والوظائف28[28]. لكن كيف يتم الانتقال من المستوى العنيف للمدائن المتصارعة إلى الأرضية التواصلية للعوالم المشتركة؟

اللحظة الثالثة: العوالم المشتركة بين حذر السياسي واستكمال المقصد الإيتيقي

” أن تكون موجودا في العالم يعني في العمق أن تكون منفتحا على الوجود ولكي تجد نفسك في ضياء الوجود” – مارتن هيدجر ، الوجود والزمان،

السؤال الذي يطرح هنا هو: ماهي الأشياء التي يعول عليها في المدائن المتنازعة لبناء عوالم مشتركة؟

المدينة هي تعدد محدود من النماذج القادرة على تأسيس اتفاق في حالات التقاضي وأنظمة فعل مبررة يسمح الانتماء إليها بانضواء الفاعلين إلى حقول من الأنشطة المتساوقة والتبادلات الضرورية29[29].

هناك مدائن مكتظة ومزدحمة ومليئة بالأنشطة والمشاكل والمخاطر ويصعب فيها العيش وهناك مدائن مهجورة ومتروكة وفارغة من كل حركة وتحولت إلى مقابر للحياة وهناك مدائن منظمة ومشيدة بطريقة عصرية ومتحضرة ومليئة بالحركة والإنتاج والوفرة والرخاء والناس فيها مقبلون على التمتع بالحياة. كما لا يجوز التكلم عن ضرورة الانتقال من المدائن المتصارعة إلى العوالم المشتركة إلا بعد استبدل التحليل الذي تؤمنه طيبولوجيا المواقع30[30] إلى الفهم الذي توفره فلسفة هرمينوطيقية سردية في مقصدها الإيتيقي. الأولى تقتصر على الكشف عن مواضع الصراع وأشكال الخلاف بين المدائن وصعوبة تجسير الهوة وتذليل الصعوبات التي تولد اللاّتفاهم بينما الثانية تبحث عن أسس الاتفاق وشروط إمكان التفاهم وتبني جسور التواصل وتصوغ نظرية التفاوض والتوافق وتتغلب على مواطن الهشاشة والضعف في المدائن.

الخروج من المدائن المغلقة المتزاحمة إلى العوالم المشتركة المفتوحة يقتضي استبدال نظرية في الصراع والتنازع غير المبرر بنظرية في التفاهم والاتفاق المفيد والتوقف عن الهدم والتحطيم وقبول لعبة الوجود معا والرضا بقواعد حسن الجوار وحسن الضيافة وإرادة الحياة المشتركة والانطلاق في البناء والتعمير.

إن القوانين هي المكون الأساسي للمدائن التي يتم احترامها من طرف المواطنين ولا معنى للقوانين خارج البوليس والخاصية المكونة للعالم هي العلائقية والارتباط والمعية التي تجمع بين الأفراد والجماعات31[31].

إذا كان النزاع على الحدود والبحث عن مشروعية داخلية من خلال التشبث بمؤسسات العظمة وفق مبادئ مثالية عليا هو الذي يتسبب في اندلاع الصراع بين المدائن فإن تحمل تراجيديا التاريخ يبدأ بعمل المكاشفة النقدية والاعتراف بالخطأ في حق الغير وطلب الصفح والاهتمام بالتبرير داخل العالم وفق قيمه ومبادئه.

إن التلاقي بين المدائن داخل العالم المشترك أمر ممكن وفق استراتيجية تواصلية مبنية على تقاسم المصير ضمن نظرة ايكولوجية تحترس من ما يتهدد مستقبل الحياة على الكوكب من مخاطر وتنذر بحلول الكارثة.

في هذا الإطار يتسلح الفاعل السياسي بالحذر والحيطة والتعقل والمداولة وجودة الروية في مستوى اختيار الوسائل الأنسب والأقل ضررا على الطبيعة والبيئة والمحيط والتي ترفق بالأغيار وتصون الحياة من كل تهديدات ومخاطر وتتبع منهجية متدرجة وسياسة مرحلية قصد بلوغ الأهداف المرتقبة والغايات المحتسبة.

يمكن للحاكم العادل أن يقوم بالتخطيط التعقلي للسوق الاجتماعي على المستوى الاقتصادي وان يتصرف في الحياة السياسية بشكل ديمقراطي بحيث يشجع على التعددية الحزبية ويصون التنوع والاختلاف ويقوي متانة الروابط الاجتماعية ويشيد إنسية تشاركية واعية بين الفاعلين المدنيين في الصعيد الثقافي والروحي.

من هنا يقترح ريكور التفكير في العلاقة بين الاقتصاد والسياسة ضمن ثلاثة حدود هي الأخلاق والإيتيقا والسياسة بدل الاكتفاء بالثنائيات القديمة: سواء أخلاق وسياسة أو إيتيقا وسياسة ويبرر ذلك بأن التمييز بين الأخلاق والإيتيقا لا يستمد مسوغاته من المستوى الشخصي وإنما من المستوى المؤسساتي السياسي32[32].

ينادي ريكور بأن يكون السياسي الوسط الذي يجد فيه المقصد الإيتيقي إكماله لأغراضه وانجازه لمهامه ويحدد السياسة بأنها تدفع الفرد لكي يحصل على السلطات التي يقدر عليها ويقتدر بها ضمن إطار الرغبة في الحياة الجيدة التي تحدد البعد الإيتيقي للفعل بينما يعتبر العدالة الفضيلة الأولى للمؤسسات التي تمارس فيها هذه القدرات وتتحقق ضمنها هذه الرغبات وذلك عندما يؤشر على المرور من الإيتيقي إلى الإلزام الأخلاقي وذلك من خلال التقيد بالجهاز المعياري والضوابط السلوكية للنسق الصوري للقيم التوجيهية ويبحث زيادة إلى ذلك وفق تمشي نقدي عن ضرورة ممارسة السلطة ضمن القواعد الإجرائية للعدالة.

إذا كان الأخلاقي يتحرك ضمن مدار الإلزام وإذا كان الإيتيقي يبحث عن الجيد وإذا كان الاقتصادي يوفر النافع فإن السياسي يفتش عن تسويغ قانوني لممارسة سيادية للسلطة بغية تطبيق القوانين والتدابير33[33].

على هذا الأساس ينبغي أن يكون الفاعل السياسي مسؤولا بالمعنى القانوني والأخلاقي على ما يحدث من جرائم وتعديات ويتحمل تبعات قراراته واختياراته والإجراءات التي اتخذها عند محاولته عقلنة المجتمع.

ينتبه ريكور إلى أن مفهوم المسؤولية تم استيعابه ضمن مفهوم العزو وتحمل تبعية الأفعال وضرورة جبر الإضرار والتعويض للضحايا وأنه آن الأوان لكي يقع التفكير فيه ضمن شروط إمكان جديدة ومختلفة34[34]

هكذا ترتبط مسؤولية السياسي باقتداره وعزويته ونسبة أفعاله اليه وحيازته على القدرة على اتخاذ القرار والحكمة العملية والحذر السياسي والاختيار التفضيلي والمداولة الحصيفة والتصميم على الانجاز والإتمام.

لكن المدينة الشمولية لا تمنح الفيلسوف فرصة للكلام ولا توفر له فرصا للفعل والمبادرة والتأثير واللقاء بالناس وتسطر له مجالات تحركه وترسم له حدود نفوذه وتحاصره وتصده إن قاوم وتمرد وثار عليها ولا مطمح له إلا السفر والاختلاء والهجرة من أجل بلوغ مدينة الحرية المفقودة والتشبث بالحلم اليوطوبي في الثورة والبحث عن سبل الخلاص واتخاذ مسافة نقدية من الواقع السائد والمرابطة في الأقاصي وملازمة الصمت الحكيم والاشتغال على إعداد البديل الحضاري وطي صفحات الجهل والخرافة والهمجية والظلم.

لكن هل تكفي إحالة السياسة على المقصد الإيتيقي لكي تصلح ما أفسده الاقتصاد الرأسمالي من هشاشة؟

اللحظة الرابعة: مسؤولية المجتمع الدولي والمقام الجديد للفيلسوف:

” أي مسؤولية اليوم في العالم الذي نعيش فيه؟”35[35]

تحميل الفيلسوف مسؤولية مآل الأحداث في عصره هو أقرب إلى الهزل منه إلى الجد ويقتضي التلاعب بالمسؤولية أكثر من التطرق إلى البحث في تاريخها عن تسويغ نظرا لحالة الإلقاء به في مدينة المهمشين واستحالة نسبة أفعاله وأقواله وأفكاره إليه من حيث وجوده في وضعية هشة ومحاصرته بالسلطة المقيدة.

بيد أن مهمة الفيلسوف لا تكمن في ممارسة الوعظ الأخلاقي والإرشاد التربوي ولا تقتصر على تقديم النصيحة بالمعنى الاجتماعي والاستشارة بالمعنى السياسي وتوفير المشروعية بالمعنى القانوني للحاكمين وإنما تتعدى كل ذلك إلى تعليم المواطن القيم المدنية والأنسنة الثقافية والتسامح الديني ويمكنه أن يصبح مهندسا معماريا للمدينة من حيث المساهمة في العقلنة والتنظيم والتحفيز والبناء المدني والتنضيد التقني.

من ناحية ثانية يظل الفيلسوف مطالب بالتفكير في أفق ثالث يوجد في خضم المواجهة بين المجتمع المدني والمجتمع الثالث ويلتصق بالفضاء العمومي ويسهل إبداع مؤسسات سياسية ضمن إطار مابعد وطني وفق رؤية اندماجية وحدوية مع الأقطار المجاورة على أساس الانتماء إلى المحيط الجيوسياسي وتقاسم فكرة الإنسانية التقدمية ويسهر على تغذية الخيال السياسي للمواطنين بجملة من التصرفات الإيتيقية والجمالية.

هذا المطلب لن يتحقق إلا من خلال إجراء تحويل في مفهوم السيادة وفق ديناميكية جديدة عابرة للحدود ومربكة للهوية الوطنية وللذهنية التقليدية التي تنتمي إلى سلوك سياسي حزبي ظل رهين مقولات تقليدية .

ان الخروج من منطقة الهشاشة ومجال النزاع والتراجيدي يشترط التزام الفيلسوف بنظام معياري وقيمي يضم مجموعة من النماذج الإدماجية التي تدفعه إلى تحمل المسؤوليات حول الانفتاح على المجتمع الدولي وتبادل الذاكرات بغية تصحيح السرديات وبلورة الضيافة بين الثقافات عبر توسط الصفح والرجاء والأمل.

يتم بناء العالم حسب أرندت بواسطة الفانين من أجل خلودهم المحتمل ولكنه يظل دائما مهددا من قبل الظروف المميتة التي تحيل الذين شيدوه والذين يولدون لكي يحيوا فيه إلى التقاعد والفناء36[36]. لذلك يبقى”العالم هو دائما صحراء في حاجة إلى أولئك الذين يبدؤون ليكون قادرا من جديد على الابتداء”37[37]

لا يتكون العالم المشترك من الذوات والمواضيع ولا يتوقف على الأبعاد الرمزية والأشياء المادية بل ثمرة فعل الجماعة ونتيجة تضافر الإرادات وتعاون الملكات وتقاطع الدوائر ويوجد في العتبات وعند بين بين.

العالم ليس مجال للتأويل والسرد فحسب وإنما هو كذلك مجال للتغيير وإعادة التشكيل وبالتالي لا يقتصر على تدبير الذوات ولا على التأثير في المواضيع بل يضم الحقول المشتركة لتخصيب المعنى والقيمة والأرضية العامة التي تتحرك ضمنها الإرادات لكي تقتدر على الفعل والتذكر والكلام والقص والوعد.

لا مفر أمام الفيلسوف من توقي مخاطر اللقاء بالغير والتخلص من ميراث العنف التأسيسي الذي تلوث به الضمير الإنساني وتسبب في أزمة في الوعي التاريخي سوى إعادة بناء مشروع الأنوار من خلال تبادل تجارب الذاكرة بين المدائن واعتماد نماذج الصفح واللاّعنف والتسامح والعدالة من منظور المحبة والهبة. ” فالمسؤولية ليست فقط مسؤولية عدد من المثقفين : الأكثر أهمية هي المسؤولية عند كل مواطن”38[38].

الأمر يتعلق بتحمل الفيلسوف مسؤولية التغيير الجذري في مقامethos الأفراد والمجموعات والدول والذهاب إلى ابعد من ثنائية الأنا والغير ضمن أفق مابعد مقولي يحوز على كثافة روحية وطاقة عالية.

بعد البناء السردي للهوية الخاصة يجدر انتزاع الاعتراف المتبادل من خلال تثمين البعد السردي للعوالم المشتركة عن طريق حركات الترجمة من حيث هي أفعال مثاقفة وتبادل الذكريات وممارسة الغفران. بهذا المعنى يولد المقام الجديد من الفهم المطبق على التعقيد في بعضه البعض للقصص الجديدة التي تهيكل وتشكل هذا التقاطع بين الذكريات. لا يتخلى المقام الجديد عن الإحداثيات التاريخية الهامة وما رافقها من عنف تأسيسي وإنما يبذل جهدا تأويليا من أجل الانخراط في قراءات متعددة للتاريخ والذاكرة39[39].

بعد ذلك يجدر المعالجة من مرض التقاليد وجراحات الذاكرة الجمعية والاهانات التي خدشت الكرامة البشرية والشفاء من الإفراط في الإيديولوجيا والتفريط في اليوتوبيا ونفي عنف الحدث التأسيسي وإطلاق العنان للفاعلية النقدية للحاضر وتحطيم الأوهام المتعلقة بالوضع وتفكيك الاغتراب واستشراف المستقبل.

غني عن البيان أن استكمال المشروع الأنواري بالنسبة للحضارة الكونية لن يتحقق إلا بتغلب الذاكرة على النسيان ونبذ التمركز العرقي للثقافة الغربية التي تزعم الانطلاق البدئي من الإغريق والرومان واللاّتينين وإحراز التحديث من خلال الانتصار في المعركة مع الكهونت وتكريس النموذج العلموي التقنوي كمعاير للتمدن وإقصاء البعد الرمزي والروحاني والاعتراف بمساهمة كل الثقافات الشرقية والإفريقية والآسيوية وخاصة العلوم والفنون والآداب العربية والإسلامية في قيام حداثات متعددة للعالم المشترك40[40]. اللافت أن مسؤولية الفيلسوف في العالم المشترك ضمن الجماعة التاريخية الناطقة بلغة الضاد تتمحور حول استئناف المشروع الأنواري ضمن مقاربة تأصيلية حداثية تسعى إلى إعادة تملك التراث ضمن رؤية تأويلية ايتيقية تراوح بين النقد والتواصل وتعتمد المضيافية والمسلكية العبرمنهاجية والعقلانية المركبة.

من المفروض أن يتم التذكر السردي للتجارب الحضارية المشتركة الحاصل فيها تثاقف وترجمة واستفادة بين الشعوب وحوار بين المذاهب وتلاقي بين الأديان في الأندلس وصقلية والشام وبيت المقدس حيث يجب أن نمارس النسيان العلاجي للا

أحدث المقالات

أحدث المقالات